دخلت الجزائر قبل أيام مرحلة انتقالية إثر استقالة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة. القيادة السياسية الجديدة في الجزائر ستوجه السياسة الخارجية للبلاد بشكل أكبر نحو البراغماتية، لكن هذا لا يعني التنازل عن بعض المبادئ الثابتة، تحت ضغط الشارع، وأعلنت السلطات الجديدة إجراء الانتخابات في 4 يوليو/ تموز المقبل لاختيار رئيس جديد.
ويبدو بشكل واضح أن البلاد تتجه نحو تغيير في القيادة سيؤدي إلى ظهور جيل جديد من السياسيين ونهاية ما يعرف بـ”الحرس القديم”، أو “المجاهدين” الذين شاركوا في الحرب ضد الاستعمار الفرنسي في الفترة بين 1954 و1962.
ودفعت هذه التطورات بأسئلة إلى الواجهة حول إمكانية تأثير تلك التغييرات على مواقف البلاد في المستقبل من القضايا الإقليمية والعربية والدولية بصفة عامة لكن خبراء يستبعدون حدوث تحول جوهري في السياسة الخارجية.
انتفاضة 1988 والسياسة الخارجية
ظلت الجزائر طيلة الفترة بين 1962 و1988، بلدا يسير اقتصاده على الطريقة الاشتراكية، وسمحت عملية التغيير التي جاءت بعد انتفاضة 5 أكتوبر/ تشرين الأول 1988، بانتهاج نمط التسيير الرأسمالي الخاضع لمراقبة الدولة.
لكن تغير النظام الاقتصادي في البلاد لم ينتج عنه أي تغير في تعاطي الدولة مع القضايا الخارجية، التي ظلت على نفس النهج السابق دون تغيير حتى اليوم.
وما زالت الجزائر إلى اليوم تصنف كأهم زبائن الصناعة العسكرية الروسية، وتحتفظ بعلاقات قوية مع موسكو، وفي ذات الوقت تعارض أي تدخل خارجي في أي بلد عربي أو إفريقي، وتدعم حركات التحرر، وبينها جبهة البوليساريو التي تطالب باستقلال إقليم الصحراء (عن المغرب).
كما تحتفظ بعلاقات جيدة مع كل من إيران وسوريا، وظل كذلك موقف الجزائر الرسمي والشعبي من القضية الفلسطينية ثابتًا، وهذه المواقف المحافظة في تسيير ملفات العلاقات الخارجية، تدفع للتساؤل حول طبيعة التغيير المتوقع في علاقات الجزائر الخارجية؟
4 مجموعات دولية
يقول نور الدين بوعجاج، المختص في العلاقات الدولية: “تبني الجزائر علاقاتها الخارجية على قاعدة براغماتية وهذا بالرغم مما يشاع حول الطبيعة المحافظة للمواقف الخارجية لها”.
ويضيف: “حتى في فترة الستينات والسبعينات عندما كانت الجزائر قريبة سياسيًا من المعسكر الشرقي إلا أنها كانت لديها علاقات جيدة مع الولايات المتحدة في الجانب الاقتصادي، ومع دول غربية أخرى”.
ويتابع بوعجاج: “أعتقد أن القيادة السياسية الجديدة في الجزائر ستوجه السياسة الخارجية للبلاد بشكل أكبر نحو البراغماتية، لكن هذا لا يعني التنازل عن بعض المبادئ الثابتة في السياسة الخارجية”.
القيادة السياسية الجديدة في الجزائر ستوجه السياسة الخارجية للبلاد بشكل أكبر نحو البراغماتية، لكن هذا لا يعني التنازل عن بعض المبادئ الثابتة
وكما يلفت إلى أن السياسة الخارجية للجزائر قسمت دول العالم إلى “4 مجموعات، هي الدول الصديقة وهذا تعبير – كان وما يزال – يستعمل في أدبيات وزارة الخارجية لتوصيف الدول التي ساندت ثورة التحرير بين عامي 1954 و1962 وهي دول المعسكر الشرقي سابقا إضافة إلى الصين وكوبا”.
ويوضح: “وهناك دول شقيقة وهي الدول العربية، ودول شريكة وهي تلك الدول التي ترتبط بعلاقات اقتصادية معها، ودولة لها علاقة تاريخية بالجزائر والمقصود بها فرنسا التي ترتبط بالجزائر بعلاقة استعمار تواصلت 132 سنة”.
57 سنة من ثبات المواقف
ومنذ استقلال الجزائر عن الاستعمار الفرنسي عام 1962، لم يتغير موقف رؤساء البلاد الذين تعاقبوا على حكم هذا البلد المركزي في المغرب العربي، من الكثير من القضايا الإقليمية والعربية والدولية.
وبقيت الجزائر من الدول العربية القليلة للغاية التي لم ترتبط بأي علاقة مباشرة أو غير مباشرة بإسرائيل، كما أنها بقيت على نفس النهج السياسي بعيدة عن التحالفات العسكرية، ورفضت السماح بإنشاء قواعد عسكرية أجنبية على أراضيها.
وحافظت كذلك على علاقة متوازنة مع دول ما يعرف بمحور المقاومة، وتحفظت إزاء ما سمي بالربيع العربي ورفضت التدخل العسكري الأجنبي في أي من الدول العربية.
وبدأ ذلك من التحالف الدولي لتحرير الكويت عامي 1990 و1991 وحرب العراق في عام 2003 والتدخل العسكري لإسقاط نظام العقيد معمر القذافي، ورفضت أيضًا أي حل خارج إطار حق تقرير مصير سكان إقليم الصحراء.
ويقول السبع توفيق، أستاذ العلوم السياسية في جامعة سيدي بلعباس، (غربي الجزائر) “إذا أردنا البحث في مواقف الدولة الجزائرية من القضايا الخارجية في العقود الستة الماضية فإنها تنسجم تماما مع مواقف حركات التحرر من الاستعمار في النصف الثاني من القرن العشرين”.
ويوضح: “هذا الأمر طبيعي بالنسبة لدولة حكمها 7 رؤساء كلهم شاركوا في ثورة التحرير ضد الاستعمار الفرنسي، بل إذا أردنا أن نبحث أكثر فإن عددًا كبيرًا من الوزراء في الحكومات المتعاقبة بين عامي 1962 و 1988 كانوا أيضا مناضلين سابقين في ثورة التحرر، وهذا ما دفع القيادة السياسية لانتهاج هذا النهج في السياسة الخارجية”.
ويضيف: “أعتقد أن مواقف الدولة الجزائرية من القضايا والملفات الإقليمية العربية والدولية لن تتغير كثيرًا حتى مع وصول جيل جديد من القادة الشباب إلى سدة الحكم بسبب ما أسميه أنا حالة التشبع بالقيم التحررية لدى غالبية الجزائريين”.
ومضى بالقول: “يجب أن نتذكر هنا أن الحراك الشعبي في الجزائر الذي بدأ يأخذ شكل ثورة تغيير سياسي عميقة تعد الوحيدة في ثورات الربيع العربي التي رفعت علم فلسطين إلى جانب العلم الجزائري، ولهذا دلالة قوية حول موقف الجزائريين من مختلف القضايا الدولية والعربية”.
التغيير سيكون تدريجيا
ويرى بلعيد آيت أوشان باحث جزائري مختص في الشؤون الإفريقية وأستاذ محاضر في جامعة السوربون بباريس، أن “الجزائر تمر حاليًا بمرحلة تغيير داخلي عميقة ستؤدي إلى تغيير في مواقف البلاد الخارجية ولكن بالتدريج”.
ويقول: “في رأيي من المستحيل أن يبقى قادة الجزائر بعد 5 أو 10 سنوات على نفس مواقف القيادات التاريخية، لسبب بسيط وهو أن قناعات الشباب المولودين بعد الاستقلال مختلفة عن قناعات القيادات التاريخية”.
وتابع: “يجب أن نشير هنا إلى أن الدولة الجزائرية خضعت طيلة 57 عام من عمرها لنفوذ المجاهدين أو المناضلين في ثورة التحرير”.
ويضيف: “بالرغم من وجود قيادات سياسية مما يسمى جيل الاستقلال إلا أن المناصب الأهم في الجزائر ظلت حكرا على مجاهدين أو اشخاص من محيطهم أو ما يسمى بالأسرة الثورية وهم المجاهدون وأبناء الشهداء من ضحايا ثورة التحرير وأبناء المجاهدين، ومن المتوقع الآن أن تتغير الأوضاع نسبيا وبالتدريج مع مرور الوقت”.
ويضيف آيت أوشان: “يجب علينا أن ننتظر سنوات أخرة ونرى ردة فعل المسؤولين إزاء أزمات المنطقتين العربية والإفريقية، وأعتقد شخصيًا أن هذه المواقف ستتغير، لأن الشخصيات التي أدارت دفة السياسة الخارجية الجزائرية، بدأت في الانسحاب من المشهد”.