الانتخابات البرلمانية التركية: النتائج والتداعيات

الانتخابات البرلمانية التركية: النتائج والتداعيات

Capture

مقدمة

أجريت الانتخابات البرلمانية التركية في السابع من حزيران/ يونيو 2015، في ظل توقعات متفاوتة داخل تركيا وخارجها حول ما ستسفر عنه من تغيرات في السياسة التركية. وتتناول هذه الورقة نتائج الانتخابات التي غيّرت المشهد السياسي السائد منذ عام 2002 وحرمت حزب العدالة والتنمية من تشكيل الحكومة منفردًا، واضطرته للعمل على تشكيل ائتلافٍ حكومي، وتسعى لتوضيح أسباب تراجع التصويت لمصلحة حزب العدالة والتنمية، والسيناريوهات المحتملة لتشكيل الحكومة، بالإضافة إلى تداعيات هذه النتائج على المستويين الداخلي والخارجي للجمهورية التركية.
نتائج الانتخابات البرلمانية التركية ودلالاتها

يبدو فهم النظام الانتخابي التركي مهمًا لإدراك دلالات نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة؛ إذ يبلغ إجمالي عدد أعضاء البرلمان 550 عضوًا يمثلون 85 دائرةً انتخابيةً في 81 محافظةً تركيةً. ووفقًا لهذا النظام، يتعيّن على كل حزبٍ أن يجتاز العتبة الانتخابية (10% من أصوات الناخبين) حتى يتمكّن من الفوز بمقاعد البرلمان. وإذا لم يحقّق هذه النسبة، يجري توزيع الأصوات التي حصل عليها على الأحزاب الفائزة وفقًا لنسبة الأصوات التي حصل عليها كل حزب. ويقوم الحزب الفائز بأغلبية الأصوات بتشكيل الحكومة. كما يمكن تعديل الدستور بأكثرية ثلثي أعضاء البرلمان على الأقل.

لقد أسفرت نتائج الانتخابات البرلمانية لعام 2015 عن نتيجتين مهمتين: أولاهما تجاوز حزب الشعوب الديمقراطي “الكردي”، الذي يشارك لأول مرة بقائمة حزبية، عتبة الـ 10%؛ إذ حصل على نحو 13%؛ ما يعني حصوله على 80 مقعدًا في البرلمان. وثانيتهما تراجع التصويت لمصلحة حزب العدالة والتنمية، وخسارته الأغلبية المطلقة التي تمتّع بها منذ الانتخابات البرلمانية لعام 2002. وعلى الرغم من تقدّم حزب العدالة والتنمية وحصوله على نحو 41% من الأصوات وعلى 258 مقعدًا، فإنه لم ينجح في الحصول على الأغلبية التي تمكّنه من تشكيل الحكومة وحده؛ إذ يتطلب ذلك الحصول على 276 مقعدًا. أما الحزبان الآخران فهما حزب الشعب الجمهوري وحزب الحركة القومية اللذان حصلا على 25% (132 مقعدًا)، و16.5% (80 مقعدًا) على التوالي. فيما حصلت بقية الأحزاب والمستقلين على 5% فقط من إجمالي أصوات الناخبين، وبهذا لم تستطع هذه الأحزاب دخول البرلمان.

ومع أنّ حزب العدالة والتنمية حقّق منذ تأسيسه انتصارات متتالية في عشرة استحقاقات انتخابية محلية وبرلمانية ورئاسية، فضلًا عن استفتاءين شعبيين على تعديلات دستورية، واستطاع تشكيل الحكومات وحده منذ عام 2002، فإنه لم يعد قادرًا وفق نتائج الانتخابات الأخيرة على الحكم وحده، وإنما مع شركاء قد تكون لهم أجندة مختلفة عن برنامج الحزب وسياساته. ومع ذلك، فإنّ وصف هذا التراجع بأنه هزيمة، كما ذهبت إلى ذلك مواقف كثير من الشخصيات الحزبية والإعلامية المناوئة للحزب، يبدو غير صحيح؛ فالحزب تراجع، ولكنه لا يزال الحزب الأكبر بفارق مهم، وهو المكلف بتشكيل حكومة ائتلافية. ولا يزال بإمكان حزب العدالة والتنمية تدارك هذا التراجع في أول انتخابات قادمة؛ فعلى الأرجح أنّ الناخب التركي أراد إعطاء درسٍ لهذا الحزب الذي يحكم البلاد منذ فترة طويلة، وأن يحذّره من تراكم الأخطاء ومن أنّ تأييده ليس مطلقًا وإنما هو مشروط بالإنجازات التي وعد بها ناخبيه، وبالتزامه قواعد اللعبة الديمقراطية.
أسباب تراجع التأييد لحزب العدالة والتنمية

أدى التحوّل الأساسي المتمثل بعدم قدرة حزب العدالة والتنمية على تشكيل الحكومة وحده إلى ظهور تحليلات كثيرة تسعى لتفسير هذا التراجع وفهم أسبابه؛ نظرًا لتأثير ذلك في البيئتين الداخلية والخارجية. ويبدو أنّ ثمة أسبابًا ترتبط بالحزب نفسه، وأخرى لا علاقة له ولا لسياساته بها، ومنها:

دخول حزب الشعوب الديمقراطي الانتخابات بالقائمة الحزبية بدلًا من المرشحين المستقلين كما كان يحدث في السابق، ما مكّنه من اجتياز عتبة الـ 10%، وحصل الحزب على تأييد أحزابٍ أخرى وأصواتها وليس أصوات الأكراد فحسب، كما قدّمت جماعة فتح الله غولن دعمًا إعلاميًا كبيرًا له انتقامًا من حزب العدالة والتنمية.ساهم حزب العدالة والتنمية من دون قصدٍ في نيل حزب الشعوب الديمقراطي هذه النسبة العالية من الأصوات بسبب إستراتيجيته الخاطئة في الحملة الانتخابية؛ فقد جرى التركيز على نقد حزب الشعوب الديمقراطي وزعيمه صلاح الدين دميرتاش، بدلًا من التركيز على الحزب المعارض الأكبر؛ أي حزب الشعب الجمهوري. وقد جاءت النتائج عكسية؛ إذ أدى ذلك إلى رد فعل لدى الأكراد، بعد لفت الأنظار نحو حزب الشعوب الديمقراطي ووضعه في المركز.تراجُع وتيرة نمو الاقتصاد التركي في السنتين الأخيرتين؛ إذ سجلت تركيا في العام المنصرم نسبة نموٍ تقدّر بـ 2.8% فقط. وتعدّ هذه النسبة منخفضة مقارنةً بنسب النمو المرتفعة في السنوات الماضية. كما شهدت البلاد مؤخرًا ارتفاعًا ملحوظًا في أسعار المواد الأساسية وانخفاضًا في سعر صرف الليرة التركية. وقد انعكست أحداث عديدة شهدتها البلاد خلال الفترة الأخيرة بشكل سلبي على الاقتصاد ونموه؛ ومنها أحداث “غزي بارك” التي اندلعت في منتصف عام 2013، والصراع الدائر بين الحكومة وحزب العدالة والتنمية من جهة، وبين جماعة فتح الله غولن من جهة أخرى، وهي الجماعة التي كانت تمتلك نفوذًا كبيرًا داخل مؤسسات الدولة وشنت حملةَ تشويهٍ وأثارت تهمَ فسادٍ ضد الحزب.التغييرات الجذرية التي طالت بنية حزب العدالة والتنمية إثر انتخاب رجب طيب أردوغان رئيسًا للجمهورية، وانتخاب أحمد داود أوغلو رئيسًا للحزب والحكومة، وخروج ما يقرب من سبعين نائبًا من قادة الحزب الكبار من التنافس الانتخابي بموجب القواعد الحاكمة لعمل الحزب التي تمنع ترشّح النائب نفسه لأكثر من ثلاث دورات برلمانية، بالإضافة إلى بعض الخلافات الداخلية التي كان لها أثر في الأداء الانتخابي السلبي للحزب، وعدم التوافق على اختيار أنسب المرشحين.نزول رئيس الجمهورية إلى الميادين أثناء الانتخابات، ودعوته الناخبين إلى التصويت لتغيير الدستور وإقامة نظام رئاسي بدلًا من النظام البرلماني. وقد أثار ذلك حفيظة بعض الناخبين، وحتى بعض أنصار حزب العدالة والتنمية؛ إذ يبدو أنّ الشعب التركي لا يرى في تغيير شكل النظام أولويةً بالنسبة له، ولا يقبل بوجود رأسين للسلطة التنفيذية، فقد أدى ظهور أردوغان المكثف إلى إظهار رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو في موقعٍ أضعف. وبطريقة ما، تحوّلت معركة الانتخابات الرئيسة إلى موضوع النظام الرئاسي؛ والذي عبّر الجمهور عن رفضه لهذا التحول.
سيناريوهات تشكيل الحكومة

أما السيناريوهات المحتملة لتشكيل الحكومة المقبلة في ضوء ما أسفرت عنه نتائج الانتخابات البرلمانية، فعلى الأغلب أن يكلّف رئيس الجمهورية زعيم الحزب الأكبر تمثيلاً في البرلمان، أحمد داود أوغلو، بتشكيل الحكومة الثالثة والستين خلال فترة لا تتجاوز 45 يومًا. وإجمالًا، تتلخص سيناريوهات تشكيل الحكومة في الآتي:

السيناريو الأول: يمكن لحزب العدالة والتنمية المتقدّم في الانتخابات تشكيل حكومة ائتلافية مع أحد الأحزاب الأخرى، أو تشكيل حكومة أقلية بدعم أفراد مستقلين.

السيناريو الثاني: في حال عدم تمكّن حزب العدالة والتنمية من تشكيل الحكومة، فسوف تنتقل المهمة إلى الأحزاب الأخرى؛ إذ بإمكان تلك الأحزاب تشكيل حكومة ائتلافية، لكنّ هذا الاحتمال يبقى ضعيفًا نظرًا لتباعد مواقف هذه الأحزاب السياسية واختلاف توجهاتها؛ فمعارضة هذه الأحزاب لحزب العدالة والتنمية لا يعني وجود توافقٍ في ما بينها.

السيناريو الثالث: في حال تعثّر تشكيل حكومة، يدعو الرئيس إلى انتخابات برلمانية مبكرة كما ينص على ذلك الدستور التركي.
تداعيات نتائج الانتخابات على السياسة التركية داخليًا وخارجيًا

اتسمت السياسات الداخلية والخارجية بالثبات والوضوح طوال السنوات التي حكم فيها حزب العدالة والتنمية، لكن من شأن نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة أن تحدث تحولًا في تركيبة الحكومة التركية المرتقبة التي زادت المشاركة فيها، مما يثير تكهنات حول التداعيات المحتملة لهذه النتائج على السياسات الداخلية والخارجية. ويمكن إجمال أهم هذه التداعيات بما يلي:

التداعيات على السياسة الداخلية

يبدو أنّ الشعب التركي أظهر لحزب العدالة والتنمية “البطاقة الصفراء”؛ أي أنه يرغب في وجود الحزب في الحكومة بشرط قيامه بمراجعةٍ لبعض السياسات. فقد رفض الشعب ما طرحه الحزب بشأن تغيير الدستور وإقرار النظام الرئاسي على أنهما أولوية البلاد؛ إذ يبدو أنّ أولويات الشعب التركي ليست النظام الرئاسي، بل الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي، واستمرار النمو الاقتصادي.سوف يفَسَّر إجبار حزب العدالة والتنمية على تشكيل الحكومة مع أحد الأحزاب المعارضة على أنه رفض الشعب التركي لسياسات الاستقطاب، ورغبة في وجود سياسات توافقية.في حال تشكيل حزب العدالة والتنمية للحكومة المقبلة، فالأرجح أن تواصل هذه الحكومة المشاريع التنموية الضخمة من دون تغيير كبير في السياسات الداخلية، وستتوجه حكومة الائتلاف إلى سياسات توافقية بدلًا من سياسات المواجهة.

التداعيات على السياسة الخارجية

  1. نظرًا للطبيعة الائتلافية للحكومة القادمة، فسوف تجري مراعاة توجهات الأحزاب المشاركة في الحكومة، ومن ثمّ ستكون السياسة الخارجية أكثر توافقية، وأكثر اعتدالًا، وأقل حدة مما كانت عليه. كما أنّ تأثير رئيس الجمهورية في تحديد سياسات البلاد سيكون أقل مما كان عليه قبل الانتخابات.
  2. يعدّ الملف السوري الأكثر تعقيدًا بالنسبة للسياسة الخارجية التركية، إذ إنّ جميع أحزاب المعارضة تنتقد سياسات حكومة حزب العدالة والتنمية بشأنه. لكنّ هذه الأحزاب تدرك أنه لا يمكن لأي حكومة تركية أن تتخلى عن التزاماتها تجاه الشعب السوري، وإن جرت محاولات للتقليل من التداعيات السلبية للأزمة السورية على الوضعين الاجتماعي والاقتصادي في البلاد.
  3. أما علاقات تركيا مع دول الجوار الأخرى مثل إيران والعراق فلن تطرأ عليها تغييرات كبيرة على الأرجح، وسيغلب عليها طابع التعاون على الرغم من وجود اختلافات بشأن بعض القضايا في المنطقة.
  4. تتسم علاقات حكومة حزب العدالة والتنمية السابقة مع دول الخليج العربية بأنها متطورة ما عدا دولة الإمارات العربية المتحدة، بسبب وجود اختلاف في المواقف حول بعض القضايا مثل الموقف من الحركات الإسلامية المعتدلة كجماعة الإخوان المسلمين. وبصفة عامة، يبدو أنّ العلاقات التركية مع دول الخليج العربية سوف تستمر في التطور.

خاتمة

بعد إعلان نتائج انتخابات السابع من حزيران/ يونيو 2015، دخلت تركيا في فترة من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي التي قد تمتد شهورًا معدودة أو تطول لسنوات، وذلك بعد أن كانت قد شهدت فترةً من الاستقرار في ظل حكم حزب العدالة والتنمية منذ عام 2002؛ إذ سجلت البلاد خلال هذه الفترة طفرةً في التنمية السياسية والاقتصادية، وانعكست على الحياة المعيشية للمواطنين بشكل مباشر.

وعلى الرغم من دخول تركيا مرحلةً من عدم الوضوح بعد الانتخابات، فإنّ نتائجها شكلت نصرًا كبيرًا للديمقراطية التركية، خاصة بعد أن تمكنت سياسة حزب العدالة والتنمية، ثم الانتخابات الأخيرة، من استيعاب الأكراد في النظام السياسي كمواطنين أتراك لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الالتزامات. كما أنّ نتائج الانتخابات شكلت ردًا مباشرًا على أي محاولة لإعادة انتاج نظام سياسي مطلق السلطات؛ فأعادت بذلك توضيح الحدود الديمقراطية التي يجب على أي سياسي مهما علا شأنه أن يلتزمها ويخضع لها.

المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات