دكتاتور أم زعيم قومي.. ماذا تعرف عن “المسيح الأسود” هيلي سلاسي؟

دكتاتور أم زعيم قومي.. ماذا تعرف عن “المسيح الأسود” هيلي سلاسي؟

“إن تحرير النظام السياسي في مجتمع يعاني من الاستقطاب العرقي أمر محفوف بالمخاطر، ذلك لأنّ حريات التعبير التي يكفلها الانفتاح يمكن أن تتحوّل بسهولة إلى ساحات ومحاكم تفتيش انتقائية لمجموعات عرقية معيّنة بقصد استهدافها وإظهار المظالم المكبوتة”.[1] في ذلك المقال وجّه مؤلفاه الدعوة لرئيس الوزراء الإثيوبي الجديد أن يكون حصيفا في إدارة التحوّل السياسي الجاري في بلاده بما يضمن تجنيبها مخاطر التفكك كما جرى في يوغسلافيا السابقة.

لكن الإدارة الجديدة فيما يبدو لم تأخذ بهذه النصيحة، فقد طالعنا في الأخبار في الأيام الماضية قيام رئيس الوزراء الإثيوبي ومجموعة من القادة الأفارقة، المشاركين في أعمال القمة الـ 30 للاتحاد الأفريقي، بتدشين نصب تذكاري للإمبراطور هَيْلي سِلَاسي (زعيم إثيوبيا في الفترة من 1930 إلى 1974) أمام مقر الاتحاد الأفريقي في أديس أبابا. وقد سبقت هذا التدشين محاولات كثيرة تروم إحياء أمجاد ملوك إثيوبيا السابقين، خصوصا إرث الإمبراطور هَيْلي سِلَاسي وتصويره كقائد عظيم يمثّل عموم أفريقيا.

بيد أن المشكلة التي تُواجه هذه الاستعادة هو أن إرث هؤلاء الملوك وفي مقدمتهم هيلي سلاسي لا يحظى بالقبول من جميع الأعراق في إثيوبيا، فهناك من يعتبره “مصدرا لاضطهادهم ومعاناتهم”، وبالتالي فإن محاولة “استدعاء ذكرى تلك الشخصيات لا تعتبر مجرد إهانة فحسب لأولئك الذين لا يتفقون مع هذا التفسير للتاريخ، إذ تستدعي إلى ذاكرتهم إرثا بغيضا لأولئك الملوك يرتبط بمجازر ومجاعات وسنوات من الاستبداد. فبدلا من هذه الكتابة الانتقائية للتاريخ التي تُثير نغمة الأعراق، يقترح كاتب المقال الحالي، الدكتور يوهنّس ولدماريام، أن تعمل الحكومة الجديدة في اتجاه دفع مكونات المجتمع الإثيوبي للعمل معا في المستقبل من أجل بناء “نوع من التوافق على عقد اجتماعي جديد يحترم التعددية والتنوع في البلاد”.

نص الترجمة

في العام 1975 لقي الإمبراطور هَيْلي سِلَاسي (الذي حكم إثيوبيا في الفترة 1930 إلى 1974)[2] حتفه، تاركا خلفه سيرة خلّدها نجوم الغناء في كلمات عاطفية، حيث تغنى بها نجم الريغي الجمايكي الراحل بوب مارلي، ونجم البوب الإثيوبي تيدروس كاساهون؛ الشهير بـ “تيدي أفرو”. غير أن تلك السيرة لا تزال محل خلاف ومادة لطائفة واسعة من الآراء حول الرجل الذي اتخذ لنفسه لقبا رسميا له دلالته، فقد كان يُعرف بـ “صاحب الجلالة الإمبراطور هَيلي سِلَاسي الأول، الأسد القاهر من سبط يهوذا، ملك الملوك المختار من الله”. وهكذا يتذكره البعض بوصفه حاكما خيّرا قاوم الاستعمار الإيطالي، وبعضهم يعتبره إلها، فيما يراه آخرون مجرد حاكم طاغية.

الجدير بالإشارة هنا أن وصف بوب مارلي لهيلا سيلاسي جاء متأثرا بدرجة كبيرة بالمعتقدات “الراستافارية”[3] التي تؤمن بتحقق عقيدة تجسد الرّب في شخص هَيْلي سِلَاسي، كما تنبأ بذلك -حسبما يزعمون- الزعيم الكاريبي ماركوس غارفي. أمّا المغني الإثيوبي تيدي أفرو، فهو يستدعي سيرة هيلي سِلَاسي من أجل الترويج لمشروعه الذي يسميه “الإثيوباوية”.

من أين استمد هيلي سِلَاسي مشروعيته الدينية والسياسية؟
بنى هيلي سِلَاسي مشروعيته السياسية على كتاب “أمجاد الملوك” أو “كبرا نجست” باللغة الأمهرية، وهو بالأساس عبارة عن نصوص ملحمية قديمة تروي العلاقة التي جرت بين الملك سليمان والملكة شيبا (سبأ)[4] وقصة ابنهم، منيليك الأول الذي زعم أنه أخفى التابوت/الهيكل في مملكته. وعلى غرار منيليك الثاني (1889-1913)، ادّعى هَيْلي سِلَاسي الانتساب إلى هذه السلالة السلمانيّة (نسبة للنبي سليمان) في توطيد دعائم حكمه. والشاهد في الأمر هنا أن الملوك والأباطرة الإثيوبيين اعتمدوا في غزوهم للأراضي واسترقاق المجموعات العرقية الأخرى على استلهام عقيدة الانتساب للأسرة السليمانية. بهذا المعنى، فإن تأثير كتاب “أمجاد الملوك” يضاهي إلى حدٍّ كبير ما فعلته عقيدة “القدر المحتوم”[5] في أميركا، بوصفها أيدولوجية مكّنت للأمريكان البيض دافع التوسع في القرن التاسع عشر.

بالنسبة للذين تلقوا معارفهم عن هَيلي سِلَاسي عبر موسيقى الريغي وتيدي أفرو، ربما يكونون قد أخذوا انطباعا يصوّر الإمبراطور على أنه حاكم أبوي خيّر ومنافح عن حقوق السود. إلا أن هذا التصور عن هيلي سلاسي، وسلفه الإمبراطور منيليك الثاني، غير صحيح، بل هو مزوّر بصورة فاضحة. ولعل المفارقة أن التيارات المؤمنة بكتاب “أمجاد الملوك” لا تزال مؤثرة في الخطاب القومي الإثيوبي، رغم أن الإطاحة بآخر ملك إثيوبي كانت في عام 1974. صحيح أن أغلبية الشعب الإثيوبي لا تؤمن بمعتقد “النسب السليماني”، لكن هناك بعض الإثيوبيين الذين لا يزالون يلجؤون إلى إحياء جوانب من سردية “أمجاد الملوك” من أجل توطين فكرة “الإثيوباوية”. غير أن تلك الأساطير (المرويات الشعبية)، أو بعض أجزائها، وإن كانت تحاول إقناع جميع الأثيوبيين بالهوية التي تعبّر عنها، فإن موقفهم حيالها خلق انشقاقات هائلة داخل المجتمع الإثيوبي.

صورة هيلي سيلاسي في السردية الراستافارية
بحسب معتقدات الراستافاريين تعتبر إثيوبيا أرض ميعادهم وموطن سكنهم المثالي. وعلى ضوء ذلك، منحهم هيلي سلاسي في عام 1941 منطقة في وادي ريفت جنوب إثيوبيا لإقامة مستوطنة عند منطقة سَاشمين. لكن هذه الهبة لم تُحدث عودة كبيرة ملحوظة للراستافاريين إلى إثيوبيا (كما كان يتوقع)، حيث لم يزد عدد العائدين عن ألف، وعددهم في الوقت الحاضر لا يتجاوز 400 شخص. ليس ذلك فحسب، بل لم تشهد إثيوبيا أبدا أي نزوح جماعي كبير للراستافاريين، وحتى الذين وصلوا إليها لم يتمكنوا من الاندماج في المجتمع وظلُّوا يعيشون في عزلة تامة مشابهة للطريقة التي يعيش بها الأميش[6] في الولايات المتحدة.

تجدر الإشارة هنا إلى أن العلاقة بين الراستافارية وهَيْلي سِلَاسي قامت بالأساس على سوء تفسير لنبوءة الزعيم الجمايكي، زعيم “حركة عموم أفريقيا” (pan-Africanism) ماركوز غارفي، الذي دعا أتباعه قائلا: “توجّهوا إلى أفريقيا عندما يتوّج بها ملك أسود، ففي ذلك إرهاص باقتراب يوم الخلاص”. وفي وقت لاحق، جرى إعادة تفسير هذه النبوءة على أساس أن “أفريقيا” تعني إثيوبيا، فيما جرى إعادة تفسير الإشارة إلى “ملك أسود” لتتماشى مع تتويج هيلي سلاسي ملكا على إثيوبيا في 1930.

هيلي سلاسي لم يكن يبدي احتراما “لشعبه”، بل كان يفضّل عليهم الأوروبيين والأميركيين الذين كانوا يُدعَون بشكل روتيني إلى الحفلات الباذخة التي كان يقيمها في قصره

مواقع التواصل

ومع ذلك فإن ماركوز غارفي لم يُبدِ أي إعجاب بشخصية هيلي سلاسي، على العكس، فقد أدانه ووصفه “بالجبان الرعديد”، نظرا لهروبه من قوات موسوليني في عام 1935 عندما غزت إيطاليا بلاده إثيوبيا. إلى جانب ذلك، انتقد ماركوز ممارسات هيلي سلاسي للرق، وهي ممارسة ظلّت سائدة في إثيوبيا ولم يتم إلغاؤها حتى سنة 1942. ومن أقوال غارفي الأخرى المتصلة بهيلي سلاسي:

“من الأفضل لزنوج الحبشة والعالم أن يعملوا على استعادة استقلال البلاد (إثيوبيا) وحريتها (من الإيطاليين) دونما الحاجة إلى الاستعانة بهيلي سلاسي، لأنه في أحسن الأحوال ليس سوى “سيد للعبيد”. كذلك، يجب على زنوج العالم الغربي الذين كابد أسلافهم أهوال العبودية لمدة ثلاثمئة عام أن يكونوا قادرين على تثمين قيمة الحرية. ومن المؤكد أنهم لا يستطيعون التبرير لدعم أي نظام يُبقي إخوانهم رهن العبودية بينما يتمتعون هم بالحرية في أماكن أخرى. وبالقدر نفسه على الأفارقة الذين نالوا استقلالهم التفكير بشأن وضعية العبيد في الحبشة (إثيوبيا). بأي حق يحتفظ الإمبراطور (هيلي سلاسي) بالعبيد في مملكته بينما الناس أحرار في بقية أنحاء العالم الديمقراطي ولهم الحق في العيش والتطور والتمتع بسائر منافع الحرية الإنسانية؟” (1937، ص741).

بالطبع، قلة من محبي موسيقى الريغي يدركون الهوة الواسعة بين صورة هَيْلي سِلَاسي الذائعة في الثقافة الشعبية وبين حقيقة واقع عهده الاستبدادي. حتى الصورة الرائجة حوله كزعيم أفريقي منافح عن حقوق السود هي الأخرى مسألة لا تؤيدها الوقائع. بل ويمكن قول الأمر نفسه بخصوص تبنيه للراستافاريين، فقد فعل ذلك على مضض لإدراكه قيمتهم الترويجية في العلاقات العامة التي تمجد شخصه. بالتأكيد سيصاب بعض أتباعه المخلصين بالفزع لو علموا أن هيلي سلاسي لم يكن يبدي احتراما “لشعبه”، بل كان يفضّل عليهم الأوروبيين والأميركيين الذين كانوا يُدعَون بشكل روتيني إلى الحفلات الباذخة التي كان يقيمها في قصره.

مع ذلك، فقد تسبّبت الإطاحة بحكم هيلي سلاسي في عام 1974 -ولاحقا موته- إلى “أزمة إيمانية” وسط أتباع العقيدة الراستافارية، حيث لم يقبل دينهم بحقيقة موت الإمبراطور، فقد اعتبره مجرد “غيبة”، على غرار الاعتقاد السائد عند مذهب الشيعة المسلمين الذي يؤمن بغيبة الإمام الثاني عشر. وقد حاول بوب مارلي في أغنية “الإله جاه حيّ” دحض حقيقة موت هيلي سلاسي من خلال تأكيده بأن الإله لا يموت.

ما وراء تقديس الفنان “تيدي أفرو” لملوك إثيوبيا:

يميل الفنان تيدي أفرو إلى محاكاة أسلوب بوب مارلي الغنائي عندما يشدو في مديح هيلي سيلاسي ومنيليك الثاني، الذي ادّعى هو الآخر بأنه سليل الأسرة السليمانية. ومع أن تيدي أفرو يزعم بأنه يشيع عبر أغانيه الوحدة والمحبة لجميع الإثيوبيين، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف يمكن لمديح أولئك الملوك أن يخدم قضية الوحدة في إثيوبيا؟ فإذا كان هدفه حقا هو تعزيز خطاب القومية الإثيوبية الجامعة، فإن مديحه لأولئك الملوك سيعود عليه بنتائج عكسية؛ لأنه ببساطة يعمل على إثارة النعرة القومية وسط عرقية الأورمو (والقوميات الأخرى غير الأمهرية)، لأنهم لا يحملون قناعات أولئك الحكّام نفسها، بل يعتبرونهم مصدرا لاضطهادهم ومعاناتهم. والحال كذلك، فمثل هذه القراءة الانتقائية للتاريخ -التي يقوم بها تيدي أفرو- لا تخدم كثيرا عملية بناء أرضية وطنية متينة. على النقيض من ذلك، فإن بلادا كإثيوبيا في أمس الحاجة إلى نوع من التوافق على عقد اجتماعي جديد يحترم التعددية والتنوع في البلاد.

في الواقع، تُظهر الروايات التاريخية المتوفرة حول عهد منيليك الثاني بأنه كان مستعبدا قاسيا ذا نهج توسعي ومحتقرا للسود. وكمثال على ذلك، نذكر تصرف الإمبراطور إزاء المساهمة القيّمة التي قدمها الإريتريون -وإن كان غير معترف بها في الأدبيات- في الانتصار الإثيوبي على إيطاليا في “معركة عدوة” عام 1896، من خلال توفير معلومات حاسمة حول إستراتيجية إيطاليا في الحرب. فلم يجد الإمبراطور بُدًّا من أن يرد على هذا الجميل بقطع أذرع وأرجل أسرى الحرب الإريتريين بصورة وحشية. هذا بالرغم من أن هؤلاء الفلاحين المساكين بالأساس أُرغموا بالقوة على المشاركة في القتال مع الإيطاليين، على غرار ما فعله المستعمرون الأوروبيون مع الأفارقة والهنود والرعايا الآخرين في الدول المسْتَعْمَرَة، الذين جرى استخدامهم وقودا للمدافع في حروبهم وغزواتهم في كل مكان. وفي نهاية الأمر، ما كان من منيليك الثاني، الذي يحتفى به “بطلا للنصر الأفريقي”، إلا أن قام بإطلاق سراح الأسرى من الإيطاليين والليبيين، أما الإريتريون فقام بتشويه أجسادهم.

في الواقع، صورة منيليك الثاني التي يعاد بناؤها (عبر الغناء) بوصفه رائدا تاريخيا في تحرّر السود لا تتفق هي الأخرى مع الوقائع التاريخية المسجّلة. على سبيل المثال، كشف منيليك الثاني عن توجهه الفكري مرة في تعقيب له في محادثة مع شخصية بارزة من هايتي، عندما اعترف فيها بأنه لا يعتبر نفسه رجلا أسود. وبالتالي، فإن احتفاء تيدي أفرو بمنيليك وتسويقه كرجل أسود تفتقر إلى أساس تاريخي يدعمها. على عكس من ذلك، فإن استحضار صور شخصيات مثل هيلي سلاسي ومنيليك الثاني في الفضاء العام -كما يفعل تيدي أفرو- من شأنه أن يشتت شمل المجتمعات في إثيوبيا، لأن استدعاء ذكرى تلك الشخصيات يهين أولئك الذين لا يتفقون مع هذا التفسير للتاريخ ويستدعي إلى الذاكرة الإرث البغيض لأولئك الملوك.

هيلي سيلاسي كرجل دولة عالمي

الجدير بالذكر هنا أن شهرة هيلي سيلاسي الدولية مرتبطة أساسا بوظيفته كوكيل مخلص للغرب شأنه في ذلك شأن شاه إيران وموبوتو زائير (في زمانهما). وقد درج هؤلاء الوكلاء المحافظة على سلطاتهم عبر آليات القمع والقتل وإسكات أصوات الوطنيين الصادقين. المفارقة أن التاريخ يذكر بشكل دقيق كلًّا من شاه رضا بهلوي وموبوتو سيسي سيكو باعتبارهما زعيمين مستبدين. أما في حالة هيلي سيلاسي فثمة جهود تجري لتصويره كرجل صاحب رؤية يحمل قناعات “حركة عموم أفريقيا”، وهناك حملة قوية تسعى لإقامة نصب تذكاري له أمام مبنى الاتحاد الأفريقي في أديس أبابا. ومع الأسف، فقد وافق القائمون على أمر الاتحاد الأفريقي على طلب بناء النصب.

إضافة إلى ما تقدم، فإن هيلي سلاسي ظل ينسب مساهمات الآخرين لنفسه ليتلقى عليها ثناء غير مستحق. من الأمثلة على ذلك ما بذله شخص إريتري يُدعى لورنز تيزاز في تعزيز صورة هيلي سيلاسي أثناء الغزو الإيطالي لإثيوبيا؛ فبينما كان الإمبراطور هيلي سلاسي منفيا في مدينة باث البريطانية، تسلل لورنز تيزاز سرّا إلى إثيوبيا وشرع في تنظيم صفوف الوطنيين هناك ونجح في تجنيد نحو 2000 شخص من معسكرات اللاجئين في كينيا من الإريتريين الذين فرّوا من حكم الاستعمار الإيطالي، ومن ثم قام بتعبئتهم للقتال من أجل إثيوبيا. لم يقتصر عمله على ذلك، فهناك اعتقاد راسخ بأن لورنز هو في الحقيقة من كتب الخطاب الذي ألقاه هيلي سيلاسي سنة 1936 في عصبة الأمم؛ ذلك الخطاب الذي صنع شهرة هيلي سيلاسي كرجل دولة مرموق ومدافع صلب عن حقوق شعبه. فماذا كان مصير لورنز في نهاية المطاف؟ كافأه الإمبراطور بالعزل من منصب وزير الخارجية نظير تلك الأعمال، وبقي مهمشا إلى أن توفي بعد فترة قصيرة في سنة 1947 في ظروف غامضة.

هل يعتبر نعت هيلي سلاسي بالدكتاتور تشهيرا؟
في الواقع، السجل التاريخي لهذا الرجل يقدم إجابة حاسمة حول هذا الأمر:

أولا، من الثابت تاريخيا أن هيلي سلاسي أنفق نحو 35 مليون دولار في احتفالات عيد ميلاده الثمانين، في الوقت الذي كانت تضرب بلاده مجاعة بمنطقة “ولّو”. علاوة على ذلك، كان كثير الأسفار، فزار خلال فترة حكمه الولايات المتحدة عدة مرات، ولكنه لم يزر جمايكا قط إلا مرة واحدة عندما توقف عندها في سنة 1966. إلى جانب ذلك هناك جرائم ارتكبها هيلي سلاسي وأعوانه مثل “أسرت كاسا” في إريتريا، ولكنها غير معروفة (للعالم الخارجي) بالقدر الكافي. وهي في الحقيقة جرائم كثيرة ومروعة لا يمكن تغطيتها في حدود نطاق هذا المقال. ومن شاء أن يتوسع في الأمر فإنني أوصي بالاطلاع على كتاب “مشيل رونق” الموسوم بــ “لم أفعل هذا من أجلك.. كيف قام العالم بخيانة دولة أفريقية صغيرة”.[7]

“بيلاي زيليكي” أحد أبطال الحرب ضد إيطاليا (مواقع التواصل)

ثانيا، يتذكر الناس في إقليم التجراي هذا المستبد بكونه من قدم طلبا للقوات الجوية الملكية البريطانية بقصف الإقليم في عام 1943 لقمع الأحداث التي اشتهرت بـ “ثورة الويّاني الأولى”. وبعد هزيمة البريطانيين لإيطاليا في سنة 1941، نشط هيلي سلاسي في تعزيز سلطاته في البلاد عبر إضعاف سلطة المحافظات. أكثر من ذلك، كان هيلي سيلاسي قاسيا تجاه الوطنيين الإثيوبيين الذين حاربوا ضد إيطاليا عندما كان هاربا في بريطانيا. على سبيل المثال، فقد تم شنق “بيلاي زيليكي” -أحد أبطال الحرب ضد إيطاليا- بأمر صادر منه شخصيا. رغم كل ذلك، يأتي “تيدي أفرو” ليكيل المديح لهيلي سيلاسي ولبيلاي زيليكي خلال مشاركته مؤخرا في احتفال بقاعة الملينيوم في أديس أبابا، حضرها الرئيس الإريتري ورئيس الوزراء الإثيوبي. بالطبع أن يمدح المرء القاتل الخائن وضحيته في الآن نفسه لهو أمر يستعصي على الفهم.

لماذا الاهتمام بهيلي سلاسي في هذا الوقت؟
إن عملية إعادة كتابة التاريخ بنسخة رومانسية ومزوّرة لإرث هيلي سلاسي وملوك إثيوبيا الآخرين مسألة لها علاقة وثيقة بالتطورات السياسية الراهنة في إثيوبيا، وبالتالي فإن إرث هيلي سلاسي بحاجة إلى أن يتمّ اكتشافه (بشكله الحقيقي)، خصوصا في ظل محاولات الموسيقيين وأنصار مذهب مراجعة التاريخ والأجانب المنتفعين والسياسيين الذين يسعون للتحكم في الرواية المتداولة حول هيلي سلاسي عبر اختلاق تصورات زائفة حوله. والحال كذلك، فلا يمكن التقليل من شأن التصورات التي يشيّدها الناس حول هيلي سلاسي عبر الموسيقى، خصوصا إذا أخذنا في الاعتبار الدور الذي تلعبه في تشكيل ما يسميها منظّر المقاربات القومية، بندكت أندرسون، “الجماعات المتخيّلة”، ودورها الحاسم في عملية التعبئة السياسية؛ فالموسيقى تحفز على إصدار مزيد من الإندورفين الذي يتولّد عنه حالة من الإحساس بالانتماء وسط الأشخاص الذين يحملون مشاعر مماثلة يمكن أن تدفع إلى عمل جماعي. علاوة على ذلك، فإن نمط الوطنية التي أشاعها الراستافاريون حول هيلي سيلاسي وأضفت حوله هالة من القداسة تعتبر هي الأخرى وطنية ضارة يجب مراجعتها.

هذا لا يمنعني من الإقرار بأنني سعدت لإدراج اليونسكو موسيقى الريغي ضمن قائمة “التراث الثقافي غير المادي”، مع تحفظي بالطبع على وصف اليونسكو لموسيقى الريغي “بأن مساهماتها في الخطاب الدولي حول قضايا الظلم والمقاومة والمحبة والإنسانية يثبت قدرة هذه الموسيقى في اتخاذ طابع ذهني واجتماعي وسياسي وحسي وروحاني في الآن نفسه”. في الواقع، سجل موسيقى الريغي يبدو أكثر تعقيدا وتباينا (من الوصف السابق) عندما يتعلق الأمر بالمكانة التي توليها تلك الموسيقى لهيلي سيلاسي.

كثيرا ما يقال إن المنتصرين أو الأقوياء هم الذين يكتبون التاريخ، وبالقدر نفسه يمكن الحديث حول إساءة التاريخ عندما يقوم مشاهير الموسيقى بدافع الدين أو الوطنية المفرطة بتقديم صورة خاطئة حول أحداث الماضي. وإن كان الوضع كذلك، فهو ليس أمرا مسيئا للضحايا فحسب، بل يثير الفرقة وسط مجتمعات هي في أمس الحاجة إلى التضامن فيما بينها.

————————————————————————

الهوامش:

[1] – راجع الترجمة.

[2] – اسمه الحقيقي هو تافاري مكونن، لكنه بدل هذا الاسم إلى “هيلي سلاسي” عندما اعتلى عرش الإمبراطورية في سنة 1930. كلمة هيلي في اللغة الجئزية تعني “القوة” فيما “سلاسي” تحيل إلى عقيدة التثليث المسيحية. وبالتالي فكملة “هيلي سلاسي تعني حرفيا “قوة الثالوث”.

[3] – الراستافارية هي المعادل لكلمة (Rastsfarianism) وهي حركة دينية اجتماعية، اشتق اسمها من كلمتي “راس تفاري” (Ras Tafari) وهي كما سبقت الإشارة الاسم الأصلي لهيلي سيلاسي قبل تتويجه ملكا على إثيوبيا. إضافة إلى ذلك، تؤمن هذه الجماعة بتقديس هيلي سلاسي وتعتبره المسيح المذكور في الإنجيل وبأنه يعتبر جزءا من الثالوث المقدس الذي يجسد الرب على الأرض. ويطلقون عليه كلمة “جاه” (Jah).

[4] – بحسب الروايات الشعبية الإثيوبية المتوفرة في كتاب “أمجاد الملوك”، فإن الملكة شيبا المذكورة في الإنجيل والتي التقت بسيدنا سلميان تنحدر من إثيوبيا. وتضيف تلك الروايات بأنها مكثت فترة في أورشليم مع سيدنا سليمان وأنجبت منه ولدا يدعى “منيليك”. عاد منيليك بعد فترة إلى إثيوبيا وبدأ في تأسيس حكم ما عرف بالأسرة السليمانية. ولهذا درج كل ملوك إثيوبيا بما فيهم هيلي سلاسي الانتساب إلى هذه الأسرة، حيث نصت المادة الثانية من الدستور الإثيوبي الصادر في سنة 1931 على أن يحفظ “حق الملك الإمبراطوري في أسرة هيلي سلاسي الأول الذي يتصل نسبه دون انقطاع بأسرة منليك الأول ابن الملك سليمان”. أما في الرواية الإسلامية فالملكة المذكورة في القرآن هي “الملكة سبأ” التي كانت تحكم في اليمن.