“إذا كان الشاطئ هدفا للتجسس، فإن الروس سيرسلون غواصات وضفادع بشرية في ظلام الليل وبسرية كبيرة سيقومون بجمع دلاء من الرمال وإعادتها إلى موسكو، أما الأميركيون فسيستهدفون الشاطئ بالأقمار الصناعية وينتجون رقاقات من البيانات، فيما سيرسل الصينيون ألف سائح مهمة كل منهم جمع حبة رمل واحدة، وعندما يعودون سيطلب منهم تسليمها وسينتهي بهم الأمر لمعرفة المزيد عن الرمال أكثر من أي جهة أخرى”
(اقتباس من أدبيات(1) مجتمع الاستخبارات الأميركي لوصف انتشار وقوة الاستخبارات الصينية)
لم يكن بإمكان أحد أن يرصد أي أمر مثير للريبة بشأن “تشي ماك” الذي يحمل جميع العلامات المميزة التقليدية للأميركيين من ذوي الأصول الصينية، مع قامة قصيرة نسبيا ووجه آسيوي الملامح، وفرط في النشاط لا يتلاءم مع عمره الذي جاوز الستين، ووظيفة تقليدية نسبيا في “باور باراغون”، إحدى شركات الدفاع متوسطة المستوى التي تقوم بتطوير أنظمة الطاقة لصالح البحرية الأميركية، في “أنهايم” بولاية كاليفورنيا على الساحل الغربي للولايات المتحدة.
هاجر “ماك” إلى أميركا قادما من “هونغ كونغ” في أواخر سبعينيات القرن الماضي، وكان موظفا نموذجيا في “باور باراغون” منذ عام 1988، وكثيرا ما كان موظفو الشركة يلجأون إليه لحل المشاكل التي تواجههم، أما خارج العمل فقد اكتفى “ماك” وزوجته “ريبيكا” بحياة هادئة لم يكونا فيها اجتماعيين بشكل كبير، فرغم مكوثهما قرابة عقدين ونصف على الأراضي الأميركية، كانت “ريبيكا” تتحدث بإنجليزية ضعيفة، ولم تكن تذهب لأي مكان دون زوجها باستثناء ربما جولات تقليدية حول الحي في الصباح.
كانت المصادفة(2)، والمصادفة وحدها، هي التي جعلت من ماك وأسرته هدفا ثمينا وسريا لمكتب التحقيقات الفيدرالي “FBI”، من شرع وقتها في التحقيق في سجلات التجسس الصيني على الأراضي الأميركية عام 2001، وهو ما جعل الكثير من الأميركيين من ذوي الأصول الصينية، ممن يشغلون مناصب بارزة في القطاعات الصناعية الحيوية مثل التكنولوجيا والدفاع، جعلهم هدفا للملاحقات السرية، وكان العجوز ذو الأصول الصينية “تشي ماك” أحد أهداف تلك التحقيقات التي بدأت بوضعه تحت المراقبة المستمرة والمكثفة، حيث قام المحققون بتركيب كاميرا خفية خارج منزله في مقاطعة داوني بكاليفورنيا لمتابعة تحركاته وقوائم زائريه، كما قاموا بزرع أجهزة تنصت للاستماع إلى أحاديثه الخاصة ومكالماته الهاتفية.
لم تكشف التسجيلات والمحادثات الهاتفية عن الكثير مما يثير شهية المحققين، باستثناء افتتان ماك وزوجته بالقيادي الشيوعي الصيني “ماو تسي تونغ” الذي رأى الزوجان أنه أُسيء فهمه وتقديره من قبل التاريخ، مثله مثل ستالين على حد وصفهما، وهو ما دفع المحققين لتوجيه بحثهم نحو مرحلة جديدة، واستغلوا عطلة قضاها ماك وزوجته في ألاسكا من أجل تنفيذ اقتحام سري لمنزله عبر فرقة فحص متخصصة تمتلك القدرة على إخفاء آثار التفتيش الدقيق أيضا.
ورغم الأضواء الخافتة، لم يجد المحققون صعوبة تُذكر في رؤية أكوام الوثائق المنتشرة في كل مكان بإهمال، خلف الأبواب وفوق المكتب وحتى على مائدة العشاء، وسرعان ما بدأ الفريق في تصوير الوثائق مع الحرص على إعادتها لوضعها الطبيعي تماما، وثائق شملت تفاصيل أنظمة الطاقة لسفن البحرية الأميركية، ومعلومات عن التقنيات الجديدة قيد التطوير، ورسوم ومعلومات عن غواصات فيرجينيا الجديدة شديدة التطور وتقنيات تسليحها، إضافة إلى إقرارات ضريبية ووثائق سفر وقوائم أسماء للعديد من المهندسين الآخرين من أصل صيني يعيشون في كاليفورنيا.
“تاي ماك” الشقيق الأصغر لتشي ماك (مواقع التواصل)
بالتزامن مع ذلك، وكما روى(3) “يوديجي باتاتشارجي” -الكاتب ذائع الصيت في مجال التجسس والجريمة السيبرانية- في قطعته المطولة بمجلة نيويوركر، كان المكتب الفيدرالي يقوم أيضا بمراقبة “تاي ماك”، الشقيق الأصغر لتشي ماك، وعمل “تاي” مهندسا للبث في قناة فضائية مقرها في هونغ كونغ ومملوكة جزئيا للحكومة الصينية، وكان يعيش في “ألهامبرا” على بُعد 12 ميلا من داوني بصحبة زوجته “فوك لي” ونجليهما المراهقين، وكانت العائلتان تجتمعان كل بضعة أسابيع في المطعم الصيني في ألهامبرا، حيث يوجد عادة العديد من الأميركيين من أصل صيني بشكل معتاد.
كانت المراقبة شاملة ومكثفة ودقيقة، لدرجة أن الوكلاء الفيدراليين كانوا يقومون بفحص نفايات كلتا العائلتين بعد وضعها في صناديق القمامة لعدة أشهر متتالية دون الوصول إلى أي دليل، حتى مطلع فبراير/شباط عام 2005، وبعد عام كامل من بدء المراقبة تقريبا، حين عثرت المحققة جيسي موراي على بقايا ورقة ممزقة مكتوبة باللغة الصينية في قمامة تشي وريبيكا قامت بجمعها وحملها إلى المكتب حيث قامت بتجميعها وإعادة تركيبها لتشكل في النهاية وثيقتين تامتين، كُتبت إحداهما بخط اليد بينما طُبعت الأخرى على الآلة، وكانت الورقة المكتوبة بخط اليد تحوي أسماء غواصات وقطع بحرية أميركية مثل المدمرة “دي دي إكس” إضافة إلى مجموعة من التقنيات والبرامج البحرية، أما الورقة المطبوعة فقد احتوت على تعليمات للذهاب إلى مؤتمرات وأحداث بعينها لجمع المعلومات، وهنا فقط أصبح المحققون الأميركيون على يقين من أن الوثيقتين هما قوائم مهام مقدمة من الاستخبارات الصينية.
لاحقا في أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه، قام محققو المكتب الفيدرالي بتنفيذ اقتحام سري آخر لمنزل تشي ماك وقاموا بتركيب كاميرا خفية فوق طاولة غرفة الطعام، وفي أحد الأيام التالية تم تصوير مقطع فيديو لماك وهو جالس على الطاولة ويقوم بإدخال مجموعة من الأقراص المدمجة في جهاز كمبيوتر محمول بينما يتحدث مع ريبيكا عن المعلومات التي كان ينسخها، وكان كل شيء متعلق بالتقنيات البحرية، بما في ذلك وثيقة عن محرك أقل ضجيجا وأصعب في رصده للغواصات كان لا يزال قيد التطوير، وهو مشروع كان ماك مسؤولا عنه في “باور باراجون”.
خلال المحادثات اللاحقة، علم المحققون أن تاي وفوك كانا يخططان لمغادرة كاليفورنيا إلى الصين، وفي الوقت الذي همّا فيه بمغادرة الأراضي الأميركية، قامت السلطات باعتقال تاي وفوك من مطار لوس أنجلوس بعد أن عثر معهما على قرص مشفر يحتوي على الملفات التي نسخها تشي ماك، وفي الليلة نفسها تم القبض على تشي وريبيكا ماك، ومع تقدم التحقيقات كانت الحقائق(4) تتكشف شيئا فشيئا، فلم يكن “ماك” مجرد موظف من أصول صينية تم تجنيده بواسطة بلاده، وإنما كان جاسوسا مدربا تم زرعه بعناية من قِبل الاستخبارات الصينية لجمع المعلومات حول أحد أكثر القطاعات الصناعية حيوية في الغرب، حيث بدأ ماك عمله مع الاستخبارات الصينية منذ سنوات عمله في هونغ كونغ، حيث كانت مهمته هي مراقبة تحركات سفن البحرية الأميركية الداخلة والخارجة من ميناء هونغ كونغ خلال حرب فيتنام، وهي مهمة كان ماك يؤديها باجتهاد أثناء عمله في محل خياطة تمتلكه أخته في ذلك التوقيت.
في نهاية المطاف، تمت إدانة ماك وريبيكا وتاي وفوك بالتآمر لتصدير التكنولوجيا العسكرية الأميركية إلى الصين، حيث حُكِم على الأول بالسجن لمدة أربعة وعشرين عاما فيما تلقى الآخر حُكما بعشر سنوات، بينما تم ترحيل فوك إلى الصين ولحقت بها ريبيكا بعد ثلاث سنوات، ورغم إغلاق القضية بشكل نظري، فإنها أحدثت صدى كبيرا في المجتمع الاستخباراتي الأميركي، وسلطت الضوء ليس فقط على الجولات المستمرة من الصراع الاستخباراتي المكتوم بين الصين والولايات المتحدة، والذي لا تزال فصوله ممتدة إلى اليوم، ولكن أيضا على التقاليد والتكتيكات غير المألوفة لأجهزة الاستخبارات الصينية، إحدى أكثر أجهزة المخابرات في العالم كفاءة وتعقيدا، وأقلها شهرة وصيتا على ما يبدو أيضا.
حفلت الصين على مدار تاريخها بإرث من القوات العسكرية البرية القوية وكثيفة العدد والتي عملت كسور عظيم بشري لحماية البلاد ضد الغزو الخارجي
رويترز
أحفاد سون تزو
تنص الحقائق البسيطة على أن(5) الصين هي أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان بما يتجاوز 1.41 مليار نسمة، وثاني أكبر دولة من حيث المساحة برقعة جغرافية تبلغ نحو 9.6 مليون كيلومتر مربع، كما أن لديها أكبر جيش في العالم بإجمالي 2.2 مليون جندي (قوات أساسية بدون الاحتياط)، وهي أكبر مُصدّر في العالم حيث تصدر ما قيمته 2.2 تريليون دولار أميركي سنويا، وهي ثاني أكبر اقتصاد على وجه الأرض حاليا ويتوقع أن تتجاوز الاقتصاد الأميركي الأكبر بحلول عام 2030، وهي أكبر مقرض و أكبر حائز لرأس المال عالميا، وبخلاف ذلك، فإن بكين تمتلك أكبر قاعدة من المتحدثين الأصليين بلغة واحدة في العالم وهي الماندارين، وينافس عددهم عدد المتحدثين بالإنجليزية حول العالم بأسره.
ويبدو أن هذه الحقائق للقوة البشرية الصينية الضخمة تُلقي بظلالها على الإرث الصيني ليس فقط في الاقتصاد والمجتمع أو حتى السياسة، ولكن أيضا في الشؤون العسكرية، حيث حفلت الصين على مدار تاريخها بإرث من القوات العسكرية البرية القوية وكثيفة العدد والتي عملت كسور عظيم بشري لحماية البلاد ضد الغزو الخارجي، أما في الشق الاستخباراتي، وعلى الرغم من كون الاستخبارات الصينية لم تكتسب ذات السمعة العالمية التي اكتسبتها وكالة المخابرات المركزية الأميركية “سي آي إيه” مثلا، أو حتى الـ “كي جي بي” السوفيتية، فإن الاستخبارات الصينية احتفظت بطابعها الخاص لعمليات التجسس هائلة العدد وواسعة الانتشار التي لُمست آثارها في جميع أنحاء العالم.
وقد اكتسبت ثقافة الاستخبارات وجمع المعلومات أهمية هائلة لدى الصينيين منذ آلاف الأعوام، وتحديدا منذ عهد المنظر الصيني الشهير “سون تزو” صاحب كلاسيكية فن الحرب، والذي شدد على أهمية توافر المعلومات الدقيقة لكسب المعارك المختلفة، ولكن نهج الصين في الحصول على المعلومات ظل دوما بعيدا عن المنطق العام وحاملا لبصمتها(6) الخاصة، وغالبا ما كان يتم عبر مزيج من ثلاث طرق رئيسة: الأولى هي ما يُعرف بالأمواج البشرية، حيث تستغل بكين أصولها البشرية الضخمة لتجنيد آلاف الصينيين لجمع كميات هائلة من المعلومات، أما الثانية هي التجنيد والاعتماد على خدمات الملايين من ذوي الأصول الصينية في جميع بلدان العالم واستخلاص المعلومات منهم بشكل دوري للوصول إلى مستويات أعمق من التحليل الشبكي للبيانات الهائلة المكتسبة، أما الطريق الثالثة فهي زراعة الوكلاء الأجانب ببطء وصبر من أجل القيام بعمليات تجسسية نشطة على المدى الطويل.
كلاسيكية فن الحرب للمنظر الصيني الشهير “سون تزو” (مواقع التواصل)
وتعكس هذه الطرق مجتمعة العلامة التجارية(7) المميزة للعمل الاستخباراتي الصيني الذي لا يعتمد فقط على تجنيد العملاء المؤثرين للحصول على معلومات مباشرة وحساسة، بقدر ما يعتمد على إغراق أجهزة الاستخبارات ومكافحة التجسس الخصمة بآلاف من عمليات التجسس صغيرة النطاق التي يبدو الكثير منها غير ذي قيمة، فيما يكمن المنتج الصيني النهائي غالبا في مجموع ما يتم استخلاصه من تلك العمليات البطيئة والمعقدة، والتي تعكس السمات البشرية التقليدية للصينيين المشتهرين بالصبر والمثابرة والعمل الدؤوب.
تجد هذه الطريقة من العمل جذورها أيضا في الأعراف الاجتماعية الصينية، وتحديدا في تقليد “غوانسكي” الصيني الذي يعود تاريخه إلى قرون طويلة والذي يُعنى باستغلال شبكات العلاقات الشخصية البطيئة والقوية للتأثير على الأحداث، وهو عُرف تم تطويره ونقله(8) إلى الأعمال والاقتصاد الصيني، ولاحقا إلى مجال الاستخبارات الذي ظل متأخرا على المستوى الهيكلي والتقني لفترة طويلة، في الوقت الذي كانت فيه صناعة الاستخبارات وحرب العقول وجمع المعلومات تتطور فيها في النصف الغربي من الكرة الأرضية بوتيرة سريعة.
يعود التاريخ الحديث للاستخبارات الصينية إلى عهود ما قبل الثورة الشيوعية الصينية، حين أسس الحزب القومي الصيني (الكومينتانغ) قسم التحقيقات الخاص به في عهد شيانغ كاي شيك، القائد العسكري الذي قاد حملة توحيد الصين ضد أمراء الحرب وأصبح أول رئيس للبلاد عام 1928، ولاحقا قام الشيوعيون الصينيون بتطوير عمل الاستخبارات بعد استيلائهم على السلطة في الأربعينيات، وأسسوا عددا من الوكالات التي تطورت في نهاية المطاف لتُشكّل إدارة الشؤون الاجتماعية وهي أول جهاز استخبارات هيكلي في تاريخ الصين.
شيانغ كاي شيك، القائد العسكري الذي قاد حملة توحيد الصين ضد أمراء الحرب (مواقع التواصل الاجتماعي)
خلال تلك الفترة، كانت شنغهاي هي مركز التجسس العالمي الأبرز في شرق آسيا، حيث شهدت نشاطا للقوميين والشيوعيين وفصائل أمراء الحرب وعصابات الثالوث، إضافة إلى أجهزة الاستخبارات السوفيتية والفرنسية واليابانية والبريطانية والأميركية، وإبان تلك الفترة لمع اسم “كانغ شنغ”، طالب جامعة شنغهاي الذي شارك في الحركة الشيوعية، قبل أن يسافر لتلقي تدريبه على العمل الاستخباراتي في موسكو أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات، ليعود لاحقا إلى الصين ويعلن انحيازه إلى ماو تسي تونغ ويحظى بثقته العمياء، ليصبح(9) “كانغ” الرئيس الأبرز لإدارة الشؤون الاجتماعية منذ تأسيسها، والأب المؤسس للاستخبارات الصينية، مع سمعة مدوية حول التكتيكات الوحشية التي استخدمها في مواجهة خصوم السلطة بشكل عام والأعداء الشخصيين لـ “ماو تسي تونغ” بشكل خاص.
لكن هيكلية الاستخبارات الصينية ظلت محدودة وبسيطة بشكل ملحوظ حتى انتصار الشيوعيين الحاسم على القوميين عام 1949، حيث أسندت حينها مهام الاستخبارات لوزارة الأمن العام التي عُنيت في المقام الأول بالحفاظ على الأمن الداخلي على طول محيط البلاد ومراقبة الأجانب، وعنى ذلك تطوير شبكة واسعة من الوكلاء لأغراض المراقبة السياسية، أما أنشطة الاستخبارات الخارجية فلم تبدأ في الظهور بشكل واضح سوى في منتصف الخمسينيات، حين قام الحزب الشيوعي بتأسيس إدارة التحقيقات المركزية للقيام بهذه المهمة، ولكن الإدارة تم حلها مطلع السبعينيات (عام 1971) في خضم الثورة الثقافية، لتعود من جديد منتصف العقد نفسه مع صعود “دنغ شياو بينغ” لرأس السلطة.
جاء(10) صعود بينغ مصاحبا لظهور نهج جديد للعمل الاستخباراتي الصيني، فمع رغبته في إعادة تهيئة الصورة العالمية لبلاده والمهتزة بشدة بفعل الثورة الثقافية والتحول نحو اقتصاد السوق، وجّه “بينغ” أجهزة استخباراته للتوقف عن استخدام موظفي السفارات لأغراض التجسس، والاعتماد بدلا من ذلك على الصحفيين ورجال الأعمال، ضمن إستراتيجية كبرى عُرفت بشعار “إخفاء السطوع وتغذية الغموض”، حيث رغب بينغ بتوسيع القدرات الاقتصادية والعسكرية لبلاده لتتمكن من مواكبة الغرب، ولكنه رغب في ذلك دون خوض الكثير من الحروب الخطابية وبشكل سري قدر الإمكان.
“كانغ شين” الأب المؤسس للاستخبارات الصينية (مواقع التواصل)
ومن أجل تحقيق هذا الغرض، قام دينغ عام 1983 بتأسيس وزارة أمن الدولة عبر الدمج بين إدارة التحقيقات المركزية ووحدات التجسس في وزارة الأمن العام، لتتحول الوزارة إلى جهاز الاستخبارات المدني الرئيس للصين، وتنتظم تحتها جميع الهياكل الاستخباراتية الرسمية وغير الرسمية في البلاد، باستثناء الجيش الذي حافظ على جهازه الخاص للاستخبارات العسكرية، والخاضع لإشراف الحزب الشيوعي الصيني وليس تحت السيطرة المباشرة للحكومة.
أباطرة الاستخبارات
حتى ذلك التوقيت، لم تكن الصين قد قدمت أي بصمات أيقونية على ساحات التجسس العالمية، فيما اكتسبت أجهزتها الاستخباراتية سمعة متدنية حول بيروقراطيتها وانعدام كفاءتها، لكن هذه السمعة كانت على وشك أن تتغير مع النجاح الأسطوري الذي حققه “لاري وو تاي تشين”، الذي يعرف اليوم على أنه الجاسوس الأكثر نجاحا في تاريخ الصين منذ عهد “سون تزو”.
كان “تشين” مواطنا أميركيا ذا أصول صينية، وبدأ حياته مترجما في الجيش الأميركي قبل أن يتم تجنيده عبر مكتب الاتصال التابع لوزارة أمن الدولة في فوتشو إبان الحرب الكورية، وبعد إنهاء خدمته في الجيش انضم تشين إلى وكالة المخابرات المركزية الأميركية مترجما لخدمة المعلومات الإذاعية الأجنبية، ليبدأ 30 عاما من العمل الرسمي كعميل مزدوج مع ولاء مطلق لبكين وقائمة من المعلومات الحساسة من قلب المخابرات الأميركية جرى تمريرها لبكين أولا بأول، ولعل أكثرها أهمية هي المعلومات المتعلقة بخطط الرئيس الأميركي “ريتشارد نيكسون” وإدارته للتقارب مع الصين، وهي خطط يعتقد أن تسريبها منح بكين موقفا أعلى في المفاوضات اللاحقة مع الجانب الأميركي.
“لاري وو تاي تشين” الجاسوس الأكثر نجاحا في تاريخ الصين (مواقع التواصل)
كان عمل تشين دقيقا وماهرا(11) بشكل مثير للدهشة، حيث لم يقم بزيارة الصين منذ عمله في الاستخبارات، وكانت لقاءاته مع الوكلاء الصينيين تتم في دول أخرى مثل هونغ كونغ وكندا وتستغرق عدة دقائق على الأكثر، والأهم من ذلك أنه ظل يُتابَع لمدة ثلاثة عقود كاملة من قِبل مسؤول استخباراتي صيني واحد لم يتغير، من أجل الحفاظ على قنوات اتصال آمنة وضيقة وغير قابلة للرصد إلا بصعوبة بالغة. وفي مقابل خدماته، حصل تشين على مبالغ كبيرة من المال استثمرها بذكاء في العقارات ذات الدخل المنخفض، قبل أن يتم الكشف عن هويته في عام 1984 لتتم محاكمته وإدانته بتهمة التجسس، قبل أن يلقى حتفه في زنزانته فيما وُصف رسميا بأنه “انتحار”(12) في فبراير/شباط عام 1986.
كانت قضية تشين هي التي لفتت أنظار العالم، وواشنطن على وجه الخصوص، إلى مدى التطور والتعقيد الذي اكتسبه جهاز الاستخبارات الصيني الذي يتألف اليوم من مجموعة واسعة من الوكالات الاستخباراتية والإدارات العسكرية ومكاتب الشركة والأجهزة الحزبية، وحتى المؤسسات البحثية والجامعات ووسائل الإعلام التي تخضع جميعا لهيكلين متوازيين من الرقابة، سواء من قِبل الحكومة، أو الحزب الشيوعي الصيني الذي تمتلك مؤسساته السلطة الفعلية في البلاد على حساب الحكومة التي تقوم بالمهام التشغيلية والإدارية.
على رأس هذه الأجهزة تأتي وزارة أمن الدولة الأخطبوطية التي تشبه في هيكليتها الكي جي بي السوفيتي إلى حد كبير، ولكن مع قدر أكبر من اللامركزية، وغالبا ما تبدأ الوزارة في مراقبة وتجنيد ضباطها منذ المرحلة الجامعية، حيث يأتي معظمهم من طلاب جامعة بكين للعلاقات الدولية، ويعد هذا هو الفارق الرئيس في النهج الصيني لتجنيد ضباط الاستخبارات في المراحل الجامعية من أجل اختيار المؤهلين بشكل أدق، والحصول على فرص أفضل في فحص خلفياتهم واتصالهم بجهات أجنبية وهل لهم سوابق للسفر أو الإقامة في الخارج، كما تركز وزارة أمن الدولة بشدة على إتقان موظفيها للغات الأجنبية، وتدير مدرسة مكثفة لتعليم اللغات للضباط، بخلاف وضعهم لفترة طويلة تحت رقابة قسم خاص للأمن الداخلي يُعرف بالمكتب التاسع، وتكمن وظيفته الرئيسة في مواجهة أي انشقاقات محتملة داخل الوزارة.
وفي نهاية المطاف، يتم تكليف كل ضابط ممن اجتازوا مراحل التعيين المختلفة بإدارة مجموعة من الوكلاء الذين يشار إليهم عادة باسم الأصول أو العناصر، وهم ينتشرون في جميع أنحاء العالم في شبكة لا مركزية يديرها الضباط الأساسيون، ووفقا لوثيقة مسربة من شركة الخدمات الاستخباراتية “ستراتفور”، يعود تاريخها لعام 2010 وضمنها موقع “ويكيليكس”، فقد قدّر مكتب التحقيقات الفيدرالي عدد هؤلاء العناصر في الولايات المتحدة وحدها بمئات الآلاف من الأفراد يعمل بعضهم بشكل دائم والبعض الآخر بشكل مؤقت، ووفقا لإحصاءات العام نفسه فإن هناك أكثر من 17 مليون أميركي من أصول آسيوية منهم أربعة ملايين من أصول صينية، إضافة إلى شبكة هائلة من الشركات الوهمية وشركات الواجهة يبلغ عددها قرابة ثلاثة آلاف شركة.
وتتفاوت أساليب الاستخبارات الصينية في تجنيد هذه العناصر، ما بين إثارة الدوافع الوطنية إلى أساليب التهديد والضغط على أسرهم بالصين، أما في حالة الأصول الثمينة التي توفر المعلومات الاستخباراتية ذات الأهمية المرتفعة فغالبا ما تتم إضافة الإغراءات المالية، ويطلق على بعضها تعبير “أسماك قاع المحيط”، وهو مصطلح صيني مساوٍ لمفهوم “الخلايا النائمة” في الثقافة الاستخباراتية الغربية، وغالبا ما تتلقى هذه الأسماك تدريبا لمدة أشهر داخل الصين، ويتم استخدامهم بشكل رئيس لجمع المعلومات وسد الثغرات في شبكات التواصل، وأحيانا لنشر الشائعات في البلد المضيف.
الأخطبوط الصيني
تضطلع وزارة أمن الدولة الصينية بحقيبة من المهام المتعددة والمتنوعة، بما يشمل محاولة التأثير في السياسة الخارجية للبلاد الأخرى، وهو الهدف الكلاسيكي لجميع عمليات الاستخبارات في أي مكان، إضافة إلى جمع المعلومات حول التحركات السياسية والاقتصادية والأمنية التي تؤثر على الصين، ورصد عمليات الاستخبارات الموجهة ضد بكين، ودراسة السير الذاتية للسياسيين وضباط الاستخبارات الأجانب ولا سيما أولئك الذين يتولون الملف الصيني في أي بلد، وجمع المعلومات حول المواطنين الصينيين المنشقين في الخارج، وأخيرا جمع ونقل معلومات مفصلة حول القدرات التكنولوجية للبلدان الأجنبية.
ورغم أن وزارة أمن الدولة تبقى أهم وأشهر أجهزة الاستخبارات الصينية، فإنها ليست الجهاز الوحيد الذي يقوم بمهام استخباراتية في البلاد، حيث تتشارك الوزارة بعض هذه المهام مع وزارة الأمن العام التي تعد منظمة الأمن القومي الرئيسة في الصين، وتشرف على جميع الدوائر الشرطية المحلية والإقليمية وتتولى مهمة متابعة المنشقين والمعارضين، وتتمتع بصلاحيات واسعة في المجال السيبراني، ما يخلق نوعا من الصراع والتنافس مع وزارة أمن الدولة، ولكن “أمن الدولة” تبقى صاحبة الكلمة العليا في تلك الصراعات على الأغلب.
تدير وزارة أمن الدولة عملياتها الاستخباراتية اعتمادا على وحدات العمل التي ينخرط فيها المواطنون الصينيون، والمعروفة باسم “دانوي”، وهي مؤسسات تُستخدم(13) من قِبل الحزب الشيوعي لتنظيم جميع الصينيين وتوزيع الامتيازات الحكومية مثل شواغر التعليم وفرص العمل والرعاية الصحية، وتعد وحدات العمل هي الهياكل الأولية التي تربط جميع المواطنين بالحزب، وتُدار كل وحدة بواسطة كادر حزبي، وغالبا ما تحتوي على قسم أمني يتعاون مع أجهزة الاستخبارات ويحتفظ بملفات عن جميع أعضاء الوحدة تشمل التاريخ العائلي وحالة الارتباط الأيديولوجي والحالة الاجتماعية والاقتصادية، وغيرها من الأمور.
وكعضو في أي وحدة عمل، فإن أي مواطن صيني يمكن تجنيده للقيام بأي شيء نيابة عن الدولة، بما في ذلك الإبلاغ عن أنشطة زملائه المواطنين والأجانب، وعلى عكس وزارة أمن الدولة، فإن وزارة الأمن العام تميل إلى تجنيد الوكلاء من ذوي المهارات المتدنية لجمع المعلومات، وغالبا ما تقوم بتعيين وكلاء متعددين للهدف نفسه، ما يسمح للوزارة بمقارنة وتحليل المعلومات لتحديد مناطق التضارب والوصول لخلاصات دقيقة وصحيحة، ولا يتم تعيين وكلاء مدربين إلا للمهام العليا مثل اختراق المنظمات المعارضة وتفكيكها من الداخل.
وتعد الاستخبارات العسكرية، أو الدائرة الثانية لجيش التحرير الشعبي، هي ثالث المنظمات في الهيكل التنظيمي لجهاز الاستخبارات الصيني، وهي هيكل بيروقراطي(14) يضاهي في بنيته وحجمه وزارة أمن الدولة، لكنها تركز بشكل رئيس على الحصول على التقنيات الأجنبية لتطوير القدرات العسكرية للصين، وجمع المعلومات التكتيكية من المناطق الحدودية الصينية، حيث يتعامل الجهاز مع 24 مجموعة عرقية مختلفة يتم تجنيدهم لجمع المعلومات من فيتنام وتايوان وهونغ كونغ وماكاو.
وتتولى الاستخبارات العسكرية أيضا مهمة العثور على عملاء لصناعة الأسلحة الصينية، وهي تحرص على إخفاء بصمات جيش التحرير الشعبي الصيني في هذه الصفقات عن طريق إبرامها عبر وسطاء الأسلحة الدوليين، وقد نجحت بكين في إبرام صفقات على هذه الشاكلة مع كوريا الشمالية والأرجنتين وباكستان وإيران وسوريا والمملكة العربية السعودية، وتحرص المخابرات العسكرية على إجراء تحقيقات مكثفة عن خلفيات وسطاء الأسلحة المقترحين واختيار الأنسب من بينهم، وغالبا ما يتم استغلال هذه الصفقات كرافعة للنفوذ السياسي في البلدان المستهدفة.
بخلاف ذلك، تتولى المخابرات العسكرية من خلال ما يُعرف بالمكتب الثالث الإشراف على تشغيل الملحقين العسكريين الصينيين في السفارات الخارجية كنقاط مفتوحة لجمع المعلومات الاستخباراتية، وهو ما يفسر تورط عدد من الملحقين الصينيين في أنشطة استخباراتية سرية، بما في ذلك اثنان من الملحقين تم اعتقالهما في الولايات المتحدة أثناء محاولاتهما شراء أسرار خاصة بوكالة الأمن القومي الأميركي عام 1987، إضافة إلى محاولات مماثلة لشراء تكنولوجيا عسكرية أميركية بشكل غير قانوني بما في ذلك صواريخ تاو وسايد ويندر ونماذج مقاتلات إف- 14 وغيرها.
ويبدو أن المكتب الثالث للاستخبارات العسكرية الصينية نجح في تطوير أساليبه مع مرور الوقت، وحقق تقدما في اختراق وكالات الاستخبارات الأجنبية، وتم الكشف عن أبرز هذه القضايا عام 2006 حين اعترف(15) المحلل في وكالة الاستخبارات المركزية “رونالد مونتابيرتو” بحيازة وتمرير وثائق سرية إلى الملحقين العسكريين الصينيين، وهو ما مثّل تطورا كبيرا في نهج الاستخبارات البشرية الصينية بتوسيع الاعتماد على الوكلاء الأجانب، ورغم ذلك فإن قدرات الاستخبارات العسكرية الصينية لم تقف عند هذا الحد، حيث حرصت تدريجيا على المزج بين الاستخبارات البشرية والتقنيات الجديدة، فتم تأسيس مكتب خاص يُعرف باسم المكتب السابع لإدارة عمليات الاستخبارات السيبرانية بالتعاون مع عدة معاهد حكومية وجحافل من القراصنة الصينيين، كما قام جيش التحرير الشعبي بتأسيس الدائرة الثالثة، الوكالة الخاصة المعنية باستخبارات الإشارة (Signal-Intelligence)، وهي ثالث أكبر وكالة من نوعها في العالم بعد نظيرتيها في كل من الولايات المتحدة وروسيا.
وبخلاف هذه الهياكل الاستخبارية، هناك منظمتان صينيتان انخرطتا بشكل تاريخي في العمل السري، وهي إستراتيجية لم تكن حاضرة على قمة جدول أعمال بكين، الأولى هي إدارة الاتصال الدولية التابعة للإدارة السياسية العامة لجيش التحرير الشعبي، وهي منظمة كانت مسؤولة عن إنشاء والحفاظ على الاتصال مع الجماعات الشيوعية في جميع أنحاء العالم، وقد استخدمت هذه الروابط لإثارة التمرد وتسليح الفصائل الشيوعية في جميع أنحاء العالم خلال الحرب الباردة، قبل أن تتجه لممارسة التجسس وتتخلى عن العمل السري، أما المنظمة الأخرى فهي جبهة العمل المتحدة وهي هيئة تابعة بشكل مباشر للحزب الشيوعي الصيني، ونشطت تاريخيا في مراقبة وقمع المعارضين في المنفى، وعادة ما كان ضباطها يعملون تحت غطاء دبلوماسي كأعضاء في وزارة الشؤون الخارجية، بخلاف أجهزة الاستخبارات الرئيسة الأخرى في الصين.
الاستخبارات مفتوحة المصدر
الحزب الشيوعي الصيني (رويترز)
ورغم تعدد الوكالات الاستخباراتية الرسمية الصينية وتنوع أنشطتها، فإن المفارقة المدهشة تكمن في أن الكثير من التقديرات تشير إلى أن 50-70% من عمليات التجسس الصينية تقوم بها هيئات غير استخباراتية، حيث دأب(16) الحزب الشيوعي الصيني على استخدام الهيئات الحكومية وشبه الحكومية الصينية، والأكاديميات والجامعات والشركات وحتى وسائل الإعلام المستقلة اسميا، في القيام بأنشطة تجسسية، وكثيرا ما تتنافس هذه الهيئات فيما بينها، ولكنها تتشارك جميعا في النهج الفسيفسائي المميز لطريقة جمع المعلومات بالصين، وهو نهج يعتمد على تركيب القطع الصغيرة بدقة بالغة للوصول إلى صورة كلية شاملة، بل إن الصين ذهبت إلى أبعد من ذلك في هذا النهج، فأطلقت يد جميع المؤسسات الصينية العاملة في الخارج في جمع المعلومات بطرق شرعية وغير شرعية لخدمة مختلف الأهداف التجارية والسياسية، لتصبح الصين أول دولة في العالم تُحوّل جمع المعلومات الاستخباراتية -بشكل واعٍ تماما- إلى صناعة مفتوحة المصدر.
ويأتي على رأس الهيئات الحكومية التي تمارس النشاط الاستخباراتي بشكل غير رسمي إدارة الدفاع الوطني لشؤون العلوم والتكنولوجيا والصناعة “ساستيند”، وهي المعادل الصيني لوكالة مشاريع البحوث الدفاعية المتطورة “داربا” في الولايات المتحدة، وهناك أيضا وكالة الأنباء الصينية “شينخوا” التي عملت تاريخيا كغطاء لضباط ووكلاء الاستخبارات الصينيين، والتي لا تقتصر مهمتها على إنتاج الأخبار للجمهور، ولكنها تقوم بإعداد خلاصات سرية لصناع القرار، كما أن العديد من صحافييها غالبا ما يكونون مرتبطين بأجهزة الاستخبارات، وبالمثل، هناك أيضا مكتب شؤون الصينيين وراء البحار والذي يحتفظ بعلاقات مع المجتمعات الصينية في الخارج، ووزارة التعليم الصينية التي تقوم بالمتابعة والتواصل مع الطلاب الصينيين المغتربين، وتوظف كلتا الهيئتين أتباعهما في عملية جمع المعلومات لصالح الحكومة.
لكنّ أيًّا من الجهات المذكورة كلها لا تلعب دورا في منظومة التجسس الصيني الحديثة قدر الدور الهائل للأسطول الضخم من الشركات الصينية المملوكة للدولة والمشاركة في عمليات التجسس وجمع المعلومات، ووفقا للمعلومات المتاحة (17)، فإن هناك أكثر من 150 ألف شركة مملوكة للدولة الصينية، 50 ألفا منها على الأقل مملوكة للحكومة المركزية، وتشمل شركات الفضاء والشركات الدفاعية والتكنولوجية ومعاهد البحوث، فيما تدير الحكومة بشكل مباشر 102 شركة رئيسة من هذه الشركات التي تعتبر حاسمة للأمن القومي والاقتصادي، وتشرف اللجان التنظيمية في الحزب الشيوعي على عمليات التعيين في هذه المؤسسات الحيوية، كما تقوم بالإشراف على العمليات داخل هذه الشركات، فضلا عن أضعاف هذا الرقم من الشركات الخاصة التي تمارس صناعة جمع المعلومات لأهداف تجارية.
الرئيس الصيني “تشي جين بينغ” (رويترز)
وكما تشير دراسة حديثة قام بها “نيكولاس إفتيمياديس” لصالح الصحيفة المتخصصة في الشؤون الآسيوية “ذي ديبلومات”، استندت إلى تحليل 274 حالة واضحة للتجسس الخارجي الصيني منذ عام 2000، فإن نسبة 48% من هذه الوقائع كانت من نصيب الشركات الحكومية والخاصة (26% للشركات الحكومية و22% للشركات الخاصة)، في حين لم يتجاوز نصيب وزارة أمن الدولة والاستخبارات العسكرية مجتمعين 41% من هذه الحالات، وهو ما يشير إلى الدور الكبير لما يمكن أن نطلق عليه “استخبارات الشركات” في منظومة التجسس الصيني الحديث، وهو دور مرشح للتزايد بالنظر إلى التوجيهات الصادرة عن الرئيس الصيني “تشي جين بينغ” خلال العام الماضي 2018، وهي توجيهات طلبت من الشركات تعديل لوائحها الداخلية لوضع مفاهيم الولاء والانتماء الصينيين فوق تحقيق الربح الاقتصادي.
يخبرنا ذلك الاعتماد الصيني على استخبارات الشركات بحقيقة أخرى أكثر وضوحا حول الأهداف الحديثة للنشاط الاستخباراتي لبكين، فبخلاف الأولويات التقليدية لأجهزة المخابرات الخارجية التي تركز على جمع المعلومات الحساسة سياسيا وعسكريا، يبقى جمع التقنيات المتطورة خاصة التكنولوجيا العسكرية والتقنيات القابلة للاستخدام المزدوج هو الهدف الرئيس للاستخبارات الصينية، ويأتي في المقام الثاني جمع المعلومات المتعلقة بالتفوق التقني والتجاري لخدمة الإستراتيجية الصناعية الطموحة للبلاد المعروفة باسم “صنع في الصين 2025”.
ومن أجل القيام بذلك، فإن آلة الاستخبارات الصينية تلجأ إلى مزيج من ثلاثة أساليب مختلفة، أولها دفع الرعايا الصينيين للحصول على التقنيات والمهارات في القطاعات المطلوبة عبر برامج التبادل العلمي التي تشرف عليها أجهزة الاستخبارات، أما الطريقة الثانية(18) فهي استغلال المحافظ المالية الضخمة للشركات الصينية لأجل شراء الشركات الأجنبية التي تنتج التقنيات المرغوبة، كما حدث في صفقة استيلاء شركة “Avatar Integrated Systems” وهي شركة صينية مقرها هونغ كونغ على شركة تصميم الرقاقات الأميركية “ATop Tech” العام الماضي.
شركة “avatar integrated systems” (مواقع التواصل)
يعود هذا النهج الصيني في الاستيلاء على شركات التكنولوجيا الناشئة إلى أواخر العقد الماضي ومطلع العقد الحالي، ويتميز بتصاعد مطّرد يمكن ملاحظته بسهولة، فبحلول عام 2014 كان حجم الاستثمارات الصينية في شركات التكنولوجيا الأميركية قد ارتفع إلى 2.3 مليار دولار، قبل أن يقفز بأربعة أضعاف تقريبا وصولا إلى 9.8 مليار دولار خلال عام 2015، وهو نهج لا يزال مستمرا رغم أنه تباطأ بفعل القيود التي فرضتها إدارة ترامب على الشركات الصينية، وهو ما يدفع الصين للتحايل على هذه القيود، حيث تقوم بكين بالاستعانة بشركات واجهة لشراء التقنيات المستهدفة نيابة عن الصينيين دون أن تظهر الأولى في الصورة، وهي ليست طريقة مستحدثة على كل حال، حيث سبق للولايات المتحدة أن اعتقلت رجل أعمال شهير من هونغ كونغ منتصف الثمانينيات بدعوى شراء تكنولوجيا مراقبة رادارية وشحنها بشكل غير قانوني إلى بكين.
أما الطريقة الثالثة التي تحاول بها الصين سد الفجوة التكنولوجية فتعتمد ببساطة على التحايل وسرقة أسرار وتقنيات الشركات الغربية، معتمدة في ذلك على مزيج بين الاستخبارات البشرية وعمليات القرصنة، ونتيجة لذلك، كانت الصين، وفقا(19) لتقرير نشرته مؤسسة كراود سترايك للأمن الإلكتروني العام الماضي 2018، كانت أكثر الدول توظيفا لخدمات القراصنة، حيث استعانت بهم لاختراق قطاعات مختلفة شملت التكنولوجيا الحيوية والتعدين والأدوية والنقل. ففي عام 2011 على سبيل المثال، قام خبراء صينيون بتجنيد عميل نمساوي يعمل في شركة أميركية للموصلات الكهربية تشرف على برنامج متطور لإدارة توربينات الرياح، حيث تم إقناع العميل بتسليم شفرة المصدر لشركة سينوفل الصينية مقابل مبلغ 1.7 مليون دولار، وعندما قامت الشركة الأميركية بمقاضاة الشركة الصينية فإن سينوفل لجأت لتوظيف القراصنة لاختراق خوادم الشركة الأميركية وسرقة إستراتيجيتها القانونية.
وقد جرى استخدام الأسلوب ذاته ضمن مساعي الصين لسرقة تكنولوجيا أشباه الموصلات من شركة ميكرون الأميركية في ولاية إيداهو خلال العام الماضي، حيث قامت شركة أشباه الموصلات التايوانية “united microelectronics corporation” بتوظيف مديرين في ميكرون لسرقة الأسرار التجارية المرتبطة بإنتاج أشباه المواصلات، قبل أن تقوم بتوفير عروض مغرية للموظفين أنفسهم الذين جلبوا تقنيات ميكرون، في الوقت الذي دخلت فيه الشركة التايوانية في شراكة من الباطن مع شركة جينهوا الحكومية المملوكة للدولة الصينية لأجل توفير التقنية لصالح بكين.
شركة أشباه الموصلات التايوانية “united microelectronics corporation” (مواقع التواصل)
يمكننا تطبيق القاعدة(20) ذاتها على عشرات إن لم يكن مئات من عمليات التجسس الصينية الحكومية مفتوحة المصدر التي جرت خلال العقد الأخير على وجه التحديد، حيث يبدأ الأمر مع شركة صينية أو شركة واجهة تعمل مع الصين تسعى للدخول في شراكة مع إحدى الشركات الأميركية المستهدفة، وفي الوقت ذاته، فإنها تبذل جهودا موازية لسرقة أسرار التكنولوجيا المستهدفة سواء من خلال العملاء البشريين أو عبر توظيف القراصنة أو عبر مزج الأسلوبين معا.
ولكن يبدو أن بكين لم تعد قانعة بعمليات التجسس الصناعي الفردي، فلجأت مؤخرا إلى تطوير جهودها نحو نهج من التجسس الجماعي، حيث كشفت(21) بلومبيرغ في أكتوبر/تشرين الأول الماضي عن قيام وحدة عسكرية صينية بتطوير رقاقة حاسوبية أكبر بقليل من حجم حبة الأرز، مع قدرات تخزينية وشبكية وكفاءة معالجة متطورة، وتم زرع هذه الرقاقة في المصانع الصينية التي تقوم بصناعة المكونات لصالح شركة “سوبريميكو” وهي أكبر شركة لإنتاج لوحات المعالجة الأم في العالم، ومنها تم بيع اللوحات المعدلة صينيا لأكثر من 30 شركة كبرى بما في ذلك أمازون وأبل وغيرهما من كبريات الشركات الأميركية.
وفيما يبدو، فإن الشركات الصينية، الحكومية والخاصة، لا تمارس هذا النهج من التجسس الصناعي في الولايات المتحدة فحسب ولكن في أوروبا أيضا، وهو ما يتوافق مع المعلومات التي جرى الكشف عنها العام الماضي حول تخطيط خلية استخباراتية صينية لسرقة تصاميم ومعلومات محرك توربيني للطائرات من شركة طيران فرنسية لها مكتب في سوتشي عبر زرع برامج ضارة داخل خوادم الشركة الفرنسية، في الوقت الذي وظف فيه الصينيون موظفا مرموقا في قسم تكنولوجيا المعلومات داخل الشركة نفسها لتغطية آثار المتسللين الصينيين وفقا للوائح الاتهام الصادرة في القضية.
في واقع الأمر، لم تكن هذه أول واقعة مرصودة للتجسس الصيني على الشركات الفرنسية الذي يعود لسنوات طويلة فيما يبدو، وتعود(22) أبرز فصول هذا الملف إلى أواخر عام 2010، حين قامت شركة رينو الفرنسية بشكل مفاجئ بإيقاف ثلاثة موظفين في برنامجها المتطور للسيارات الكهربائية عن العمل بدعوى تسريب أسرار البرنامج إلى الصين مقابل مبالغ مالية ضخمة، مبالغ وصفت آنذاك بأنها أكبر استثمار مالي استخباراتي للصين منذ عهد “لاري تشين”.
لا يقتصر النشاط الصيني في أوروبا على فرنسا وحدها بالطبع، حيث تبرز(23) المخاوف حول أنشطة صينية مماثلة في العديد من الدول الأوروبية وعلى رأسها بريطانيا وإيطاليا وهولندا وبالقطع ألمانيا أكبر الاقتصادات في الاتحاد الأوروبي، حيث أبلغ أكثر من 15% من الشركات الأوروبية عن وقائع مختلفة لسرقة البيانات فقط بين عامي 2015 و2017، وهي أنشطة تُكبّد تلك الشركات خسائر ضخمة، حيث تُقدّر فاتورة خسائر التجسس الإلكتروني في أوروبا وحدها بأكثر من 60 مليار يورو سنويا، وهو رقم مرشح للازدياد مع زيادة قيمة الشركة المعرضة للخطر، وارتفاع قيمة الخدمات التي تقدمها.
الحرب العالمية الدائمة
لا تقف الخسائر الاقتصادية للتجسس الصناعي الصيني عند حدود أوروبا فحسب كما هو واضح، وتعد الولايات المتحدة، المستهدف الأول من الأنشطة الصينية، أكبر المتضررين، حيث لا يسهم التجسس الصناعي في ردم الفجوة التكنولوجية بين الولايات المتحدة والصين، خاصة في المجالات العسكرية مثل الروبوتات ذاتية الحركة وإلكترونيات الطيران والأنظمة البحرية والتقنيات الفضائية، لكنه يتسبب أيضا في خسائر اقتصادية بقيمة مليارات الدولارات يتكبدها الاقتصاد الأميركي بشكل سنوي.
وتشير التقديرات المتحفظة إلى أن الاقتصاد الأميركي يخسر سنويا قرابة 320 مليار دولار كفاتورة لسرقة الملكيات الفكرية، وتتوزع هذه الخسائر بين فقدان عقود الصناعة المربحة وتراجع قدرات الإنتاج المحلي، وبين الخلل في الميزان التجاري وفقدان الوظائف، حيث يُقدّر الكونغرس الأميركي أن عمليات سرقة الملكيات الفكرية من الصين أدت إلى خسارة مليوني وظيفة في الولايات المتحدة، فضلا عن تأثير تراكمي بقيمة تريليونات الدولارات نتيجة لتراجع القدرة التنافسية للمنتجات الأميركية، وفي المقابل فإن 8% من الناتج الإجمالي المحلي للصين يأتي من تزييف الأعمال الإبداعية وتقليد البرمجيات والمنتجات الصناعية، بالإضافة إلى أن الصين لا تتحمل بهذه الطريقة تكاليف البحث والتطوير وأبحاث السوق ما يمكنها من طرح هذه المنتجات بأسعار تنافسية.
ورغم ذلك فإنه سيكون من المبالغة أن ندعي أن الصين تدير أنشطتها التجسسية واسعة النطاق فقط بهدف إلحاق الخسائر بالاقتصادات الغربية وتحقيق التفوق التجاري، وإن كان ذلك الهدف ليس غائبا عن أجندة بكين بشكل كامل، غير أن هذه الجهود ينبغي النظر إليها في سياقها الأوسع كجزء من سباق شديد الوطأة تخوضه الصين ضد هيمنة العالم الغربي، وتعد جولات السياسة ومعارك الاقتصاد والمناوشات العسكرية وحتى حروب الاستخبارات أجزاء تكمل بعضها البعض ضمن ذلك السياق الأوسع لإثبات الجدارة بالقيادة العالمية، أو المشاركة فيها على أقل تقدير.
كانت تلك الرسالة ظاهرة في الطريقة الدرامية التي رسمت بها بكين ملامح أكبر نصر استخباراتي حققته في مواجهة الولايات المتحدة ربما في تاريخها، وللمفارقة فإن هذا الانتصار وقع في مجال الاستخبارات التقليدية الذي تبرع فيه واشنطن، حين أقدم النظام الصيني(24) العام الماضي على إعدام أكثر من ثلاثين من الوكلاء الصينيين العاملين لصالح وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية في البلاد، بعد أن نجحت الاستخبارات الصينية في الأشهر السابقة للإعدام الجماعي في اختراق برنامج الاتصالات المشفر الخاص بالسي آي إيه، وهو ما أدى إلى تعطيل البرنامج الرئيس للاستخبارات الأميركية لجمع المعلومات في الصين وإيقافه بشكل تام.
في واشنطن، كان المسؤولون الأميركيون واضحين في اعترافهم بأن تلك كانت أكبر خسارة(26) للأصول الاستخباراتية منيت بها الوكالة منذ الكشف عن تجسس وكيل السي آي إيه السابق ألدرتش آميس وضابط التحقيقات الفيدرالي روبرت هانسن لصالح روسيا في عامي 1994 و2001 على الترتيب، وهو ما أدى إلى إطلاق سلسلة من التحقيقات كشفت(27) عن نجاح بكين في تجنيد ضابط سابق في سي آي إيه يُدعى جيري تشون شينغ، يبدو أنها استعانت به ليس فقط للإبلاغ عن قوائم العملاء الذين يعرفهم، ولكن للمساعدة في فك رموز نظام الاتصالات المشفر المعروف بـ “كوافكوم” للإيقاع بالشبكة الأميركية بأكملها.
كانت الشبكة الأميركية الصينية إذن مجرد فصل آخر للصراع الاستخباراتي بين الصين وواشنطن، لكنه فصل كتبت به بكين شهادة وفاة الكلاسيكيات التقليدية والزائفة في واشنطن حول ضعف كفاءة الاستخبارات الصينية وبيروقراطيتها والنهج العشوائي لعملها، وأثبتت أن الاستخباريين الصينيين، ورغم كونهم لا يملكون التقنيات شديدة التقدم التي تضاهي ما يملكه نظراؤهم الأميركيون، ولا يملكون ذلك الإرث الاستخباراتي الطويل وفائق الخبرة الذي يفخر به الروس مثلا، فإنهم سيكونون دوما قادرين على إرسال ألف شخص على أي شاطئ مهما كان موقعه، ليحمل كل منهم حبة رمل واحدة ويعود بها لبلاده، ثم ينتهي بهم الحال، دوما، وهم يعرفون عن الشاطئ أكثر مما يعرفه الجميع بحال.
الجزيرة