شهد عام 2014 تحولاً نموذجياً في طبيعة التهديد الإرهابي، تَمثل بتنامي ما يعرف بـ تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش»)/«الدولة الإسلامية». وما زال تنظيم «القاعدة» وجماعات أخرى يشكلون تهديدات فعلية، كما أن أنشطة المقاتلين الشيعة على غرار «فيلق الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني و «حزب الله» والميليشيات الشيعية العراقية آخذة في التزايد، ولكن التهديد الناجم عن تنظيم «الدولة الإسلامية» مختلف تمام الاختلاف. (لمعرفة المزيد عن التهديدات التي يشكلها كل من إيران و «حزب الله»، إقرأ الجزء الأول من هذا المرصد السياسي.
في السنوات الماضية، ركزت جهود الولايات المتحدة لمكافحة الإرهاب على هزيمة تنظيم «القاعدة». وفي حين يبقى التنظيم الذي نفذ اعتداءات 11 أيلول/سبتمبر يشكل تهديداً، إلا أنه يعتمد بشكل أساسي على أتباعه الإقليميين – لاسيما تنظيم «القاعدة في شبه الجزيرة العربية» و «جماعة خراسان» في سوريا – وبشكل متزايد على أفراد يجدون في عقيدة التنظيم وحياً لهم ولكنهم يتصرفون بصورة مستقلة، ومن دون توجيه خارجي من قادة تنظيم «القاعدة». واليوم، تصدر التهديدات الإرهابية الأكثر خطورة بشكل أساسي عن تنظيم «الدولة الإسلامية»، كونه المحرك الرئيسي لعدم الاستقرار الإقليمي الذي يثير لهب التطرف.
ويسلط التقرير السنوي عن الإرهاب في دول العالم لعام 2014 الذي أصدرته وزارة الخارجية الأمريكية مؤخراً الضوء على هذا التحول، ويُشير إلى أن المسؤولين عن الاستخبارات ومكافحة الإرهاب قد حوّلوا معظم تركيزهم من تنظيم «القاعدة» – الذي تعرض لسلسلة من الخسائر في القيادة – إلى «داعش» بعد أن حققت هذه الجماعة مكاسب كبيرة في الأراضي في سوريا والعراق.
تنامي تنظيم «الدولة الإسلامية»
يقدم الفصل الأول من التقرير تقييماً استراتيجياً ويقر في مقدمته بأن “الاتجاهات البارزة في الإرهاب العالمي في عام 2014 تضمنت استحواذ غير مسبوق لـ تنظيم «داعش» على أراضي في العراق وسوريا، واستمرار تدفق المقاتلين الإرهابيين الأجانب من جميع أنحاء العالم للانضمام إلى تنظيم «الدولة الإسلامية»، وتزايد المتطرفين العنيفين الذين يعملون على أساس منفرد في الغرب”. وشهد العام نفسه، بدء تنظيم «داعش» بـ “توطيد علاقاته مع أتباع محتملين خارج العراق وسوريا”، بمن فيهم جماعات مثل «أنصار الشريعة في درنة» – ليبيا، وجماعة «أنصار بيت المقدس» في شبه جزيرة سيناء المصرية، التي عُرفت فيما بعد باسم «ولاية سيناء» التابعة لـ تنظيم «الدولة الإسلامية».
وفي حين أدت عدة عناصر إلى التنامي السريع لـ تنظيم «داعش»، تبرز ثلاثة عناصر على وجه التحديد وهي: التمويل والمقاتلون الإرهابيون الأجانب ونشر العقيدة المتطرفة بشكل فعال.
تمويل تنظيم «الدولة الإسلامية»
يستقي تنظيم «داعش» معظم قوته من أمواله الهائلة. فقد جمع التنظيم مبالغ طائلة من الأموال من خلال نظام تمويل معقد ومتنوع، يبدأ من منظمات “واجهة” تعمل تحت غطاء مؤسسات خيرية ليصل إلى عمليات بيع النفط في السوق السوداء وفرض ضرائب على سائقي الشاحنات المحليين وأصحاب الأعمال وموظفي الحكومة السابقين. ولسوء الحظ، تنبثق غالبية إيرادات الجماعة من موارد محصنة بمعظمها من التدابير التقليدية المعتمدة لمحاربة تمويل الإرهاب. على سبيل المثال، كان تنظيم «القاعدة» يعوّل بشدة على مانحين أثرياء في الخليج، مما جعله عرضة لإجراءات وزارة الخارجية الأمريكية المتخذة من خلال الأنظمة المصرفية الرسمية.
وفي المقابل، يجمع تنظيم «الدولة الإسلامية» الجزء الأكبر من أمواله من داخل الأراضي الخاضعة لسيطرته. فمن الصعب استهداف العائدات من الأراضي المحلية – عن طريق أنشطة متنوعة مثل الابتزاز والجريمة و “فرض ضرائب” على السكان المحليين، وبطبيعة الحال، بيع النفط والقطع الأثرية – بعقوبات أكثر بكثير من الإيرادات الأخرى. كما وسع تنظيم «داعش» إلى حد كبير قاعدة إيراداته، عبر “استيلائه على أراضي في العراق وسوريا على نحو غير مسبوق”. وقد حقق أعظم مكسب مفاجئ له على الأرجح من خلال استيلائه على الموصل في حزيران/يونيو 2014، الأمر الذي سمح له بنهب المصارف بحرية وفرض ضرائب على العمليات التجارية وابتزاز السكان. وفي حين من المستحيل معرفة الأرقام الدقيقة، تقدّر وزارة الخارجية الأمريكية أن “تنظيم «الدولة الإسلامية» قد حصل ما يصل إلى عدة ملايين من الدولارات شهرياً بواسطة شبكات الابتزاز المتنوعة والنشاط الإجرامي في الأراضي التي نشط فيها”. ولكن الضربات الجوية التي شنها التحالف ضد تنظيم «داعش» في وقت لاحق من العام الماضي ساهمت في الحد من الإيرادات الناتجة عن تهريب النفط. كما نجح أعضاء التحالف باستعادة جزء كبير من البنية التحتية الخاصة بالطاقة والتي كانت قد وقعت تحت سيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية»، مثل “المصافي المكونة من وحدات تجميعية وخزانات البترول ومراكز تجميع النفط الخام”.
وعلى الرغم من أن الأموال التي جُمعت من خارج الأراضي الخاضعة لسيطرة «داعش» تشكل هامشاً صغيراً نسبياً من مدخول التنظيم، إلا أن مثل هذه الحالات قائمة على أرض الواقع وقد تكون آخذة في التزايد. فقد اعتقلت فرنسا شخصين على خلفية “بيع رايات تنظيم «الدولة الإسلامية» وغيرها من الدعاية الإرهابية عبر الإنترنت”. وقد عُرضت في ألمانيا عدة قضايا على المحاكم – وما زالت قائمة – تتعلق بتمويل الإرهاب الذي يمارسه «داعش». وأخيراً، تمكنت الحكومات في بعض الحالات من استهداف أنشطة تمويل تنظيم «الدولة الإسلامية» عن طريق العقوبات التقليدية. فقد جمدت الفيلبين أصول ستة أفراد من عناصر تنظيم «داعش» و«جبهة النصرة» (ذراع تنظيم «القاعدة»)، كما فعلت بريطانيا مع ستة أفراد آخرين تابعين لـ تنظيم «الدولة الإسلامية».
المقاتلون الأجانب
إن ظاهرة المقاتلين الأجانب ليست جديدة، إذ برزت في جميع الصراعات الحديثة الكبرى التي شملت جماعات جهادية. ومع ذلك، عرف النزاع السوري مشاركة المقاتلين الأجانب بصورة لم يسبق لها مثيل. وقد أشارت التقارير السنوية لوزارة الخارجية الأمريكية عن الإرهاب في دول العالم إلى هذه الظاهرة في السنوات السابقة، وركزت إلى حد كبير على المقاتلين الأجانب من أوروبا. وأشار تقرير عام 2013 إلى أن أعداداً كبيرة من الأوروبيين قد توجهت إلى سوريا والعراق للانضمام إلى صفوف «جبهة النصرة» و تنظيم «الدولة الإسلامية».
ويوسع تقرير عام 2014 عما نُشر في تقرير عام 2013 من خلال شرح الدور الهام الذي يضطلع به المقاتلون الأجانب في عمليات تنظيم «داعش» في العراق وسوريا، وانتشار هذه الظاهرة فيما يتخطى المجتمعات المسلمة في أوروبا وإلى المجتمعات المسلمة في جميع أنحاء العالم من خلال المجنِّدين المحليين واستراتيجية وسائل الاعلام الاجتماعية الفعالة التي يستعملها تنظيم «الدولة الإسلامية». فعلى سبيل المثال، قال وزير الخارجية التونسي لطفي بن جدو بأن 400 مقاتل أجنبي عادوا إلى تونس من العراق وسوريا. بالإضافة إلى ذلك، أعلنت الحكومة التونسية أن أكثر من تسعة آلاف مجند محتمل قد مُنعوا من مغادرة البلاد. وفي حين كانت مساهمة المقاتلين الأجانب التونسيين كبيرة على وجه الخصوص، إلا أن عدة مواطنين من دول إسلامية أخرى مثل بنغلاديش ولبنان والمملكة العربية السعودية شاركوا أيضاً في القتال إلى جانب «داعش». كما أن العديد من الدول غير الإسلامية، مثل فرنسا وبريطانيا وروسيا والولايات المتحدة، شهدت تطورات مماثلة.
لقد لعبت ظاهرة عدد المقاتلين الأجانب الآخذة في الازدياد دوراً فعالاً في نمو تنظيم «الدولة الإسلامية». ففي أعقاب كل انتصار، كان تنظيم «داعش» يتّبع استراتيجية متطورة للغاية قائمة على وسائل التواصل الاجتماعي، بهدف الترويج لوحشيته وإثبات قدرته على العمل كحكومة فعالة. وقد ساعدت هذه الاستراتيجية تنظيم «الدولة الإسلامية» على استقطاب آلاف المجنَّدين الأجانب المحتملين في بلدان مختلفة في جميع أنحاء العالم. فهذا الخط من إمداد المقاتلين الذي لا ينتهي على ما يبدو قد سمح له باكتساب قوة هائلة وتهديد دول بعيدة خارج منطقة النزاع.
وفي حين بدأت الدول بمحاربة المقاتلين الأجانب من خلال تعزيز أمن الحدود، وتكوين قواعد البيانات البيومترية، وتكثيف أنشطة المراقبة الاستخباراتية، ما زالت هذه الظاهرة تغذي التنامي السريع لـ تنظيم «داعش». ويُقدَّر عدد المقاتلين الإجمالي في تنظيم «الدولة الإسلامية» ما بين 20 ألف و 31 ألف مقاتل، ويُعتقد أن الأجانب يشكلون عدداً كبيراً من هذه القوات. وفي حين ساهمت بعض الجهود الرامية إلى محاربة مجنَّدين محتملين من المقاتلين الأجانب بتقليص قدرة تنظيم «داعش» على المحافظة على مجمل قواه المحاربة، إلا أن الظاهرة لا تزال واسعة الانتشار.
مكافحة الإيديولوجيا
إن الأيديولوجية المتطرفة لـ تنظيم «الدولة الإسلامية» وتبنيه للعنف الهمجي مكّنت بسرعة من جذب انتباه الملايين من جميع أنحاء العالم. فقدرة «داعش» على تطويع وسائل التواصل الاجتماعي بشكل فعال لنشر أفكاره، وإعادة نشرها بصورة شبه فورية، شكلت عاملاً أساسياً في نجاحه، مما يفسر الأهمية القصوى التي توليها الجماعة لهذه الوسائل. ورداً على ذلك، شرعت حكومات في جميع أنحاء العالم في إنفاذ تدابير صارمة لمكافحة التطرف العنيف الذي يمارسه تنظيم «الدولة الإسلامية». وفي حين حققت هذه الجهود بعض النجاح، إلا أن تأثيرها بقي محدوداً حتى الآن نظراً لطابعها الجديد نسبياً.
وكما هو الحال في السنوات الماضية، يكرس التقرير عن الإرهاب في دول العالم لعام 2014 أقساماً خاصة بكل دولة حول مكافحة التطرف العنيف. وفي حين تطرق تقرير عام 2013 إلى قوة تنظيم «الدولة الإسلامية» التكتيكية والعسكرية المتزايدة في العراق وسوريا، يُسهب تقرير عام 2014 في شرح تعاظم شعبية التنظيم وانتشار عقيدته.
وتشير وزارة الخارجية الأمريكية إلى الطرق التي تعتمدها دول مختلفة لمكافحة عقيدة تنظيم «الدولة الإسلامية». فقد أعلن الملك الأردني عبدالله الثاني في تشرين الثاني/نوفمبر 2014 أن على الأردن محاربة الإرهاب والتطرف لحماية نفسه كأمة ولحماية الإسلام المعتدل الذي يضم الغالبية العظمى من مسلمي العالم. وأدلى قادة عرب آخرون ببيانات مماثلة. ومن جهتها، قامت حكومات أوروبية بإصدار قوانين لمواجهة خطابات «داعش». فقد حظرت النمسا، على سبيل المثال، استخدام وتوزيع رموز تنظيم «داعش» وتنظيم «القاعدة» والجماعات الأخرى المرتبطة بهما، في خطوة تهدف إلى منع مجنَّدين محتملين من الوصول إلى تنظيم «الدولة الإسلامية» والجماعات المتطرفة الأخرى والتماهي معهم.
إلا أن جهود مكافحة التطرف العنيف أتت بنتائج “مختلطة”. ففي حين أعاقت القوانين الجديدة التي وُضعت خلال عام 2014 وبشكل متزايد من قدرة «داعش» على نقل عقيدته إلى المجنَّدين المحتملين، إلا أن الاستخدام الواسع النطاق والطابع المجهول نسبياً لوسائل التواصل الاجتماعي قد سمحا عموماً للتنظيم بأن يبقى متقدماً على الحكومات الوطنية بخطوة واحدة. وبالتالي، حافظ تنظيم «الدولة الإسلامية» على حضوره الإيديولوجي في حياة الكثير من المجنَّدين المحتملين الشباب، فاستطاع بذلك استقطاب أتباع من جميع أنحاء العالم بسرعة كبيرة. إن ذلك قد ساعد الجماعة على بناء علاقات مع أتباع محتملين – ولايات – إلى ما هو أبعد من العراق وسوريا، وكذلك الوصول إلى أفراد ضعفاء في جميع أنحاء العالم، يمكنهم دعم الجماعة، أو الانضمام إليها في الشرق الأوسط، أو تنفيذ هجمات “فردية” في بلدانهم الأم.
الخلاصة
أدت استراتيجية «داعش» المخططة بشكل منهجي إلى تناميه السريع. وعلى الرغم من الجهود المتزايدة الرامية إلى مكافحة هذا التنظيم المتطرف، ما زالت هذه الاستراتيجية تُثبت نجاحها. فنظام التمويل المعقد والمتنوع الذي تعتمده الجماعة، والتجنيد الفعال للمقاتلين الأجانب، وقدرة التنظيم على نشر ايديولوجيته، جميعها عوامل أدّت إلى تسهيل توسعه انطلاقاً من قاعدته الصغرى في شمال سوريا إلى شبه دولة تمتد على مساحات كاملة في شمال سوريا وشمال العراق، تضم الملايين من الناس وعشرات الآلاف من المقاتلين.
ولكن بفضل تعاظم الجهود العالمية التي تسعى إلى مكافحة تنظيم «الدولة الإسلامية»، لم تعد قدرة الجماعة على إحراز المزيد من التوسع مؤكدة. ويبدو أن تنظيم «داعش» قد بلغ أقصى حدوده الجغرافية والديموغرافية في العراق وسوريا وبالتالي فهو يقوم اليوم بالتفرع عبر إنشاء مجموعات منشقة في أماكن مثل ليبيا واليمن. وعلى الرغم من أن التوسع الكبير عبر احتلال الأراضي خارج العراق وسوريا أثبت حتى الآن أنه بعيد المنال، وبالرغم من أن عام 2014 قد شهد انطلاق الجهود العالمية لمحاربة تنظيم «الدولة الإسلامية»، يبدو أن العناصر التي أدت إلى تنامي التنظيم السريع ستبقيه راسخاً في معاقله في المستقبل القريب.
وفي غضون ذلك، يواجه المسؤولون عن مكافحة الإرهاب مجموعة جديدة من المشاكل بفعل تزايد الهجمات “الفردية”، كما هو الحال في أوتاوا وسيدني وبروكسل. وتفيد وزارة الخارجية الأمريكية أن “هذه الهجمات قد تنبئ بحقبة جديدة أصبحت فيها القيادة المركزية لمنظمة إرهابية أقل أهمية، وهوية التنظيمات أكثر مرونة، والأحداث المتطرفة العنيفة أكثر تركيزاً على مجموعة أوسع من الشكاوى والأعداء المزعومين الذين قد تتماهى معهم عناصر فردية فتسعى إلى تنفيذ هجمات من تلقاء ذاتها”. وفي الواقع، فإن الجمع بين هذه التطورات – أي تنامي «داعش» كتنظيم يستولي على الأراضي ويقيم ما يسمّى بالخلافة أو الدولة الإسلامية، وبروز ظاهرة المقاتلين الإرهابيين الأجانب على نطاق غير مسبوق وانتشار الإرهاب العالمي عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي التي تروج للفكر المتطرف العنيف من جهة والهجمات الفردية من جهة أخرى – يُترجم إلى تحول نموذجي في طبيعة التهديد الإرهابي العالمي.
معهد واشطن لسياسة الشرق الأدنى