وفقًا لاستطلاع أجراه مؤخرًا “المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية”، يرى حوالى ثلثَي الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة أن اتفاقيات أوسلو أضرّت بالمصالح الفلسطينية. ولا ينبغي أن يفاجئ ذلك أحدًا. ففي نهاية المطاف، بعد مرور خمسة وعشرين عامًا على اتفاقيات أوسلو، لم يتحقق الهدف الفلسطيني الأساسي في التوقيع على الاتفاقيات، وتحديدًا إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية. فخلال السنوات الفاصلة، أصبحت الحركة الوطنية الفلسطينية منقسمةً سياسيًا وجغرافيًا بين “السلطة الفلسطينية” التي تحكمها حركة “فتح” في الضفة الغربية من جهة، وحكومة خاضعة لسيطرة حركة “حماس” في غزة من جهة أخرى، وتواجه كل من الحكومتين أزمات شديدة متعلقة بشرعيتها.
وفي حين أنه من السهل الاستنتاج أن قرار “منظمة التحرير الفلسطينية” بدخول عملية أوسلو للسلام كان خطأً، إنّ النظر في الوقائع السياسية في وقت الاتفاق، والمكاسب الفلسطينية الواردة في الاتفاقيات نفسها قد يرسم صورةً متعددة الأبعاد. فقبل اتفاقيات أوسلو، كانت “منظمة التحرير الفلسطينية” معزولةً إقليميًا ودوليًا وكانت تفقد سيطرتها الحصرية شيئًا فشيئًا على الأحداث التي تجري على الأرض. فقد أنهت اتفاقيات أوسلو هذه العزلة، وسمحت بعودة “منظمة التحرير الفلسطينية” إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأقامت ما يشبه طريقًا نحو الاستقلال. ومع ذلك، لا أحد ينكر أن اتفاقيات أوسلو تمرّ بأزمة خطيرة بسبب فشل المفاوضات وسجلّ الحكم السيئ في “السلطة الفلسطينية”. وطالما لم يتغيّر المسار الحالي، قد تتحول هذه الأزمة قريبًا إلى انهيار من المحتمل أن تتردد أصداؤه إلى خارج حدود السياسة الفلسطينية.
عالم جديد غير مألوف
نطرًا إلى الوضع الفلسطيني الحالي، من السهل الميل إلى المقارنة بين حاضر قاتم وماضٍ وردي من نسج الخيال. فواقع الفلسطينيين في أوائل التسعينيات كان بعيدًا عن المثالية. وفي الوقت الذي بدأت فيه مفاوضات أوسلو، كانت الحركة الوطنية الفلسطينية قد وصلت إلى طريق مسدود من الناحية الاستراتيجية، ولم تتوافر أمامها سوى خيارات قليلة ومستقبل غير واعد.
بحلول أوائل التسعينيات من القرن المنصرم، كان العالم يتحول إلى شيء لم تألفه “منظمة التحرير الفلسطينية” ولا قائدها ياسر عرفات. فقد كان عرفات ماهرًا في استخدام الحرب الباردة لمصلحته. وقد لعب على المنافسة بين الكتل السوفييتية وتلك الغربية لتعزيز مصالح الحركة الفلسطينية مع الحفاظ على استقلالها النسبي. وعلى المنوال نفسه، لعبت “منظمة التحرير الفلسطينية” أيضًا على التوترات والتناحرات في العالم العربي للحصول على دعم من الحكومات العربية في حين صدّت المحاولات المستمرة لوضع القضية الفلسطينية في خدمة أي دولة عربية معينة.
مع بلوغ الحرب الباردة مراحلها الأخيرة، لم يعد هذا النهج قابلاً للتطبيق. وبالنسبة لـ”منظمة التحرير الفلسطينية”، فإن الآثار العالمية والإقليمية للواقع الجديد قد تبيّنت بشكل ملموس ومؤلم في أعقاب احتلال صدام حسين للكويت. فإنّ قرار عرفات بالانحياز إلى صدام وكذلك تحيّز “منظمة التحرير الفلسطينية” إليه – على الرغم من عدم جدواه في سياق ديناميكيات الحرب الباردة، مع قول عرفات الشهير أنّ 15 كانون الثاني/ يناير 1991، التاريخ الذي حددته الأمم المتحدة لانسحاب العراق من الكويت، هو “مجرد تاريخ مثل كل التواريخ الأخرى” – شكّل ضربةً كبيرةً لـ”منظمة التحرير الفلسطينية”، حيث وجدت المنظمة نفسها معزولةً عالميًا وإقليميًا بسبب وقوفها إلى جانب صدام.
في ظل غياب كتلة سوفييتية للتمحور حولها، ومع إجماع عربي لدعم تحرير الكويت، تقلّص هامش المناورة الدبلوماسي الذي كانت تتمتع به “منظمة التحرير الفلسطينية” بشدة. ومع قيام دول “مجلس التعاون الخليجي” بقطع جميع الروابط مع “منظمة التحرير الفلسطينية” ووقف دعمها المالي لها، لم تكن الأزمة مجرد أزمة دبلوماسية قابلة للاشتداد مع مرور الوقت، بل أزمةً مالية ذات تداعيات ملموسة وفورية.
ومع إطلاق الولايات المتحدة ما كان سيصبح “مؤتمر مدريد للسلام” بعد حرب الخليج، أصرّت إسرائيل على عدم إشراك “منظمة التحرير الفلسطينية” في جهود السلام. وبما أن “منظمة التحرير الفلسطينية” لم تكن قادرةً على فرض وجودها في مدريد أو حتى إفشال كافة الجهود المبذولة، كان عليها الإذعان لحقيقة أن الفلسطينيين لا يتمتعون بتمثيل مستقل. وبدلاً من ذلك، فقد مثلهم فلسطينيون من الأراضي الفلسطينية المحتلة لا ينتمون إلى “منظمة التحرير الفلسطينية” تحت مظلة وفد أردني-فلسطيني مشترك.
وقد بيّن ذلك ضعف “منظمة التحرير الفلسطينية”. ففي سبعينيات القرن المنصرم، واجهت منظمة التحرير الفلسطينية بقوة وبنجاح محاولات إسرائيل لإنشاء قيادة فلسطينية بديلة داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة تحت عنوان “روابط القرى”. وعلى الصعيد الدبلوماسي، عندما حاولت مصر والأردن تأدية دور تمثيلي في القضية الفلسطينية – الأولى خلال قمة كامب ديفيد عام 1978 والأخيرة في اجتماع “اتفاقية لندن” عام 1987 – نجحت “منظمة التحرير الفلسطينية” في عزل مصر إقليميًا، وفي الضغط على الأردن لعدم المضي قدمًا في الاتفاق. ومع ذلك، في عام 1991، لم يكن أمام “منظمة التحرير الفلسطينية” أي خيار سوى القبول بما كان يمكن أن يكون لعنةً قبل سنوات قليلة.
خارطة سياسية متغيرة
في الوقت الذي وصل فيه موقع “منظمة التحرير الفلسطينية” الدبلوماسي إلى الحضيض، فقدت المنظمة سيطرتها على السياسة الفلسطينية أيضًا. فجزء من النداء الأولي لـ”منظمة التحرير الفلسطينية” الذي سمح لها أن تبرز في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن المنصرم كالممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني كان قدرتها على تنظيم السكان الفلسطينيين، لا سيّما اللاجئين، وحشد المقاومة ضد إسرائيل بشكل ملموس. وفي هذا الإطار، شكّل الأردن المكان المنطقي لتتمركز فيه “منظمة التحرير الفلسطينية”، حيث كان يضم أكبر عدد من الفلسطينيين اللاجئين والمقيمين في الضفة الغربية، فضلاً عن تمتعه بأطول حدود مع إسرائيل. ولكن، مع ازدياد قوة “منظمة التحرير الفلسطينية”، بدأت هذه الأخيرة تتحدى الدولة الأردنية، ما أدى إلى طردها من البلاد بعد صراع “أيلول الأسود” الذي نشب بين “منظمة التحرير الفلسطينية” والقوات المسلحة الأردنية في عام 1970. فانتقلت بعدها إلى لبنان، وسرعان ما تورّطت في الحرب الأهلية في البلاد إلى أن تم طردها في نهاية المطاف في عام 1982 بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان. وبحلول منتصف الثمانينيات، اتخذت “منظمة التحرير الفلسطينية” من تونس مقرًا لها، وهي بلاد تبعد حوالى 1,400 ميل عن الأراضي الفلسطينية المحتلة مع عدد ضئيل من السكان الفلسطينيين.
ومع إبعاد “منظمة التحرير الفلسطينية” أكثر عن مسرح العمليات وتجمعات اللاجئين الفلسطينيين، بدأ المتحدّون في الظهور وأصبحت سيطرتها على الشؤون الفلسطينية ضعيفة. وقد تجلى ذلك بشكلٍ كبير في اندلاع الانتفاضة الأولى، عندما انتشرت بسرعة المواجهات بين القوات الإسرائيلية والفلسطينيين التي بدأت في غزة في أوائل كانون الأول/ديسمبر 1987 إلى الضفة الغربية والقدس الشرقية.
وشكّل اندلاع الانتفاضة، الذي لم تخطط له “منظمة التحرير الفلسطينية” أو حتى تتوقعه، تحديًا للمنظمة. فإن السرعة التي أوجَد بها الفلسطينيون في الأراضي الفلسطينية المحتلة كل من التنسيق وآليات الدعم والقادة الذين يمكن تحديدهم للانتفاضة تشير إلى ضعف سيطرة “منظمة التحرير الفلسطينية” على السياسة الفلسطينية. وبينما كان هؤلاء القادة يؤكدون ولاءهم لـ”منظمة التحرير الفلسطينية” ولا يزالون يعتبرونها القائد الشرعي للشعب الفلسطيني، رأى عرفات وزملاؤه أنّ حقيقة خروجهم من “منظمة التحرير الفلسطينية” وعدم خضوعهم لسيطرتها المباشرة أمر يدعو للقلق. وبالفعل، سعى الجزء الأكبر من السياسة الفلسطينية لأعوام لاحقة إلى إخضاع هؤلاء القادة لسيطرة “منظمة التحرير الفلسطينية”، أو – في حال لم تنجح في ذلك – إلى تهميشهم.
كما أدّى اندلاع الانتفاضة إلى إدخال مخطط جديد منظّم في السياسة الفلسطينية، وبالتحديد النزعة الإسلامية التي اتخذت شكل حركة “حماس”، والتي برزت بعد أيام قليلة من اندلاع الانتفاضة. وبينما كانت حركة “حماس” مصدر مضايقة عابر في تلك المرحلة، كانت تنخرط في اتجاهٍ إسلامي متنامٍ اكتسب زخمًا في كافة أنحاء العالم العربي في الثمانينيات. ومن خلال رفضها الانضمام إلى “منظمة التحرير الفلسطينية”، تحدّت “حماس” شرعية ادعاء المنظمة بأنها الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني.
خوض غمار عاصفة هوجاء
بعد تهميشها دبلوماسيًا وملاحظة تصدعات مبكرة في سيطرتها على السياسة الوطنية، كان لا بدّ أن تتحرّك “منظمة التحرير الفلسطينية” أو تواجه زوالاً محتملاً. فهذا الشعور بالإلحاح لم يأتِ نتيجة التحديات التي تطرحها هذه التطورات أمام ميول عرفات السلطوية – على الرغم من أنه بالطبع لا يمكن تجاهل ذلك – بل مسّ أيضًا بشاغلٍ استراتيجي لـ”منظمة التحرير الفلسطينية” والقضية الفلسطينية.
لقد حفل تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية بالنضال من أجل تولّي الفلسطينيين شؤون تمثيلهم وإنقاذه هذا الأخير من قبضة الدول العربية المجاورة التي رغبت في استغلال قضيتهم بشكل مباشر (كما هو الحال في اتفاق كامب ديفيد أو اتفاقية لندن) أو بشكل غير مباشر عن طريق وكلاء فلسطينيين، وبشكل أساسي أولئك الذين تشجعهم أو تنشئهم أنظمة البعث في سوريا والعراق. وبالمثل، قاتلت “منظمة التحرير الفلسطينية” بشدة لكي يتم الاعتراف بها كالممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، وكان ظهور كل من “حماس” والقادة المستقلين في الأراضي الفلسطينية المحتلة يشكل تهديدًا للاعتراف الواسع الذي تحقق بشق الأنفس.
لذا حرصت “منظمة التحرير الفلسطينية” كخطوة أولى على ألاّ تحرز الوفود الفلسطينية في مدريد (والمحادثات اللاحقة في واشنطن العاصمة) أي تقدم. وبما أنّ الوفود لا تزال ملتزمةً بـ”منظمة التحرير الفلسطينية”، وكونها كانت تتخوّف من أن يتم استغلالها لإضعاف التمثيل الفلسطيني، قامت الوفود بالمماطلة بناءً على تعليمات عرفات باتخاذ مواقف صارمة، وسرعان ما توقفت المحادثات. ولكن الاستراتيجية المفسدة هذه لم تستمر مع مرور الوقت، وأصبح من الواضح لقادة “منظمة التحرير الفلسطينية” الذين يقبعون في تونس أن خيارهم الوحيد هو التوصل إلى اتفاق مباشر بديل مع إسرائيل. وعلى هذا الأساس، شكّل البدء بإنشاء قناة سرية مباشرة مع الإسرائيليين في النرويج فرصةً لا يمكن تفويتها.
مكاسب اتفاقيات أوسلو
في حين شكّل الافتقار إلى بدائل ملائمة حافزًا للانضمام إلى عملية أوسلو، إن قرار التوقيع على الاتفاقيات كان قائمًا على المكاسب الجوهرية التي كانت ستحققها للفلسطينيين والمنصوص عليها في الاتفاقيات نفسها. وعلى وجه التحديد، قدمت اتفاقيات أوسلو للجانب الفلسطيني ثلاث فوائد رئيسية. الفائدة الأولى كانت الحصول على اعتراف من إسرائيل. وبينما جاء ذلك بمقابل، وهو اعتراف “منظمة التحرير الفلسطينية” بإسرائيل، كان هذا الثمن امتدادًا طبيعيًا لقرار “منظمة التحرير الفلسطينية” لعام 1988 بالاعتراف بالقرار 242 الصادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، حيث كان قد تمّ بالفعل إنجاز الجزء الأصعب. ومن جهة أخرى، فإنّ الاعتراف الإسرائيلي بكون “منظمة التحرير الفلسطينية” هي “ممثل الشعب الفلسطيني” قد جلب عددًا من المزايا للمنظمة. وعلى وجه التحديد، أنهت محاولات إسرائيل العرضية لتشجيع قيادة فلسطينية بديلة، سواء من خلال “روابط القرى” في السبعينيات أو لاحقًا عن طريق إرسال الوفود الفلسطينية إلى مدريد. وفيما فشلت هذه المحاولات – من خلال الرفض العلني في ما يخص “روابط القرى” أو رفْض الوفود نفسها في ما يتعلق بمدريد – وضع الاعتراف المتبادل حدًا لهذا التهديد المستمر.
بالإضافة إلى ذلك، ولعل هذا الأمر هو الأكثر أهميةً، فتح اعتراف إسرائيل بـ”منظمة التحرير الفلسطينية” الباب أمام مشاركة جدية مع الولايات المتحدة – وهو هدف “منظمة التحرير الفلسطينية” منذ السبعينيات على الأقل. وفي حين سمح الرئيس رونالد ريغان في عام 1988 لوزارة الخارجية بـ”الدخول في حوار جوهري مع ممثلي “منظمة التحرير الفلسطينية””، كان هذا الحوار، في أحسن الأحوال، متعثرًا وتم تعليقه في عام 1990. وتجدر الإشارة إلى أنّ اعتراف إسرائيل بـ”منظمة التحرير الفلسطينية” أدّى أيضًا إلى تغيير هذا الوضع وسمح للمنظمة بتطوير علاقات قوية، إنما معقّدة، مع الولايات المتحدة. فقد أدّت هذه التطورات إلى رفع العزلة الإقليمية عن “منظمة التحرير الفلسطينية” وسمحت باستئناف العلاقات مع الدول العربية الخليجية والتمويل الذي تقدّمه.
أمّا الفائدة الثانية الرئيسية فكانت تأسيس “السلطة الفلسطينية”. ففي حين أن “السلطة الفلسطينية” قد فقدت مصداقيتها أمام عدد كبير من الفلسطينيين اليوم، كان تأسيسها الناتج عن اتفاقيات أوسلو مكسبًا استراتيجيًا، وفي ذلك الوقت، انتصارًا سياسيًا. كما أنّ طرد “منظمة التحرير الفلسطينية” من الأردن ولبنان – على الرغم من أن ذلك جاء في معظمه نتيجة تصرفات “منظمة التحرير الفلسطينية” نفسها – أقنع قادة “منظمة التحرير الفلسطينية” بأن كونهم ضيوف لدى دولة أخرى قد وضعهم في موقع ضعف. وحتى في تونس، حيث لم يتدخل القادة في الشؤون التونسية، لم يكن الوضع مثاليًا. فاستمرت “منظمة التحرير الفلسطينية” في فقدان جدواها بسبب بُعدها عن موطن الحركة فيما بقيت عرضةً للهجمات، سواء من قبل إسرائيل أو المنظمات الفلسطينية المتنافسة المدعومة من الأنظمة العربية. ويشار إلى أنّ إنشاء “السلطة الفلسطينية” مكّن قادة “منظمة التحرير الفلسطينية” لأول مرة من السيطرة على السكان الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية. وعلى الرغم من أن اتفاقيات أوسلو منحت صلاحيات محدودة لـ”السلطة الفلسطينية” فحسب، وحصرت المنطقة والسكان الذين خضعوا لهذه السلطة، منحت السلطة ما يكفي من الصلاحيات لإعادة تأكيد أولوية “منظمة التحرير الفلسطينية” في ما يخص الشؤون الفلسطينية.
واليوم، لا تزال “السلطة الفلسطينية” قائمة. وفي حين يمكن انتقاد “السلطة الفلسطينية” بشكل كبير وبصورة مبررة، لقد أثبتت حتى الآن قدرتها على الصمود فضلاً عن تأديتها وظائف مهمة بالنسبة للفلسطينيين. ففي ما يتعلق بالحوكمة، يدير القادة الفلسطينيون اليوم نسبةً كبيرة من شؤون الحياة اليومية للفلسطينيين. وبينما تحتفظ إسرائيل بسلطة شاملة، فإن حيّز الحكم الذاتي الفلسطيني وممارسة الحياة السياسية والوطنية لم يسبق له مثيل. وعلى الرغم من القيود الملازمة على “اللسلطة الفلسطينية”، لقد حقق تأسيسها قدرًا من الاستقرار للمؤسسات الوطنية الفلسطينية أكثر من أي وقت مضى في التاريخ الفلسطيني الحديث.
وعلى الرغم من التوترات المستمرة مع إسرائيل، بما في ذلك الاستيلاء الإسرائيلي الكامل على الأراضي الخاضعة لـ”السلطة الفلسطينية” خلال الانتفاضة الثانية، لا تزال “السلطة الفلسطينية” أقل عرضةً للتشريد من “منظمة التحرير الفلسطينية” خلال فترة وجودها في الأردن ولبنان وتونس.
وعلى الصعيد الدبلوماسي، يعامل المجتمع الدولي “السلطة الفلسطينية” كعنوان معترف به وله عدد كبير من المكاتب التمثيلية الدولية الموجودة في رام الله والمعتمدة لديها. وفي حال نشوء دولة فلسطينية، فإن مؤسسات “السلطة الفلسطينية” – رغم أنها تقتضي إصلاحًا وتطويرًا كبيريَن – تكون جاهزةً لتوفير أسس هذه الدولة.
وأخيرًا، تمتّعت اتفاقيات أوسلو بالأحكام الكافية لتمكين “منظمة التحرير الفلسطينية” من إنشاء سرد موثوق به يقضي بأن الاتفاقيات تمثّل أولى معالم إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية. وفي حين أن الاتفاقيات نفسها لا تحتوي على أي ذكر لدولة فلسطينية، فإن حقيقة اعترافها بالضفة الغربية وغزة كوحدة إقليمية واحدة وتضمنها التزامًا بالتفاوض حول القضايا الجوهرية للنزاع سمحت بظهور توقع معقول بأن هذه العملية ستنتهي بإقامة دولة فلسطينية.
وبالفعل، مع تقدّم مفاوضات أوسلو، أصبح حل الدولتين موضوع توافق دولي قريب. وفيما أنه من السهل أخذ هذا الأمر كتحصيل حاصل، لم يكن كذلك دائمًا. فلعلّ الفلسطينيين ومؤيديهم افترضوا أن هذه ستكون النتيجة النهائية لعملية أوسلو، غير أن ذلك لم يُذكر صراحةً في الاتفاقية، ولم يكن بالضرورة مدعومًا من القادة الإسرائيليين والأمريكيين في السنوات الأولى من اتفاقيات أوسلو. فقد استلزم الأمر وجود زعيمين لا يرتبطان عادةً بالاعتدال في المخيلة العامة للوصول إلى هذه النقطة، وهما جورج دبليو بوش وآرييل شارون. فقد بلغ تعميم حل الدولتين ذروته في عام 2003 عندما تبنى مجلس الأمن بالإجماع القرار رقم 1515، متوخيًا قيام دولة فلسطينية تعيش بسلام وأمان جنبًا إلى جنب مع إسرائيل.
وفي حين أن هذا الإجماع الديبلوماسي لن يغيّر في حد ذاته الحقائق على أرض الواقع، ولن يفضي إلى إنشاء دولة فلسطينية، لا يزال يعتبر مهمًا. فهو يضع خط الأساس وله تأثير معياري على العلاقات الدولية، ويحدد ما هي الإجراءات التي تعتبر مشروعةً أو وتلك غير المشروعة. ولعل الأهم من ذلك أنه مع استمرار واقع الشرق الأوسط المضطرب، بالإضافة إلى تأييد حل الدولتين المتذبذب ومناشدته السياسية على طول الطريق، يحافظ هذا الإجماع الدولي على مفهوم حل الدولتين ويوفر نقطة انطلاق للجهود الدبلوماسية المستقبلية. وبهذه الطريقة، يكون حل الدولتين قد نما ليشبه مبدأ الأرض مقابل السلام المنصوص عليه في القرار رقم 242، الذي ظل ساكنًا لسنوات عدة إنما شكّل أساسًا حاسمًا لإطلاق المفاوضات في مدريد عندما سمحت الظروف بذلك.
النصف الفارغ من الكأس
في حين أن عدد كبير من المؤسسات التي أنشأتها أوسلو قد نجت، وأصبحت بعض المبادئ الموضوعة فيها حكمةً تقليدية، سيكون من التفاؤل المفرط عدم الاعتراف بالأزمة العميقة التي تواجهها الحركة الوطنية الفلسطينية. فلا يرى معظم الفلسطينيين اليوم طريقًا مقنعًا للاستقلال، وقد فقدوا الثقة في الأيديولوجيات والقادة والمؤسسات السياسية – ويلقي الكثير من هؤلاء الفلسطينيين اللوم على هذا التشاؤم والسخرية على اتفاقيات أوسلو.
لقد ولّد الوعد بالتحرير من خلال الدبلوماسية حماسًا وأملًا هائلَين في السنوات الأولى التي تلت اتفاقيات أوسلو في عام 1993 وعام 1995، ليليه الإحباط جراء الفشل المتكرر في التوصل إلى حل الدولتين المتفاوض عليه. ولم تفشل الدبلوماسية في ضمان الاستقلال فحسب، بل حتى التغييرات الواضحة في حياة الفلسطينيين في أوائل ومنتصف التسعينيات أصبحت شيئًا من الماضي، مع المدافعين عن الدبلوماسية اليوم الذين يصعب عليهم الإشارة إلى أي نتائج ملموسة في السنوات الأخيرة. وفي هذه العملية، تضاءل الإيمان العام بكفاءة الديبلوماسية وحتى شرعيتها بشكل كبير.
والجدير بالذكر أيضًا أنّ البديل التقليدي – أي العودة إلى المقاومة المسلحة باستخدام العنف والإرهاب – قد أثبت عدم فعاليته. فقد دفع الفلسطينيون ثمنًا باهظًا خلال الانتفاضة الثانية. وبعد ثلاث حروب دارت بين إسرائيل و”حماس” في غزة، التي لم تسفر إلا عن نتائج كارثية لسكان غزة، فإن فكرة أن الاستقلال سيتحقق من خلال العمل المسلح قد فقدت كل مصداقيتها. وحتى “حماس” اليوم تبدو مقتنعةً في الحد من مطالبها من إسرائيل لتنحصر في تحسين الظروف المعيشية في غزة.
لا يؤثر فشل أوسلو في إنهاء الاحتلال على مصداقية الدبلوماسية كأداة فحسب، بل يؤدي إلى فقدان ثقة الفلسطينيين في حل الدولتين. ومع تداعي المفاوضات في التسعينيات وأوائل الألفية الثانية، ظلّ معظم الفلسطينيين ينظرون إلى حل الدولتين على أنه النتيجة المرجوة، إنما زاد شكّهم في فرص تحقيقه. ومن المفارقات أنه بعد أن حقق حل الدولتين المزيد من التطور ليصبح موضوع توافقٍ دبلوماسي دولي، كان يفقد الدعم على الأرض.
يمكن القول إن مثل هذه النتيجة كانت حتميةً سواء مع اتفاقيات أوسلو أو بدونها. ففي نهاية المطاف، جاء الدخول في اتفاقيات أوسلو إلى حد كبير نتيجة إدراك الفلسطينيين أنه في الوقت الذي ساعد فيه كل من المقاومة المسلحة وتبني المواقف الدبلوماسية المتطرفة وغير المرنة على جعل القضية الفلسطينية محور الاهتمام العالمي، فإنّ هذه النُهُج لن تسفر عن حل للقضية. ومع ذلك، تقلّ أهمية مثل هذه الافتراضات المنافية للواقع عندما تواجه حقيقة أن المأزق الاستراتيجي الحالي حدث في سياق اتفاقيات أوسلو. واليوم، من الصعب العثور على فلسطينيين لا يلومون الاتفاقيات على محنتهم.
وفي حين يمكن لوم كلا الطرفين (وأطراف أخرى كثيرة في المجتمع الدولي والإقليمي) على فشل الدبلوماسية، هناك عاملٌ آخر ساهم في زوال اتفاقيات أوسلو، وهو الفلسطينيون أنفسهم، أو بالأحرى، سجلّ “السلطة الفلسطينية” السيئ في الحكم. ويشار إلى أنه لم يتعين على قادة “منظمة التحرير الفلسطينية”، الذين يديرون حركةً من المنفى، مواجهة تحديات الحكم خارج نطاق جهاز المنظمة أو العدد القليل نسبيًا من الفلسطينيين الذين كانوا على اتصال مباشر به خلال سنوات وجودهم في المنفى. وبالمثل، لم يختبر معظم الفلسطينيين بنفسهم الفائض الذي ميّز حياة الكثيرين في الأوساط العليا في “منظمة التحرير الفلسطينية”.
يشار إلى أنّ إنشاء “السلطة الفلسطينية” بموجب اتفاقيات أوسلو قد غيّر هذه الحقيقة. فقد أنشأ عرفات وشركاؤه “السلطة الفلسطينية” على نحو عدد كبير من الدول العربية الأخرى: الفساد كان متفشيًا، والوظائف الحكومية كانت تعتمد على المحاصصة كوسيلة لضمان الولاء السياسي، ومجموعات تضم كبار القادة كانت تتجاهل القانون وتتباهى بامتيازاتها بشكل استفزازي. في هذا السياق، بدأ التصور الفلسطيني العام إزاء القادة يتغير ببطء لكن باطّراد ليتحول من تأليه إلى شكّ، وحتى إلى الإبغاض. وفي حين أن ذلك لم يكن عمليةً متسلسلة – كان على الفلسطينيين دائمًا أن يوازنوا بين شكوكهم في أداء قياداتهم المحلية من جهة، ودعم هؤلاء القادة أنفسهم في سعيهم لمواجهة وإنهاء الاحتلال من جهة أخرى – إلاّ أنه كان في النهاية عاملاً رئيسًا في تدهور مصداقية هؤلاء القادة وشرعيتهم، لا سيّما مع تلاشي الآمال بإنهاء الاحتلال.
وقد نجح عرفات في تجاوز هذا الأمر وحافظ على صورته الحسنة أمام الفلسطينيين إلى حد كبير. ويُعزى ذلك لعدد من العوامل، ومنها تاريخه كأب مؤسس للحركة الوطنية الفلسطينية الحديثة وأسلوبه الشمولي للحكم، على الرغم من أنه لم يكن ديمقراطيًا بأي شكل من الأشكال، فقد كان متسامحًا مع المعارضة إلى حدٍ ما وأشرك أصحاب المصلحة ومكّنهم من الوصول إليه. أضف إلى ذلك قدرته الكبيرة على استخدام بطاقة “المقاومة”. ففي عهد عرفات، ربما يكون الإحباط العام إزاء الحكم السيئ في “السلطة الفلسطينية” قد أدى إلى معارضة متزايدة له ولحركة “فتح”، إلا أنه لم يصل إلى حد تشكيك الشعب الفلسطيني في شرعيته – وبالتالي شرعية “السلطة الفلسطينية”.
إلا أن خليفة عرفات محمود عباس لا يتمتع بالأصول نفسها. وفي حين بدأ عباس ولايته بالسماح بإجراء عملية إصلاحية في عهد رئيس الوزراء سلام فياض، عمد إلى عكس مساره في نهاية المطاف. فهو يفتقر إلى مكانة عرفات التاريخية وجاذبيته، وهو عديم التسامح مع الاختلاف والنقد، كما أنه أكثر ارتياحًا للتعامل مع قادة العالم من إشراك الأوساط المعنية. وتحت قيادة عباس، احتل الإحباط من حكم “السلطة الفلسطينية” الصدارة.
لقد استفادت حركة “حماس” في البداية من فشل “السلطة الفلسطينية” في توفير حكم جيد، وقدمت نفسها كالبديل، ونجحت في إدارة حملتها البرلمانية لعام 2006 على أساس الحكم الرشيد. وعندما انتزعت “حماس” بعنف السيطرة على قطاع غزة من “السلطة الفلسطينية” في عام 2007 وأصبحت السلطة الحاكمة الوحيدة هناك، تبيّن أنّ وعدها بالحكم الرشيد ليس إلاّ أوهام. وفي حين أن عدم قدرتها على تقديم الخدمات يمكن، في البداية على الأقل، أن يُبرّر بالعزلة المفروضة عليها من قِبل إسرائيل والمجتمع الدولي، فإن فسادها واتباعها نظام المحسوبية واستبدادها كلها خصائص تجعلها شبيهةً تمامًا بأنماط حكم “السلطة الفلسطينية”.
وأصبح معظم الفلسطينيين غير راضين من “حماس” و”السلطة الفلسطينية”، وهو شعور تجذّر بسبب عدم رغبة الطرفين في المصالحة بعد انقسام عام 2007. وقد هدر الطرفان الكثير من الطاقة السياسية ورأس المال في محاولة لإلقاء اللوم على بعضهما البعض بسبب فشل المصالحة. وعلى الرغم من أن نقاط الحوار هذه لاقت صدىً لدى مؤيديها الأساسيين، فقد بدت بالنسبة لمعظم الفلسطينيين وكأنها أعذار للحفاظ على الوضع الراهن للشقاق الوطني. فإن وجهة نظر الشعب حيال من كان المسؤول آنذاك عن انعدام الوحدة، تتأرجح قليلاً تبعًا للظروف. ومع ذلك، فإن الأغلبية الساحقة تلوم كلا الطرفين على الدوام، كما وازداد اعتقادها بأن كلا المنظمتين تدفعهما الاعتبارات الفئوية بدلاً من المصالح الوطنية.
كما أنّ عوامل مختلفة تتمثّل في فشل كلا الطرفين الفلسطينيين الرئيسيين في تقديم رؤية مقنعة للتحرير، وسجلّ إدارتهما الذي هو على نفس القدر من السوء، وعدم رغبتهما في السماح للبدائل بالظهور، قد جعلت غالبية الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة يفقدون إيمانهم بالأفكار القومية والأيديولوجيات والقادة والمؤسسات السياسية.
إصلاح الأساس
تقدّم اتفاقيات أوسلو صورةً مختلطة عن إنجازات لا يمكن إنكارها ومؤسسات دائمة من جهة، وخيارات متناقصة وتبدد آمال من جهة أخرى. وما لم يتمّ عكس المسار الحالي، ستنهار الحركة الوطنية الفلسطينية إلى جانب كافة مؤسساتها. فإنّ عدم إحراز تقدم في عملية السلام يقوّض الأساس الذي استندت إليه “منظمة التحرير الفلسطينية” منذ عام 1988 والذي تم إنشاء “السلطة الفلسطينية” عليه. ففي نظر عدد كبير من الفلسطينيين، لم تعد “السلطة الفلسطينية” أداةً لتحقيق رؤية نيّرة للتحرير الوطني، بل سلطة محليّة مبجّلة. وفي الوقت نفسه، لا يضعف الفساد وسوء الحكم والتضييق المطرد للحيز السياسي الداخلي مصداقية المؤسسات الوطنية والقيادة الفلسطينية فحسب، بل أيضًا شرعيتها، وذلك على نحو لا يختلف كثيرًا عن الظروف التي أدت إلى اندلاع الثورات العربية قبل بضع سنوات.
قد يكون إصلاح مؤسسات “السلطة الفلسطينية” صعبًا، لكنه – كما اتضح من رئيس الوزراء السابق فياض – ليس مستحيلاً. وبصرف النظر عمّا إذا كانت مثل هذه التحركات ستقود الفلسطينيين نحو الاستقلال – وهي مسألة تمت مناقشتها بشكل محتدم في الماضي – لا شك في أن الحد من الفساد وتحسين الكفاءة وفتح الآفاق السياسية يمكن أن تزيل نقطة ضعف كبيرة من السياسة الفلسطينية.
أما بالنسبة إلى عملية السلام، فإن اتفاقية سلام دائم ينتج عنها حل الدولتين ستؤدي إلى إعادة تنشيط مفاهيم اتفاقيات أوسلو وأحكامها بصورة نهائية. ولكن، من المستبعد إجراء مثل هذه الصفقة نظرًا إلى مواطن الضعف والانقسامات داخل الجهاز السياسي الفلسطيني، وغياب قادة فلسطينيين اليوم يتمتعون برأس المال السياسي اللازم لتقديم التنازلات الكبيرة الضرورية لتحقيق السلام. كما أن الوضع الحالي للسياسة الإسرائيلية وتحوّلها المطّرد نحو اليمين يلحقان الضرر بآفاق السلام.
عوضًا عن ذلك، إن الخيار الوحيد المتاح هو اتخاذ سلسلة خطوات أقل طموحًا وإنما ملموسة بشكل أكبر تؤثر على حياة الفلسطينيين (والإسرائيليين) مثل التوسيع المتواضع للمناطق الخاضعة لسيطرة “السلطة الفلسطينية” والتخفيف بشكل عام من أثر الاحتلال في الضفة الغربية. وفي حين أنّ مثل هذه التحركات لا ترقى إلى مستوى تطلعات الفلسطينيين، يمكنها أن توجد شعورًا بالتقدم، ما يسمح للقادة الفلسطينيين بالادعاء بأن التزامهم بالدبلوماسية وسياسة اللاعنف يدفع أمّتهم، وإن كان ببطء، نحو إنهاء الاحتلال، مع إعطاء الفلسطينيين شعورًا بالأمل في أن مستقبلهم قد يكون أفضل من حاضرهم.
أمّا قضية الوحدة الفلسطينية فهي أكثر تعقيدًا. وقد يجادل البعض بأن الوحدة الحقيقية مستحيلة بالنظر إلى أن طبيعة “حماس” تتنافى مع رؤية “منظمة التحرير الفلسطينية” في ما يتعلق بمعنى “التحرير”، أي حل الدولتين مقابل تدمير إسرائيل من أجل إقامة دولة فلسطينية تضم كافة أراضي فلسطين التاريخية. كما يختلف الطرفان بشكل أساسي حول نوع الدولة التي سيتم إنشاؤها بعد الاستقلال – أي دولة علمانية، وإن كانت محافِظة، أو دولة ثيوقراطية.
وفي حين أنّ المصالحة الحقيقية قد تكون بعيدة المنال، يمكن اتخاذ خطوات للبدء في معالجة الانقسام من خلال إعادة إدخال “السلطة الفلسطينية” إلى غزة. فهذا لن ينهي الانقسام ولكن سيُنشئ ديناميكية جديدة. واليوم، يؤدي الفصل الجغرافي بين “منظمة التحرير الفلسطينية” وحركة “حماس” في الضفة الغربية وقطاع غزة تباعًا إلى جعل الانقسام أكثر تجريدًا وإزالة أي شعور بالإلحاح أو أي آثار عملية منه. فإن عودة “السلطة الفلسطينية” إلى غزة، وإن كان في ظل ظروف غير مثالية، ستقرّب بين الطرفين وستجبرهما على معالجة خلافاتهما السياسية والأمنية بواقعية أكبر.
إعادة إحياء اتفاقات أوسلو تدريجيًا
لن تؤدي مثل هذه الإجراءات إلى إعادة إحياء اتفاقيات أوسلو على الفور، ولكن يمكنها أن تكسب الوقت أو أن تبدأ حتى في عملية إنعاشها. فيمكن للإصلاح السياسي والمؤسسي الفلسطيني أن يساعد في إعادة تأهيل مصداقية المؤسسات الفلسطينية وأن يوفر ديناميكيات سياسية قادرة على توفير قادة يتمتعون بالشرعية الكافية للانخراط في مفاوضات هادفة. (وبطبيعة الحال، يجب على السياسة الإسرائيلية أن تتغلب على تحدياتها الخاصة). فإن عودة “السلطة الفلسطينية” إلى غزة، وإن كان في ظل ظروف غير مثالية، يمكن أن يساهم في تفادي تحوُّل الانقسام الفلسطيني إلى انقسام دائم. ويمكن لخطوات متواضعة لكن ملموسة في عملية السلام أن تحافظ على فكرة أن التعاون قد يكون مثمرًا، وأن تمنح المصداقية لقيمة التعاون السلمي الفلسطيني-الإسرائيلي. فإنّ هذه التطورات مجتمعةً قد تكون قادرةً على إنشاء واقع جديد يمكن أن يستكمل أخيرًا العملية التي بدأت في أوسلو قبل خمسة وعشرين عامًا.
لكن يبقى الوصول إلى هذه النقطة محفوفًا بالشك بطبيعة الحال، إنّما البديل قاتم. إذ يشير كل من استمرار الركود في عملية السلام وتدهور السياسة الداخلية الفلسطينية والحوكمة إلى اضمحلال اتفاقيات أوسلو وانهيارها في نهاية المطاف مع كل مظاهرها – سواء كانت حل الدولتين أو “السلطة الفلسطينية”. فقد تكون الحركة الوطنية الفلسطينية ككل قد أصبحت مرتبطةً ارتباطًا وثيقًا باتفاقيات أوسلو لدرجة أنها قد لا تنجو من زوالها. ومن الواضح أنّ ذلك سيكون كارثيًا بالنسبة للفلسطينيين، لكنه سينشئ أيضًا فراغًا في الحكم والأمن – فالأضرار الناجمة عن ذلك قد تمتد إلى ما هو أبعد من الساحة الفلسطينية.
معهد واشنطن