منبج هي المدخل الرئيسي إلى شرق سوريا بالنسبة للأسد

منبج هي المدخل الرئيسي إلى شرق سوريا بالنسبة للأسد

أدى الهجوم الإرهابي الذي أودى بحياة أربعة أمريكيين في منبج في 16 في كانون الثاني/يناير إلى تسليط الضوء على هذه المنطقة الحيوية في شمال وسط سوريا، حيث تمركزت القوات الأمريكية والفرنسية لمنع هجوم تركي ضد «قوات سوريا الديمقراطية» التي يقودها الأكراد. ولكن بحلول نهاية الشهر، كانت القوات الروسية و«قوات سوريا الديمقراطية» تقوم بدوريات مشتركة في بعض الطرق المحلية التي تستخدمها عادة قوات التحالف الدولية. فهل هذه تدابير تمهيدية لعودة نظام الأسد؟

منذ أن أعلنت إدارة ترامب أنها ستسحب جميع القوات الأمريكية من سوريا، أصبحت الحدود الشمالية للبلاد موضِع مساومة رئيسي بين روسيا وتركيا وإيران. ووفقاً لبعض التقارير، تتوق أنقرة إلى الاستيلاء على منبج، لكن يبدو أن موسكو تعارض بشدة هذه النتيجة. وبينما تجري مفاوضات صعبة داخل جلسات مغلقة، لمن المفيد إلقاء نظرة فاحصة على الجغرافيا والديناميكيات المحيطة بمنبج من أجل التوصل إلى فهم أفضل لما يمكن أن يحدث.

منطقة قبلية عربية مع أقلية كردية

تبلغ مساحة منبج والريف المحيط بها 500 ميلاً مربعاً (حوالي 1295 كيلومتراً مربعاً) وتضم حالياً حوالي 450 ألف نسمة، 80 في المائة منهم من العرب السنة. ولا يمثل الأكراد سوى 15 في المائة من السكان، رغم هيمنة القوات التي يقودها الأكراد في المنطقة. أما النسبة الباقية وهي 5 في المائة فتتكون من أقليات تركمانية وشركسية. كما تسود خصائص ديموغرافية مماثلة في مدينة منبج، التي كانت تضم 120 ألف نسمة في عام 2011، بينما ازداد عدد سكانها إلى 200 ألف مع تدفق النازحين داخلياً، ومعظمهم من العرب السنة من محافظة حلب.

ويختلط الأكراد في مدينة منبج بشكل عام مع السكان العرب. وفي الريف، يمكن للمرء أن يجد جيباً كردياً كبيراً واحداً يحيط بقرية عسلية شمال غرب منبج، ولكن الجزء الأكبر من الأكراد يتوزع في قرى صغيرة بين القرى ذات الأغلبية العربية. وباختصار، وعلى عكس كوباني وبعض الأجزاء الأخرى من شمال سوريا، لا تشكّل منبج معقلاً كردياً لـ «وحدات حماية الشعب» – الجماعة المسلحة الكردية التي ترأس «قوات سوريا الديمقراطية» المختلطة عرقياً.

ويُعتبر التنظيم القبلي العربي قوياً في منطقة منبج، بما في ذلك في المدينة نفسها، حيث تتمتع غالبية الأحياء بهوية قبلية. وفي هذا الصدد، تحتل أربع قبائل رئيسية المنطقة، وهي وفقاً للترتيب العددي: البوبنا، والغنايم، والبو سلطان، والهنادى. وتنقسم كل من هذه القبائل بدورها إلى عشائر تضم عشرات الآلاف من الأعضاء.

وأقوى عشيرة هي “الماشي”، التي تهيمن على “البوبنا” – أكبر القبائل في المنطقة. ويترأس محمد خير الماشي قبيلة البوبنا، وهو عضو في البرلمان السوري، ورئيس لجنة منبج القبلية، التي تشكلت في كانون الثاني/يناير 2018 لمنافسة “مجلس منبج المدني”، الذي يعتبر دمية في أيدي «وحدات حماية الشعب». ومع ذلك، يشترك أحد أقاربه، فاروق الماشي، في رئاسة المجلس التشريعي التابع لـ “مجلس منبج المدني”، وبالتالي فهو يعمل بشكل وثيق مع «وحدات حماية الشعب». ويشكّل الاختلاف سمة من سمات السياسة القبلية في معظم أنحاء سوريا.

وبالمثل، أظهرت علاقة عشيرة الماشي بالنظام أوجه غموض مماثلة، غالباً ما كانت تتغيّر مع تقلبات الحرب. فقد سعت ميليشياتها إلى قمع الانتفاضة ضد بشار الأسد في عام 2011، لكن عندما غادرت قوات النظام منبج بعد ذلك بعام، انضمت إلى «الجيش السوري الحر» المتمرّد، واتخذت من «جند الحرمين» اسماً لها. ولاحقاً، انضمت الميليشيا رسمياً إلى «قوات سوريا الديمقراطية». لكن في الآونة الأخيرة، عادت العشيرة لتصبح قريبة من النظام علناً. على سبيل المثال، عندما حضر زعيمها مؤتمر سوتشي للسلام في كانون الثاني/يناير 2018، ذهب بصفته فرداً من “الوفد الحكومي”.

أمّا الغنايم فهي القبيلة الثانية الأبرز في المنطقة. وقد قادتها عشيرة شلاش في معظم أوقات الحرب، لكن حظوظ العائلة كانت تتراجع في السنوات الأخيرة. فقد كان زعيم العشيرة إبراهيم شلاش عضواً في المجلس التنفيذي لـ “مجلس منبج المدني” عندما اغتيل في تموز/يوليو عام 2017، مع إعلان تنظيم «الدولة الإسلامية» مسؤوليته عن عملية الاغتيال. وقد كان ذلك الحادث مشابهاً لمصير عمر علوش، عضو لجنة المصالحة في الرقة الذي قُتل في آذار/مارس الماضي، بسبب قربه الكبير من السلطات الكردية كما زُعم. ويشك بعض السكان المحليين في أن تركيا، أو نظام الأسد، أو عناصر أخرى يمكن أن تكون مسؤولة عن كلا الاغتيالين، لكن لم تظهر أدلة قوية تدعم مثل هذه المزاعم.

وأياً كان الحال، فقد سعت عشيرة أخرى للاستفادة من ضعف عشيرة شلاش منذ عملية الاغتيال التي حصلت عام 2017. إذ تأمل بني سعيد في تحرير نفسها من هيمنة شلاش بالادعاء أنها تشكل قبيلة في حد ذاتها وليس مجرد عشيرة. وقد تنوي أيضاً تعزيز معارضتها لـ “مجلس منبج المدني” كطريقة لتحدي قيادة شلاش.

أما بالنسبة إلى قبيلتي الهنادى والبو سلطان، فكلتاهما تتبعان قيادة محمد خير الماشي في معارضة “مجلس منبج المدني”. وتجدر الإشارة إلى أن البو سلطان هي في نزاع على الأراضي مع الأكراد على الضفة الشرقية لنهر الفرات، مما يعطيها سبباً آخر للوقوف بوجه “مجلس منبج المدني”.

الشعور المناهض لـ «وحدات حماية الشعب» يؤجج وجهات النظر المؤيدة للنظام

بشكل عام، يبدو أن المشاعر العربية المحلية في منطقة منبج تفضّل انسحاب «وحدات حماية الشعب» وعودة سيطرة النظام. ويستند هذا الاستنتاج المبدئي على المقابلات التي أجراها الكاتب مع الكثير من العرب من مختلف الطبقات الاجتماعية والقبائل خلال العام الماضي، سواء وجهاً لوجه أو عبر الهاتف. ويشار إلى أن تلك الاستنتاجات هي حتماً تخمينية نظراً لعدم وجود بيانات اقتراع دقيقة في شمال سوريا، ناهيك عن ميل المواقف المحلية إلى التغيير وفقاً للظروف السائدة على أرض الواقع. ومع ذلك، ما زالت التقارير السردية تنطوي على قيمة كبيرة لأولئك الذين يهدفون إلى التنبؤ بمستقبل منبج على المدى القريب.

حتى الآونة الأخيرة، توقعت أقلية من الأشخاص الذين أجريتُ معهم مقابلات، إقامة منطقة حكم ذاتي في الشمال بدعم من قوات الدول الغربية. إلا أنه بعد إعلان الانسحاب الأمريكي [من سوريا]، فقد هؤلاء الأشخاص الأمل إلى حد كبير في تلك النتيجة وانضموا إلى الأغلبية التي تفضل عودة النظام. ومن المؤكد أن بعض السكان العرب المحليين هم أكثر تردداً في هذا الشأن، ولا سيما الشباب الذين قد يخضعون للتجنيد الإجباري الذي يفرضه النظام، والناشطين الذين شاركوا في انتفاضة 2011-2012 – وأبرزهم إبراهيم قفطان، رئيس المجلس التنفيذي التابع لـ “مجلس منبج المدني”. لكن يبدو أن هؤلاء الأفراد هم الأقلية.

أما بالنسبة للسكان الأكراد المحليين، فهم يميلون إلى تجنب الإعلان عن رأيهم لأنهم اعتادوا العيش كأقلية في منبج ويبدو أنهم يريدون الاستمرار على هذا النحو. وإذا ما دُمجوا عن طريق الصدفة في «وحدات حماية الشعب»، من المحتمل أن يكونوا ملزمين بمتابعتها إذا ما انسحبت. لذلك، ينبغي التمييز بين هؤلاء السكان وبين القادة الأكراد الذين يسيطرون على منبج، حيث يأتي معظمهم من مناطق أخرى في شمال سوريا (على سبيل المثال ، كوباني أو القامشلي).

إن هذه الديناميكية الواضحة – الشعور المعادي لـ «وحدات حماية الشعب» وللأكراد الذي يدفع العرب المحليين لتفضيل عودة النظام – تشبه تلك التي شوهدت في منطقة تل أبيض الحدودية الشمالية. فالوضع الاقتصادي في منبج ليس أسوأ حالاً بكثير من الأجزاء التي يسيطر عليها النظام في البلاد، ولكن الخدمات العامة أكثر رداءة، حيث يشكو الكثير من السكان المحليين من النظم التعليمية والصحية بشكل خاص. كما يشعر سكان منبج بخيبة أمل كبيرة بسبب عدم وجود مساعدات إنسانية آتية من الغرب.

أما بالنسبة للجماعات البديلة لسيطرة النظام غير المنتمية لـ «وحدات حماية الشعب»، فيَنظر إليها عدد كبير من السكان المحليين بتشكك كبير. فقد رُفض خيار الحماية التركية على نطاق واسع لأن سكان منبج تلقوا معلومات خاطئة حول الوضع الأمني والاقتصادي في المناطق الأخرى التي تم فيها تنفيذ هذا النموذج (على سبيل المثال ، جرابلس والباب). أما احتمال عودة «الجيش السوري الحر» تحت راية «الجيش الوطني السوري» الذي تم تأسيسه في تركيا فلا يُطمئنهم هو الآخر. وقد وصف الكثير من الأشخاص الذين أجرى معهم الكاتب مقابلات، الفترة السابقة من سيطرة «الجيش السوري الحر» على منبج بأنها فترة من الفوضى، والابتزاز، والاختطاف، وغيرها من العلل.

الأسد يحتاج إلى منبج

بعد أيام قليلة من إعلان الرئيس ترامب الانسحاب من سوريا في كانون الأول/ديسمبر، تم رفع العلم الوطني السوري في ضواحي منبج، مما يعكس على ما يبدو الوجود القوي للمسلحين الموالين للنظام في المنطقة وعلاقاتهم مع القبائل المحلية. وفي الواقع، يبقى ولاء المقاتلين العرب في «قوات سوريا الديمقراطية» لقبائلهم، وليس لقادة «وحدات حماية الشعب» أو “مجلس منبج المدني”. فلن يقاتلوا الجيش السوري أو التركي لإبقاء منبج في أيدي الأكراد. وبمجرد انسحاب قوات التحالف الدولية، يجب أن تكون قوات الأسد قادرة على إعادة احتلال المنطقة بسهولة. ويقيناً، أن الولايات المتحدة قد تبقى ملتزمة بقرارها بتسليم السلطة إلى تركيا، لكن الدوريات الأخيرة المشتركة لـ «قوات سوريا الديمقراطية» والقوات الروسية في شمال منبج تشير إلى أن هذا الخيار قد عفا عليه الزمن – فقد ترغب موسكو الآن أن تكون منبج تحت سيطرة الأسد، وليس أنقرة.

إنّ هذه النتيجة حيوية بالنسبة للأسد، الذي يجب أن يثبت لأعيان المنطقة الذين يدعمونه أنه قادر على الوفاء بالتزاماته. وهذا بدوره سيرسل إشارة قوية لزعماء القبائل والسكان العرب شرق نهر الفرات الذين ما زالوا مترددين في التعهد بالولاء له. وفي المقابل، سيكون الاحتلال التركي لمدينة منبج بمثابة إهانة كبيرة له، مما يحفز القبائل على الأرجح على الانتظار لكي تخلصهم أنقرة من هيمنة «وحدات حماية الشعب» بدلاً من ذلك. ولهذا السبب أرسلت روسيا قوات إلى منبج وعارضت بشدة الهجوم التركي هناك، بخلاف دعمها للتدخل التركي السابق في عفرين.

معهد واشنطن