ثمة اتجاه سائد في منطقة الشرق الأوسط بوجود صراع سني- شيعي، خصوصاً مع تمدد الصراعات في عدد من دول المنطقة مثل اليمن وسوريا والعراق ولبنان. فمع اندلاع الثورات العربية وما ارتبط بها من ضعف وتفكك لعدد من الدول ذات الهوية السنية، بدأت ملامح المد الشيعي تغمر إقليم الشرق الأوسط، الأمر الذي أثار قلق العديد من المنتمين للطائفة السنية لدرجة تنبأ معها البعض بأن تشهد المرحلة المقبلة بزوغ نجم الشيعة وسيطرتهم على زمام الأمور في المنطقة.
في هذ الإطار، نشر مركز ستراتفور Stratfor، وهو مركز دراسات أمني أمريكي، تقريراً تحت عنوان: “لماذا لن يطول المد الشيعي؟”، للكاتب “كامران بخاري”Kamran Bokhari وهو خبير متخصص فى شؤون الشرق الأوسط وجنوب آسيا، حيث يدحض الكاتب فيه وجهة النظر القائلة بأن الشيعة سيُحكِمون سيطرتهم على المنطقة العربية مستغلين ما تمر به المنطقة من اضطرابات.
الشيعة فى الشرق الأوسط
يوضح “بخاري” أن الشيعة يمثلون شريحة محدودة من الأمة الإسلامية، حيث إن ما يفوق ثلاثة أرباع المسلمين من ذوي الانتماء السني. وعضد الكاتب تلك الحقيقة بإحصاء أعلنه مركز بيو للأبحاث Pew Research Center في عام 2011، حول نسب تركُز الشيعة في منطقة الشرق الأوسط الكبير، وهي موضحة في الجدول التالي:
الدولة |
نسبة الشيعة من باقي الطوائف الأخرى |
إيران |
90-95% |
البحرين |
65-75% |
أذربيجان |
65-75% |
العراق |
65-70% |
لبنان |
40-50% |
اليمن |
35-40% |
الكويت |
20-25% |
سوريا |
20-15% |
أفغانستان |
10-15% |
باكستان |
10-15% |
المملكة العربية السعودية |
10-15% |
تركيا |
10-15% |
سلطنة عمان |
5-10% |
الإمارات العربية المتحدة |
10% |
دولة قطر |
10% |
ويُلاحظ من الجدول السابق أن ثمة أربعة دول فحسب ذات أغلبية شيعية كبيرة، وهي – حسب ما ورد في الدراسة: (إيران، والبحرين، وأذربيجان، والعراق). بينما تتواجد نسب متفاوتة من الشيعة في عدد من البلدان الأخرى.
محاولات مستمرة للتغلغل الشيعي
يشير الكاتب إلى أنه منذ الثورة الإيرانية عام 1979، باتت طهران مركزاً للثقل الشيعي، حيث مثلت تلك الثورة الخطوة الأولى في سبيل خلق جمهورية ذات أغلبية شيعية ساحقة. فإيران الآن تعد من أكبر الدول الشيعية، وأكثرها قوة من الناحية العسكرية، الأمر الذي مكَّن رجال الدين الشيعة الإيرانيين من تقديم قدر من الدعم للفرق الشيعية المختلفة عبر العالم العربي، وبالتالي زيادة تأثير طهران.
ومن ثم، تسعى طهران دوماً لإيجاد موطئ قدم لها في المنطقة العربية ذات الأغلبية السنية. وفي هذا السياق، أشار الكاتب لعدد من تلك المساعي:
1- سعت إيران للاستفادة من عناصر “الآذريين” الشيعة الموجودين على أراضيها، تلك العرقية التي ينتمي إليها أغلبية سكان أذربيجان، وذلك لامتلاك مزيد من التأثير في الداخل الآذري. كما عملت طهران على نشر مدها الشيعي ما بين الدول الكبرى في منطقة جنوب آسيا، مثل الهند وباكستان، حيث يمثل الشيعة 20% من إجمالى عدد المسلمين في الهند، والذي يقارب 180 مليون نسمة.
2- في أعقاب الحرب العراقية – الإيرانية مطلع ثمانينيات القرن الماضي، تمكنت طهران من إيجاد موطئ قدم لها في العراق، وساعدتها سوريا في تحقيق هذا الهدف بنجاح، خاصة بسبب العلاقة العدائية ما بين نظامي بغداد ودمشق. كما ساهم نظام الحكم في دمشق ذي المرجعية العلوية الشيعية في أن تصبح سوريا حليفاً لإيران وأن تساعدها في تقوية “حزب الله” ليصبح قوة سياسية وعسكرية كبيرة. وعقب نهاية الحرب الأهلية اللبنانية عام 1989، ظهر “حزب الله” – حليف إيران- كأكبر كيان سياسي في لبنان.
وتلا ذلك بسنوات قليلة حرب الخليج الأولى، حيث غزت العراق دولة الكويت. وبالنسبة لإيران، كانت تلك التطورات ذات مدلول كبير، لكونها قد تضعف الحكومة العراقية التي سعت في وقت سابق لحماية مجلس التعاون الخليجي من مساعي التغلغل الإيراني.
وفي سياق تلك الاضطرابات، سعت الطائفتان الكردية والشيعية في العراق- واللذان دعمتهما إيران- لاستغلال ضعف النظام العراقي لصالح طهران. ومع الغزو الأمريكى للعراق عام 2003، باتت الظروف مهيئة كي تسقط العراق تحت السيطرة الإيرانية، وبذلك، اتسع نطاق السيطرة الإيرانية من طهران إلى البحر المتوسط.
3- وجدت طهران في ثورات الربيع العربي فرصة لتحقيق قدر من التوسع الشيعي داخل شبه الجزيرة العربية، فسعت لاستغلال الاحتجاجات المشتعلة في البحرين لصالحها. وفي مواجهة ذلك، قامت المملكة العربية السعودية مدعومة بحلفائها من مجلس التعاون الخليجي بالتحرك للقضاء على الاحتجاجات البحرينية، ومن ثم القضاء على الآمال الإيرانية فى اكتساب مزيد من السلطة والتأثير.
4- بمجرد اشتعال الاحتجاجات في سوريا، سعت إيران لاستغلال الوضع لصالحها، إلا أن طموحاتها تلقت ضربة قاضية بعد تحول تلك الاحتجاجات لحرب أهلية واسعة النطاق. وحتى الآن، لاتزال الحكومة العلوية الشيعية في سوريا صامدة، لكن الخوف يكمن في انهيارها، فحينها ستكون النتيجة كارثية بالنسبة لإيران؛ إذ من الممكن أن يؤدي ذلك إلى قطيعة ما بين طهران وحلفائها من عناصر “حزب الله”، ومن الممكن أيضاً أن يصل نظام حكم ذات مرجعية سنية إلى سدة الحكم في دمشق، الأمر الذي قد ينعكس سلباً على شيعة العراق؛ ومن ثم، فالدعم القوي الذى تقدمه طهران إلى بشار الأسد ليس بغريب.
لماذا لن يطول المد الشيعي في المنطقة؟
يشير الكاتب إلى أن إيران تبدو في المرحلة الحالية أكثر قوة وتماسكاً في مواجهة العديد من القوى السنية، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية. فحزب الله وغيره من الميليشيات يدعمون “الأسد” ويساعدونه على البقاء على رأس السلطة. كما أعطت الحرب التي تُشن في مواجهة التنظيمات المتطرفة مثل “جبهة النصرة” و”داعش”، مزيداً من الوقت بالنسبة لإيران كي تعيد ترتيب أوراقها، وأتاحت لها الفرصة لإجراء المفاوضات النووية مع الولايات المتحدة. في حين، تنشغل المملكة العربية السعودية بمواجهة المتمردين الحوثيين فى اليمن.
لكن على الرغم من مظاهر القوة والثبات التي تحظى بها طهران، فإن المد الإيراني الشيعي لن يطول من وجهة نظر الكاتب، وذلك للأسباب التالية:
1- يرى الكاتب أن النجاحات التي تحققها العناصر الشيعية لن تدوم، وذلك لكونهم يحرزونها بسبب الضعف المؤقت وعدم التماسك الذى تمر به القوى السنية الرئيسية.
2- ثمة عدد من المؤشرات التي تدلل على أن القوى السنية عائدة إلى الساحة مرة أخرى؛ فالثوار في سوريا نجحوا في السيطرة على مساحات كبيرة من الأراضي، خاصةً في إقليم إدلب، فضلاً عن أن المملكة العربية السعودية وتركيا دخلتا في تحالف سني للإطاحة بنظام “بشار الأسد” من على رأس السلطة، هذا بالإضافة إلى أن أعداد السنة في المنطقة بصفة عامة يفوق أعداد الشيعة.
3- هناك العديد من الدلائل على أن السنة لن ينصاعوا للحكم الشيعي إن وجد. ففي لبنان على سبيل المثال، لم يتمكن “حزب الله” – بالرغم من حجمه وتأثير جماعته المسلحة – من فرض سيطرته على الحكومة القائمة هناك. وفي اليمن، لم يتمكن “الحوثيون”- النسخة اليمنية من “حزب الله”- من فرض إرادتهم على البلاد كلها، بل انحسر نفوذهم على مناطق تركز الزيديين. وفي العراق، لاتزال “داعش” – بالرغم من منهجها البربري- تنظيم سني قوي يسيطر على مناطق عديدة، حتى في بعض الأماكن التي يزداد فيها تواجد أبناء الطائفة الشيعية.
وفي تعقيبه على السيناريو الذي يطرحه البعض بأن السعودية سوف تضعف، الأمر الذى سوف يتيح لإيران السيطرة على شبه الجزيرة العربية، يؤكد الكاتب أن أبناء الطائفة السنية في المنطقة لن يسمحوا بوقوع مدنهم المقدسة (مكة والمدينة) تحت السيطرة الشيعية، فضلاً عن أنه لا يوجد عدد كاف من الشيعة للقيام بمثل هذا الأمر، فأعداد السنة تفوقهم.
4- ثمة اعتبارات إثنية (عرقية) سوف تمنع أي إنتشار محتمل لأنظمة حكم شيعية في المنطقة؛ فعلى الرغم من وجود تقارب ما بين شيعة المنطقة العرب وطهران، بيد أنهم يقومون بذلك بدافع الضرورة فحسب، ومن ثم لا يمكن لإيران الوثوق بهم والاعتماد عليهم لتحقيق مصالحها.
5- أبرز الكاتب مجموعة من القيود المرتبطة بالداخل الإيراني، سوف تحد من انتشار المد الشيعي في المنطقة؛ فإيران تمر حالياً بتحول على الصعيد السياسي يتمثل في وصول “حسن روحاني” للسلطة، وما ارتبط بذلك من تغيرات على المستوى المحلي، كما أن ثمة مجموعة من التوترات الناشبة بين المعتدلين والمحافظين، وكذلك بين الديمقراطيين والثيوقراطيين. وبالتالي، فتلك تحولات إيرانية داخلية سوف تشتت انتباه طهران وتدفعها لترك طموحات المد الشيعي جانباً.
6- يرى الكاتب أن انقسام الشيعة لمجموعة من الطوائف الفرعية ذات خلفيات جغرافية ولغوية وسياسية وأيديولوجية مختلفة، سوف يعيق الرغبات التوسعية الإيرانية، ناهيك عن التطورات المحتملة للحرب الأهلية السورية.
وفي نهاية التقرير، يرى الكاتب أن الجهاديين يمثلون تهديداً لإيران وحلفائها من الشيعة، إلا أنهم في الوقت ذاته يمثلون فرصة لإيران، فمن الممكن أن يساهموا في إضعاف الطائفة السنية عبر ما يرتكبونه من أعمال متطرفة قد يترتب عليها تحويل الرأى العام العالمي لصالح إيران.
أخيراً، سعى الكاتب “كامران بخاري” إلى إثبات أن التقارب بين الدول ذات الخلفية الشيعية – بقيادة إيران- في منطقة الشرق الأوسط يعد تطوراً جيوسياسياً محورياً، غير أن تكوين تلك الكتلة الشيعية وتوسعها لم يكن من الممكن أن يحدث دون الانقسام والضعف الذي مُنيت به الدول العربية السنية في الوقت الراهن. كما برهن الكاتب على أن ذلك التغلغل الشيعي في المنطقة لن يطول بسبب مجموعة من القيود الداخلية والخارجية سوف تضع حداً للمد الشيعي الإيراني.
اعداد: نوران شريف مراد
مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة
المصدر:
Kamran Bokhari, why Shiite expansion will be short-lived, Stratfor, May 12, 2015.