على وقع التوترات المتصاعدة في منطقة الخليج العربي إثر “استفزازات إيرانية” تهدّد الملاحة الدولية، وما سبقها من أزمات محتدمة داخل الإقليم، تتوجه الأنظار دوما إلى ما يعرف بـ”الحرس الثوري الإيراني”، تلك “القوات المسلحة” التي لطالما مثّلت “رقماً صعباً في معادلة القوة والسلطة في إيران”، إذ تعد، وفق تعبير البعض “القوات العقائدية والجيش المخلّص للمرشد الأعلى الإيراني، والتي تتمتع بقيادة مستقلة تتلقى أوامرها من المرشد مباشرة، ولا تعد من الناحية التنظيمية جزءا من القوات المسلحة”.
ومع شحّ المعلومات والتقارير الدقيقة عن تلك القوات في الداخل الإيراني ودورها “داخلياً وخارجياً”، لا تخلو مراكز الفكر حول العالم وكتابات الساسة والدبلوماسيين عند الحديث عن إيران وسياستها الخارجية فضلا عن “أعمالها الاستفزازية بالمنطقة”، من محاولة اختراق “حصون تلك القوات”، التي أسست في العام 1979، في أعقاب الثورة الإيرانية، وذلك بعد تنامي واتّساع دورها، في السنوات الأخيرة، وتقدير حجم قواتها وقدراتها، وصلاحيتها ونفوذها في المعادلة الإيرانية.
كيف تأسس الحرس الثوري؟
وفق ما هو مستقر لدى الكثيرين، فإنه في العام 1979، وفي أعقاب الثورة الإيرانية، صادق المرشد الأعلى حينها، آية الله الخميني، على قرار بتأسيس الحرس الثوري الإيراني، وذلك بهدف حماية النظام الناشئ، وخلق نوع من توازن القوى مع القوات المسلحة النظامية. حيث صاغ رجال الدين قانونا جديدا يشمل كلاً من القوات العسكرية النظامية، حيث تُناط بها مهمة الدفاع عن حدود البلاد وحفظ الأمن الداخلي، وقوات الحرس الثوري (الباسدران) وتكلّف بحماية النظام الحاكم.
لكن المتتبع لمسار قوة ودور “الحرس الثوري الإيراني”، على أرض الواقع، يجد أن أدواره تداخلت باستمرار مع القوات العسكرية النظامية، سواء القوات المسلحة أو قوات الأمن الداخلي، وخلال السنوات الأخيرة قام الحرس الثوري بمهام داخلية، منها المساعدة في حفظ النظام العام ومواجهة المتظاهرين، فضلا عن المضي قدما باستمرار في تعزيز قوته العسكرية، والبحرية، والجوية. كما أنه ومع مرور الوقت تحوّل الحرس الثوري إلى قوة عسكرية، وسياسية، واقتصادية كبيرة في إيران، لدرجة أن بعض المراقبين بات يصفه بأنه “أصبح دولة داخل الدولة”. ليطرح التساؤل عن الأهداف والسياقات الحقيقية لتأسيس تلك القوات.
في كتابه “احتدام الوضع: (الحرس الثوري) الإيراني والحروب في الشرق الأوسط”، يقول نادر أوسكوي، وهو مستشار عسكري أميركي بارز، إنه “بعد سقوط الشاه، أدركت السلطات الجديدة أنها بحاجة إلى قوة كبيرة تكون ملتزمة بأهداف النظام الجديد والدفاع عن قيمه ومبادئه”، موضحاً أنه “في الفترة التي سبقت الثورة، توقّع آية الله روح الله الخميني ومستشاروه أن تشهد إيران فترة طويلة من الصراع، قبل أن يشعر الشاه بأنه مرغم على التنحي عن السلطة. وخلال التخطيط لتلك الفترة، ناقشوا تشكيل جيش من الشعب يمكنه إرغام الشاه على مغادرة البلاد، وبالتالي تجنّب حصول انقلاب ضده. وعلى الرغم من مغادرته في النهاية دون مقاومة، إلا أن فكرة تلك القوات بقيت قائمة”.
لكن في المقابل، يرجع علي آلفونه، وهو زميل في “معهد دول الخليج العربي” ومؤلف كتاب “كشْف وجه إيران: كيف يحوّل الحرس الثوري الإسلامي الحكم الثيوقراطي إلى ديكتاتورية عسكرية”، والصادر عام 2013، تأسيس الحرس الثوري إلى فترة أبعد قليلا من فترة الثورة الإيرانية.
يقول آلفونه “رغم تأسيس الحرس الثوري بعد أسابيع قليلة من اندلاع الثورة الإيرانية، إلّا أن التنظيم برز فعلياً قبل ذلك بكثير. فتَجَسّده الأول كان على يد الرئيس المصري جمال عبد الناصر في عام 1964. بعد الانقلاب الإيراني على رئيس الوزراء المنتخب محمد مصدق في أغسطس (آب) 1953، رأى الثوار أنه كان من المستحيل إطاحة الشاه من خلال حملة سياسية. وبدلاً من ذلك، قرروا أنه لا بدّ لهم من تأسيس عسكري ضدّه، وكانت مصر الدولة الوحيدة الراغبة في تزويدهم بالمال والتدريب والأسلحة. من خلال هذه العملية، تواصل الثوار الإيرانيون مع نظرائهم في جميع أنحاء المنطقة، حيث أسسوا حركة ثورية عابرة للحدود الوطنية”.
وبحسب آلفونه “مع قيام هؤلاء الإيرانيين ببناء قدراتهم، بدأ جهاز الاستخبارات في البلاد المعروف باسم (السافاك) بمطاردتهم في أرجاء المنطقة وتعقّب أنشطتهم عن كثب. وبعد سقوط الشاه، استحوذ الثوار على مقر (السافاك)، فقرر العديد من ضباط الوكالة الانضمام إلى الحرس الثوري المؤسَس حديثاً خلال الاضطرابات التي أعقبت ذلك. ومن خلال الجمع بين قدرات هؤلاء وضباط (السافاك)، تطورّ الحرس الثوري ليصبح ذلك التنظيم المعروف الآن”.
ووفقاً للمادة 150 من الدستور الإيراني، “تبقى قوات حرس الثورة الإسلامية التي تأسست في الأيام الأولى لانتصار هذه الثورة، راسخةً ثابتةً من أجل أداء دورها في حراسة الثورة ومكاسبها”. من جهة أخرى، فقد قام الدستور الإيراني في مقدمته، بتحديد الطبيعة العقائدية لتكوين الجيش الإيراني ومهام الحرس الثوري، معتبراً أنه “في مجال بناء وتجهيز القوات المسلّحة للبلاد، يتركّز الاهتمام على جعل الإيمان والعقيدة أساساً لذلك، ولا تلتزم القوات المسلّحة بمسؤولية الحماية وحراسة الحدود فحسب، بل تحمل أيضاً أعباء رسالتها الإلهية، وهي الجهاد في سبيل الله، والجهاد من أجل بسط حاكمية القانون الإلهي في العالم”.
وتتلخص مهام الحرس الثوري، وفقا للدستور، في “احتواء أو تصفية العناصر المضادة والمعادية للثورة، والمواجهة المسلحة للثورة المضادة وعناصرها المسلحة كذلك، إضافة إلى حماية إيران من تحركات القوى الخارجية في الداخل، ومساعدة الجمهورية الإسلامية على نشر الثورة، وذلك تحت إشراف وتوجيه المرشد الأعلى للثورة، وكذلك توظيف خبرة الحرس الثوري وموارده البشرية في التعامل مع الاضطرابات القومية والكوارث غير المتوقعة ودعم خطط التنمية في الجمهورية الإسلامية لضمان زيادة موارد الحرس الثوري إلى الحد الأقصى”.
كما تنصّ المادة (144) على أنه “يجب أن يكون جيش جمهورية إيران الإسلامية، جيشاً إسلامياً، من خلال كونه جيشاً عقائدياً وشعبياً، وأن يضم أفراداً لائقين مؤمنين بأهداف الثورة الإسلامية، ومضحّين بأنفسهم من أجل تحقيقها”. ويعتبر الحرس الثوري و”الباسيج”، أعمدة النظام وذراعه “القمعية” لتنفيذ المهام التي تتطلب درجةً عالية من الالتزام الأيديولوجي، في داخل إيران وخارجها.
قدراته وقواته
تتباين المعلومات والتقارير بشأن العدد الحقيقي للقوات المنخرطة تحت راية الحرس الثوري الإيراني أو قدراته التعبوية، ووفق تقديرات المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن، فإن الحرس الثوري يتألف من 350 ألف عنصر، في حين يقول معهد الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن إن عدد أفراده لا يتجاوز 120 ألفا، ولديه قوات أرضية، بالإضافة إلى وحدات بحرية وجوية، ويشرف على أسلحة إيران الاستراتيجية. كما يمكن له أيضاً دعم الجيش الإيراني الاعتيادي، الذي يمتلك قرابة 350 ألف جندي، بأنظمة دفاع خارجية.
3.jpg
المرشد الإيراني آية الله علي خامنئي خلال تفقده عرضا للحرس الثوري (رويترز)
ويعرف عن أعضاء الحرس الثوري أو “الباسدران” حماسهم الديني وولاءهم المطلق للنظام وجاهزيتهم للدفاع عنه ضد “أعداء الداخل والخارج”، مما جعلهم موضع تكريم القيادة، ومنحهم نفوذا كبيرا داخل أجهزة الدولة على الصعيدين السياسي والاقتصادي (سواء في كيانات قانونيّة أو غير قانونيّة). حيث يتبع الحرس الثوري للمرشد الأعلى الذي يشغل منصب القائد الأعلى للقوات المسلحة في البلاد، واستخدم المرشد سلطته لبسط نفوذ وتعزيز قوة الحرس، وذلك من خلال تعيينه العديد من عناصره السابقين في مناصب سياسية رفيعة. ويُعتقد أن الحرس الثوري يحتفظ بعناصر له في السفارات الإيرانية عبر العالم، إذ يُقال إن هذه العناصر هي التي تقوم بتنفيذ العمليات الاستخباراتية، وتقيم معسكرات التدريب، وتسهم في تقديم الدعم لحلفاء إيران في الخارج.
وتحت مظلة “الحرس الثوري” تأتي قوات “الباسيج”، والمعروفة بقوات التعبئة الشعبية، وتضم نحو 90 ألف رجل وامرأة، ولديها القدرة على حشد نحو مليون متطوع عند الضرورة، وفق معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى.
ومن مهام “الباسيج” التصدي للأنشطة المناهضة للنظام داخل البلاد كما حدث عام 2009 عندما نشبت اضطرابات بعد الإعلان عن فوز محمود أحمدي نجاد في الانتخابات الرئاسية. فتصدى عناصر “الباسيج” للمظاهرات المؤيدة لمنافسه مير حسين موسوي. كما يتولى “الباسيج” مهمة حفظ النظام داخل البلاد والحفاظ على القاعدة الشعبية له.
ويأتي أيضاً “فيلق القدس”، وهو أحد أذرع الحرس الثوري، والذي أسسه خامنئي، الذي خلف الخميني عام 1989، وهو عبارة عن وحدة تابعة للحرس الثوري تضطلع بمسؤوليّة عملياته في الخارج. ووفق هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”، يُعرف فيلق القدس في بعض الأحيان بأنّه خليفة الحرس الإمبراطوريّ للشّاه، ويقدّر عدد أعضائه بحوالي 2000 إلى 5000 عضو.
ويتولى “فيلق القدس” تنفيذ مهام حساسة في الخارج، مثل تقديم الأسلحة والتدريب للجماعات والميليشيات المقربة من إيران، مثل حزب الله اللبناني والفصائل الشيعية في العراق في أعقاب الغزو الأميركي للعراق عام 2003. وقد بنى “فيلق القدس” شبكة علاقات واسعة في المنطقة تمتد من اليمن إلى سوريا والعراق وغيرها من الدول بحيث بات الوجه الأبرز لحجم النفوذ الايراني في هذه الدول.
تغلغل في مفاصل الدولة
خلال السنوات الأخيرة ونتاج قرب الحرس الثوري من المرشد الأعلى، تغلغل العديد من قياداته في أروقة السلطة، حيث وصل أحد أعضائه إلى رئاسة الجمهورية، وهو الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد. كما دخل العديد من كوادر الحرس إلى مفاصل الدولة، ومن أبرزهم سكرتير المجلس الأعلى للأمن القومي علي لاريجاني وقائد الشرطة محمد باقر قاليباف، كما أصبح عدد منهم ناشطين في قطاعات البناء والنفط.
وبجانب قدراته العسكرية، يعتقد البعض أن الحرس الثوري يسيطر على نحو ثلث الاقتصاد الإيراني، وذلك من خلال تحكمه بالعديد من المؤسسات والصناديق الخيرية والشركات التي تعمل في مختلف المجالات. حيث اعتبرته صحيفة “نيويورك تايمز”، ثالث أغنى مؤسسة في إيران بعد كل من مؤسسة النفط الايرانية، ووقف الإمام رضا.
وينخرط الحرس الثوري في كثير من المشاريع الاقتصادية، التي تقدر بمليارات الدولارات في مجالات النفط والغاز والبنى التحتية، وتتبعه مؤسسات مالية واستثمارية ضخمة داخل إيران تشمل قطاعات إنتاجية وخدماتية عدة، منها الإنشاءات والطرق والنفط والاتصالات. وعلى الرغم من أن عدد عناصر الحرس الثوري يقل عن عدد قوات الجيش النظامي، إلا أنه يُعتبر القوة العسكرية المهيمنة في إيران، ويتولى العديد من المهام العسكرية الكبيرة في البلاد وخارجها.
كيف يراه العالم؟
“مثير للاضطرابات وداعم للإرهاب، ومصنف على قائمة اللائحة السوداء الأميركية”، هكذا تنظر العديد من القوى الإقليمية والدولية للحرس الثوري الإيراني، لا سيما في السنوات الأخيرة.
في أبريل (نيسان) الماضي، أعلن الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، إدراج “الحرس الثوري” الإيراني ضمن قائمة المنظمات الإرهابية الأجنبية الخاصة بوزارة الخارجية الأميركية. وذلك في أحدث تصعيد لحملة “الضغط الأقصى” التي تشنّها الإدارة الأميركية والتي تستهدف أنشطة إيران الخبيثة. وذلك لارتباط قوات الحرس الثوري الإيراني بالأعمال الإرهابية بالمنطقة.
وبحسب ماثيو ليفيت، هو زميل “فرومر- ويكسلر”، ومدير برنامج “راينهارد للاستخبارات ومكافحة الإرهاب”، في معهد واشنطن، فقد سبق وتم تصنيف “الحرس الثوري” من قِبل سلطات مكافحة انتشار الأسلحة النووية التابعة لوزارة الخزانة الأميركية (الأمر التنفيذي رقم 13382) عام 2007، ومن ثم مجدداً إثر انتهاكات لحقوق الإنسان، إلى جانب “قوات التعبئة الشعبية” (الباسيج) و”قوات إنفاذ القانون” – بموجب الأمر التنفيذي رقم 13553 عام 2011. وكما يشير بيان الحقائق الصادر عن وزارة الخارجية الأميركية بشأن تصنيف المنظمات الإرهابية الأجنبية، صنّفت سلطات مكافحة الإرهاب (بموجب الأمر التنفيذي رقم 13224) “فيلق القدس” التابع لـ”الحرس الثوري” على أنه “كيان إرهابي عالمي ذو تصنيف خاص” في عام 2007، كما صنّفت السلطات المذكورة “الحرس الثوري” الإيراني نفسه بموجب الأمر التنفيذي 13224 منظمةً إرهابيةً عام 2017.
ولم يتم إدراج “الحرس الثوري” أساساً من قِبل سلطات الخزانة الأميركية فحسب، بل سبق وأن حظر الاتحاد الأوروبي أيضاً التعاملات الاقتصادية معه ككل في عام 2010، ولم يتغير ذلك عند إبرام الاتفاق النووي عام 2015 الذي يُعرف رسمياً باسم “خطة العمل الشاملة المشتركة”.
ووفق مجلس العلاقات الخارجية الأميركي، لعب الحرس الثوري دورا أساسيا في الحرب ضد العراق بين 1980 و1988، كما لعب أيضا دورا واسعا في وأد حركات الانتفاضات والاضطرابات التي واجهها النظام الإيراني في السنوات الأخيرة، إذ ينظر إليه على أنه جيش موازٍ يملك سلاحي الطيران والبحرية الخاصين به. خلال الاحتلال الأميركي للعراق، اتهمت واشنطن (الباسدران) من خلال جيش القدس التابع له بمساعدة المجموعات الشيعية في العراق.
ويقول أليكس فاتانكا، زميل معهد الشرق الأوسط، ومؤلف كتاب “إيران وباكستان: الأمن والدبلوماسية والنفوذ الأميركي”، الصادر عام 2015، أن أسوأ ما يميز الحرس الثوري الإيراني أنه “لطالما حصر انخراطه العسكري بدول تعاني من عدم الاستقرار، وامتد هذا الانخراط من لبنان عام 1982، حين ساعد في إنشاء (حزب الله)، وكذلك في العراق بعد اندلاع الحرب عام 2003، وصولاً إلى اليمن اليوم بدعم الميليشيات الحوثية”، مضيفا “لا يشير أي نجاح حققته إيران في هذه الساحات إلى أي نقطة قوة في رسالتها، بل بالأحرى إلى مهارتها في تحديد الفراغات الإقليمية في السلطة واستغلالها”.
اندبندت