لا بد أن التساؤل الذي سيتبادر إلى الذهن، مباشرة، يتعلق بـ «الغرب الأوسط». فهل هناك مثل هذا الغرب؟ وإن كان، فما هو، وما هي ماهيته السياسية، وملامحه الجغراسية؟ وهل هناك «غرب» آخر، أم هي مجرد تسمية لا تنتمي للواقع العملي؟ ثم، وهذا هو الأهم، ما علاقة ذلك بالقمة العربية الأوروبية التي استضافتها مدينة شرم الشيخ المصرية أخيراً، على الأقل بخصوص ملفات المنطقة العربية «المتفجرة»، التي فرضت نفسها على جدول أعمال هذه القمة؟
في نظرنا، فإن البداية في التعاطي مع هذه التساؤلات، وغيرها، تتعلق بالتغير الحاصل في مضمون وملامح خريطة توزيع القوى الدولية الكبرى، والقوى الدولية الغربية خاصةً، في شكل يختلف عن ذلك الذي تعوَّد عليه العالم طيلة عقود. ولعل أهم محددات هذا التغير، هو التصدع -وليس مجرد «شروخ»- في الجدار الغربي، إلى الدرجة التي يمكن معها صك مصطلحات من قبيل الغرب الأوسط، والغرب الأقصى، قياساً إلى موقع «الوسط» من العالم، الذي تتمتع به المنطقة العربية.
في هذا الإطار، فإن «الغرب الأقصى»، من الوجهة الجغراسية، يتمثل في التوجه المُعبر عن الانعزالية الأميركية، أو ما يمكن أن نطلق عليه «حمائية ترامب»، الذي يأتي على خلفية شعار «أميركا أولاً» الذي يستهدف حماية التجارة الأميركية، في إطار المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة. وهنا، وعلى عكس ما يراه البعض، نود تأكيد أن الرئيس الأميركي الحالي، دونالد ترامب، ليس مجرد ظاهرة، أو محض حالة انفعالية، بل هو يُمثل رؤية سياسية متكاملة، رؤية «يمينية» تستند فلسفتها بشكل عميق إلى جذور في الثقافة الأميركية.
أما «الغرب الأوسط»، وهو ما يهمنا بالأساس الحديث عنه، هنا، فيتمثل في أوروبا «الغربية»، أو بالأحرى التوجه الذي تقوده ألمانيا، ومعها فرنسا، الذي تعبر عنه بقوة الاختلافات الحادة بينهما من جانب، وأميركا من جانب آخر، حول الكثير من القضايا الدولية، مثل قضايا التغير المناخي والتجارة الحرة وغيرها. أضف إلى ذلك، المعاهدة الجديدة، التي تم التوقيع عليها من جانب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون؛ تلك التي تأتي كاستجابة فرنسية ألمانية للتحدي الكبير الذي يمثله ترامب، الذي أحرج البلدين إلى حد الإهانة، ومعهما الاتحاد الأوروبي، بخصوص الحصص المالية لـ «ناتو».
وبالتالي، يبدو أن هذين الطرفين، يحاولان الوصول إلى رسالة واضحة للعالم، تؤكد أن الدولتين تتحركان نحو شراكة دفاعية أكثر تطوراً، تحتمل انضمام أطراف أوروبية أخرى؛ وتؤكد، في الوقت نفسه، مكانتهما كقوى دولية كبرى أقل اعتماداً على الآخرين، حتى لو كان ضمن هؤلاء الحليف الأميركي التاريخي.
وهكذا، تتبدى العلاقة بين «الغرب الأوسط»، الذي تقوده ألمانيا وفرنسا، ومعهما -إلى حد ما- إيطاليا، والقمة العربية الأوروبية، تلك التي تم الإعلان عن مشاركة 22 دولة أوروبية، فضلاً عن 16 دولة عربية، في جدول أعمالها. إذ تؤشر هذه العلاقة إلى التوجهات الجغراستية (الجغراستراتيجية)، التي ينبني عليها مثل هذا الحضور الغرب أوسطي، المكثف، في هذه القمة.
فإذا لاحظنا أن القمة تجري تحت شعار «الاستثمار في الاستقرار»؛ ولاحظنا، أيضاً، أنها قمة سبقتها قمتان، إحداهما في وارسو، والأخرى في ميونيخ؛ لنا أن نتبين بوضوح ملامح تلك التوجهات، على الأقل من منظور التصدع الجاري في العلاقة بين الغربين الأقصى والأوسط، أو بحسب المصطلحات الشائعة بين الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا.
ففي قمة وارسو، بدا التصدع في شكل «ثقوب» تتعلق –بالأساس- بكيفية مواجهة انفلات السلوك الإيراني المؤدي إلى عدم الاستقرار في المنطقة العربية؛ وهو التصدع الذي بدت أبعاده وأعماقه واضحة في قمة ميونخ، التي تحولت إلى منصة لتوجيه اللوم، وحتى الاتهامات بين «الغربين»، حيث بدا الطرفان بعيدين عن بعضهما في قضايا كثيرة، لم تقتصر على حلف «ناتو»، أو التعاطي مع إيران، وروسيا، ولكن تخطتها لتطال كيفية التعاطي مع الأزمة السورية ومحاربة الإرهاب.
فهل يسعى الغرب الأوسط إلى ملء الفراغ، الذي سيخلفه الانسحاب الأميركي من قضايا المنطقة العربية، وملفاتها المتشابكة والمعقدة؟؛ أم أن المسألة تتجاوز مجرد ملء الفراغ، لتصل إلى حدود الدخول على خط التنافس الاستراتيجي الحاصل في المنطقة؟
في نظرنا، فإن الاحتمال الأخير هو الأقرب إلى الواقع؛ إذ يكفي، هنا، أن نتأمل الساحة الليبية، كمثال، لنرى كيف أدى التراجع الأميركي إلى الدخول الأوروبي على خط التنافس الاستراتيجي، مع روسيا، في هذه الساحة؛ هذا، على رغم «المناكفة» الحاصلة بين فرنسا وإيطاليا هناك؛ ناهيك عن بريطانيا، التي فجرت مسألة التنافس مع روسيا في ليبيا منذ أشهر عدة.
لنا أن نتأمل، أيضاً، دلالات تصريح الممثلة العليا للشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي فريدريكا موغريني خلال الاجتماع الوزاري العربي الأوروبي في بروكسيل أوائل شباط (فبراير): «في حال العمل سوياً (الدول العربية والأوروبية)، فسيتم تحقيق المصالحة في كل من سورية واليمن وليبيا والمنطقة بأكملها»، خاصة أنها شددت على: «ضرورة حل الدولتين»، في إشارة إلى القضية الفلسطينية.
في هذا السياق، سياق الدخول الغرب أوسطي على خط التنافس الاستراتيجي، في المنطقة، يمكن تأكيد جهتين اثنتين: من جهة، هناك الموقف من الملف الإيراني؛ وهنا، لنا أن نلاحظ الرؤية الغرب أوسطية عموماً، والألمانية الفرنسية خاصة، في التعامل مع هذا الملف. ففي تصريح وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، دلالة غير مباشرة على هذه الرؤية؛ فهو تساءل، في مؤتمر ميونيخ عن: «السبب الذي يدفع واشنطن إلى خلق فراغ في سورية قد يُفيد طهران».
إلا أن المستشارة الألمانية، كانت أكثر وضوحاً في التعبير عن الموقف من الملف الإيراني؛ حيث جاء تصريحها، في ميونيخ، بأنها: «تتفق مع الأميركيين حول مخاطر إيران المتعلقة بتجاربها للصواريخ الباليستية»، لكنها عادت لتؤكد: «لا بديل عن الاتفاق النووي الإيراني، وأن المسائل الأخرى يتم التعاطي معها بشكل منفصل». ومن ثم، تبدو الرؤية، هذه، أبعد ما تكون عن الرؤية العربية، التي تستند إلى أن هذا الاتفاق هو ما أتاح الفرصة لإيران، لتنشط في أربع ساحات عربية، مؤدية بذلك إلى عدم الاستقرار فيها.
فهل تتمكن «الكتلة العربية» من التأثير في الرؤية «الأوروبية»، للاستفادة منها في الضغط على النظام الإيراني، لصالح الملفات العربية التي تشتبك معها طهران؟
من جهة أخرى، هناك الموقف من القضية الفلسطينية؛ وهنا، لنا أن نلاحظ أن الدول الأوروبية عمومًا، والغرب أوسطية منها بوجه خاص، تدرك أن مفتاح الاستقرار في المنطقة العربية يتمثل في قيام الدولة الفلسطينية، عبر القبول بـ «حل الدولتين». ومن ثم، تبدو هذه الرؤية -على خلاف الموقف من إيران- في حال من التوافق مع الرؤية العربية؛ وهو ما يعني أن الموقف «الأوروبي» متوازن إلى حد لا يمكن صرف النظر عنه، وعن إمكان تأثيره في مجريات التوصل إلى حل لقضية العرب المركزية.
فهل تتمكن «الكتلة العربية» من الاستفادة من هذه القوة المتوازنة، خاصة أن السنوات الماضية، التي تزيد على ربع قرن من الزمان، قد أثبتت مدى الانحياز الأميركي لإسرائيل؟
الحياة