لم يتوقف الحديث عن «صفقة القرن» منذ وصول الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وحتى يومنا هذا. ورغم امتناع الإدارة الأمريكية حتى الآن عن نشر أي وثيقة رسمية حول فحوى ومضمون هذه «الصفقة»، إلا أن المسؤولين عن بلورة صيغتها النهائية لم يكفوا عن التأكيد على أنها تهدف إلى التوصل إلى تسوية شاملة ونهائية، ليس فقط للقضية الفلسطينية، وإنما للصراع العربي الإسرائيلي من جميع جوانبه. ومع ذلك كشف واقع السلوك الأمريكي على الأرض من ناحية، والتسريبات الإعلامية من ناحية أخرى، عن أن ما يجري الإعداد له لا يمت بصلة لا بمفهوم «الصفقة» ولا بمفهوم «التسوية»، بالمعنى المتعارف عليه لهذين المصطلحين.
فكل «صفقة»، حتى بالمعنى المتداول في المعاملات التجارية، تتطلب بالضرورة وجود عرض أولي متوازن بما يكفي لإغراء الأطراف المعنية بمناقشته والتفاوض حول تفاصيله، إلى أن يتم التوصل إلى النقطة التي يتعين عندها اتخاذ قرار بالرفض أو القبول. وكل «تسوية»، حتى بالمعنى المتداول في المفاوضات الدبلوماسية، تتطلب بالضرورة التوصل إلى حلول وسط تقبل الأطراف المعنية بموجبها تقديم تنازلات متبادلة تكفي لإغراء الجميع بوجود فرصة ينبغي اقتناصها. وقد تأكد الآن بما لا يدع مجالا لأي شك أن الولايات المتحدة تخلت عن دورها كوسيط محايد وقررت الانحياز التام إلى وجهة النظر الإسرائيلية، وأن ما ستطرحه سيكون أقرب إلى «عقد الإذعان» منه إلى «صفقة»، وأنها ستلقي بثقلها لفرض تسوية بالشروط الإسرائيلية، وليس التوصل إلى «تسوية» مقبولة ترضي جميع الأطراف.
حين أدركت إدارة ترامب أن ما ستطرحه لن يكون مقبولا من أي طرف فلسطيني، بما في ذلك محمود عباس نفسه، وربما من أطراف عربية أخرى مؤثرة، قررت اللجوء إلى إجراءات أحادية تستهدف وضع الفلسطينيين والعرب أمام أمر واقع، تعتقد أنه سيصعب عليها تغييره في المستقبل. من هذه الإجراءات: 1- قطع مساهماتها المالية عن وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) كخطوة أولى، تلحقها خطوات إضافية لتصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين من خلال إجبار الدول المضيفة على توطينهم. 2- الاعتراف بسيادة إسرائيل المنفردة على القدس الموحدة باعتبارها عاصمة أبدية لإسرائيل. 3- الاعتراف بحق إسرائيل في ضم مرتفعات الجولان السورية وبفرض سيادتها وقوانينها عليها. ويتردد الآن أن الولايات المتحدة تتهيأ لاتخاذ خطوتين إضافيتين، الأولى: الاعتراف بحق إسرائيل في ضم أجزاء واسعة من أراضي الضفة الغربية، تضم الأراضي التي أقيمت عليها مستوطنات يهودية وكذلك الأراضي التي تعتبرها ضرورية لإشباع احتياجات الأمن الإسرائيلي، وفي مقدمتها غور الأردن، والثانية: ممارسة أكبر قدر ممكن من الضغوط على الدول العربية لدفعها لحضور ورشة عمل تعقد في المنامة لمناقشة الجوانب الاقتصادية لـ»صفقة القرن»، قبل أي حديث عن جوانبها السياسية. ولا شك أن حضور الدول العربية «ورشة المنامة» ستكون له دلالات سياسية واضحة، في مقدمتها الإيحاء بأن الدول العربية أصبحت جاهزة للإعلان عن موافقتها الصريحة وليس فقط الضمنية على «صفقة القرن».
فإذا ما تركنا تحركات الإدارة الأمريكية على الأرض، وحاولنا فحص التسريبات الإعلامية حول «صفقة القرن»، خاصة تلك التي نشرت مؤخرا، فسوف نكتشف أن هذه الصفقة لا تستهدف فقط تصفية القضية الفلسطينية، وإنما تصفية الصراع العربي الإسرائيلي بمختلف جوانبه. فتصفية القضية الفلسطينية سيتم من خلال مواقف وإجراءات محددة، أهمها: 1- رفض قيام دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967. 2- رفض عودة وتعويض اللاجئين الفلسطينيين والعمل على توطينهم، سواء على أراضي الدول المضيفة، أو أراضي دول أخرى تبدي استعداها لقبول اعداد منهم. 3- التعامل مع القضية الفلسطينية باعتبارها فقط قضية إنسانية، يمكن حلها بتحسين الأوضاع المعيشية للفلسطينيين المقيمين في قطاع غزة، أو اللاجئين في الدول المضيفة، وليست قضية سياسية تتطلب كفالة حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني. أما تصفية الصراع العربي الإسرائيلي ككل فسوف تتم من خلال إجراءات أخرى، من بينها: 1- تمكين إسرائيل من ضم هضبة الجولان السورية. 2- إلزام الدول العربية بتوطين اللاجئيين الفلسطينيين على اراضيها ومنحهم جنسيتها، 3- تقديم حوافز اقتصادية للفلسطينيين وللدول العربية التي تقبل التعاون لتصفية قضية اللاجئين، تتحمل دول الخليج العربي معظم تكاليفها. 4- تقديم حوافز أمنية لدول الخليج العربي تضمن التزام إسرائيل بالمشاركة في الدفاع عنها في مواجهة التهديدات الإيرانية.
تأكد الآن أن الولايات المتحدة تخلت عن دورها كوسيط محايد وقررت الانحياز التام إلى وجهة النظر الإسرائيلية
والواقع أنه يصعب فهم واستيعاب «صفقة القرن»، سواء من حيث دلالاتها أو أهدافها الحقيقية، بمعزل عن الاستراتيجية الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط ككل، التي يمكن تلخيص أهم مرتكزاتها على النحو التالي:
*تقديم دعم غير مشروط لإسرائيل لتمكينها من تصفية القضية الفلسطينية نهائيا، من ناحية، والوصول إلى مكانة إقليمية تسمح لها، من ناحية أخرى، بضبط التفاعلات في منطقة الشرق الأوسط والتحكم في مساراتها.
*فرض حصار شامل على إيران لحملها، من ناحية، على تغيير سياستها، وإضعافها إلى الدرجة التي تحول دون تمكينها من عرقلة تنفيذ «صفقة القرن»، ولتمكين الولايات المتحدة، من ناحية أخرى، للاستمرار في ابتزاز دول الخليج العربي، واستنزاف ثرواتهم، مع عدم استبعاد العمل العسكري لإسقاط النظام إن لزم الأمر.
*استخدام سياسة العصا والجزرة مع تركيا، بالقدر الذي يسمح بالإبقاء عليها داخل حظيرة حلف الناتو والحيلولة، من ناحية، دون ارتمائها في أحضان روسيا أو من التحالف مع إيران، من ناحية أخرى.
*الاستمرار في سياسة إثارة الفوضى وتعميق الانقسامات داخل العالم العربي بهدف الإبقاء، من ناحية، على حالة التوتر القائمة حاليا، خاصة بين إيران والسعودية وبين تركيا ومصر، والعمل في الوقت نفسه، من ناحية أخرى، على دفع العالم العربي لفك ارتباطه بالقضية الفلسطينية، وتشكيل جبهة موحدة مع إسرائيل لمواجهة التهديد الإيراني.
يتضح من هذا الاستعراض أن حصار إيران يشكل أهم ركائز الاستراتيجية الأمريكية الراهنة تجاه منطقة الشرق الأوسط، خاصة أن النجاح أو الفشل في تحقيق الهدف من ورائه، وهو تركيع إيران، أو تغيير نظامها، سوف يلقي ظلاله تلقائيا على قدرة الولايات المتحدة على تحقيق بقية الأهداف، خاصة تمكين إسرائيل من الهيمنة على مقدرات المنطقة، وتحييد تركيا، وإخراج العالم العربي من معادلات القوة والتأثير على مسار الأحداث في المنطقة. غير أنه يتعين الانتباه إلى أن فرص نجاح إدارة ترامب في تحقيق هذا الهدف تبدو ضئيلة، لأسباب عديدة أهمها: عدم مشروعية القرار الأمريكي بالخروج أحادي الجانب من الاتفاق النووي مع إيران، وافتقاد الحصار بالتالي للأسس والمبررات القانونية والأخلاقية اللازمة لالتفاف المجتمع الدولي حوله، وتراكم الخبرة لدى إيران حول كيفية التعامل مع العقوبات الأمريكية، وقدرتها على إيجاد بدائل تمكنها من اختراق حلقات الحصار والالتفاف حوله، وأحيانا الاستفادة منه بمزيد من الاعتماد على الذات، وأخيرا امتلاك إيران لوسائل عديدة تتيح لها إلحاق أفدح الأضرار بالمصالح الأمريكية في المنطقة في حال لجوء الولايات المتحدة لإجراءات عسكرية لإحكام الحصار ومنعها بالقوة من تصدير نفطها الخام، أو منتجاتها البتروكيماوية.
وفي تقديري أن تمسك الاتحاد الأوروبي بالاتفاق النووي، والتعبير الدائم عن حرصه والتزامه بإيجاد نظام بديل للتعامل النقدي مع إيران، من ناحية، وتشجيع إدارة ترامب للمساعي التي تبذلها دول عربية وغربية عديدة، كسلطنة عمان وقطر واليابان وغيرها، لتخفيف حدة التوتر والتوصل إلى تسوية ترضي الطرفين، توحي، من ناحية أخرى، بصلابة الموقف الإيراني وصموده، وتشير بالتالي إلى احتمال التراجع التدريجي للموقف الأمريكي بمرور الوقت، لذا يمكن القول إن «صفقة القرن» الحقيقية أو الفعلية التي تطرحها تتلخص في معادلة مفادها: تصفية القضية الفلسطينية وتطبيع العلاقة مع إسرائيل، مقابل توفير حماية أمريكية إسرائيلية لأمن الخليج.
يبدو، للأسف أن ترامب نجح فعلا في حمل دول الخليج العربي، خاصة السعودية والإمارات والبحرين، على قبول هذه المعادلة، صراحة أو ضمنا، بدليل أنه لم يعد يهتم بالحصول على موافقة مسبقة، سواء من الطرف الفلسطيني أو من الأطراف العربية الأخرى على «صفقة القرن»، وقرر المضي قدما في خطته الرامية إلى فرض الأمر الواقع على العالم العربي، الذي لا يكن له أي احترام. غير أن ذلك لا يعني مطلقا ان ترامب سينجح في تحقيق أهدافه، ليس فقط بسبب احتمال صمود إيران وفشل الحصار الأمريكي عليها، ولكن أيضا بسبب تعقيدات الوضع الداخلي في إسرائيل. فمن الواضح أن فشل نتنياهو في تشكيل حكومة، واضطراره إلى اللجوء مرة أخرى إلى انتخابات مبكرة لن تجرى قبل سبتمبر/أيلول المقبل، قد يفسد كل ما يخطط له ترامب، خاصة أن العديد من المراقبين يتوقعون أن تسفر الانتخابات الإسرائيلية المقبلة عن تشكيل حكومة يتحكم فيها اليمين التوراتي في إسرائيل. وأيا كان الأمر، فمن المؤكد أن العالم العربي سيخسر كل شيء إن هو تماهى مع «معادلة تصفية القضية الفلسطينية مقابل وهم تغيير النظام في إيران».
القدس العربي