الموجة الرابعة: مواصفات الإرهابي بعد الثورات.. إنزواء الفقر وصعود التطهير

الموجة الرابعة: مواصفات الإرهابي بعد الثورات.. إنزواء الفقر وصعود التطهير

3624

افتراض الانقطاع عن الماضي في الظاهرة الإرهابية قد يكون من غير المنطقي، فهي ظاهرة مرتهنة بثنائية الاستمرارية والتغير. حيث وجدت إرهاصاتها الأولى مع اندلاع الحرب الأفغانية في القرن المنصرم والتي أفضت إلى تأسيس المنظومة الجهادية على نمط شبه ثابت يكرس لفكرة العالمية التي تستدعي تكوين شبكات لتجنيد عناصر أجنبية تشارك في الصراعات، وبالطبع تُضفي هذه الشبكات على الصراعات المنخرطة فيها القدسية الكفيلة باستقطاب عناصر تبحث عن خلاص دنيوي عبر مهمة جهادية مقدسة.

 ولكن لم تكتفِ المنظومة الإرهابية في لحظتها الراهنة وخلال تعاطيها مع الصراعات القائمة في الشرق الأوسط باستدعاء الأنماط الثابتة المستقرة منذ مرحلة الجهاد الأفغاني؛ فقد بدت المنظومة محملة بسمات للتغير مرتبطة بطبيعة الصراعات وأطرافها وبعدها الطائفي، فضلا عن التجديد في آليات الاستقطاب والعناصر، والتي اتسمت هي الأخرى بعددٍ من السمات، بعضها مشترك مع الأجيال الراديكالية السابقة، وبعضها الآخر جعلها متمايزة، لا سيما أن هذه العناصر لم تَعُدْ تُمثل النمط التقليدي للراديكالي الذي ينشأ في كنف معسكرات التدريب الخاصة بالقاعدة بدون أي اتصال بالعالم الخارجي.
موجات الراديكالية

تشكلت الموجة الأولى من الراديكاليين من العناصر التي انضمت للحركة الجهادية في أفغانستان ضد الغزو السوفيتي إبان عقد الثمانينيات من القرن الماضي، واتسمت هذه العناصر بتعليم جيد إلى حد كبير، فضلا عن انتماء قطاع واسع من العناصر الجهادية للطبقة الوسطى، وبالكاد أعمارهم كانت تبلغ 30 عامًا. وعقب انتهاء الحرب الأفغانية ظلت نسبة لا بأس بها من هذه العناصر داخل أفغانستان وباكستان لتكون النواة التي تأسس من خلالها تنظيمُ القاعدة، ليدخل بذلك المفهوم الجهادي إلى سياق أكثر راديكالية تمتد تداعياته إلى دول المنطقة؛ حيث بات الأمر غير مقتصر على القتال ضد قوة احتلال خارجي.

وخلال حقبة التسعينيات تألف جيل آخر من الراديكاليين حمل معه ملامح موجة ثانية، وقد اعتمدت هذه الموجةُ بشكل رئيسي على المغتربين الشرق أوسطيين الذين انتقلوا إلى الخارج لتلقي التعليم في الجامعات الغربية، ومع انفصال هؤلاء عن سياقهم المجتمعي والأسري والثقافي تنامى لديهم شعور بالاغتراب والتهميش، وغيرها من السلبيات التي ساهمت في دفع العديد منهم إلى المزيد من التطرف، وهكذا تضمن هذا الجيلُ الشبابَ الذين سافروا إلى معسكرات تدريب القاعدة في أفغانستان خلال عقد التسعينيات من القرن الماضي، واندمجوا في تنظيم القاعدة، لتتشكل الخلفيات الفكرية لهذه الموجة الراديكالية على مفهوم القتال الأممي الذي صكه زعيم القاعدة السابق “أسامة بن لادن” في عقد التسعينيات ليدعو المسلمين إلى الالتحاق بالجهاد، والقتال الأممي الذي تقوده القاعدة لمجابهة العدو البعيد.

وارتبطت الموجةُ الراديكالية الثالثة بعناصر بدأت بفكرة جهادية، وتحولت إلى أفكار إرهابية متطرفة، فالكثير من هذه العناصر اتسمت “بالغضب الأخلاقي” تجاه غزو العراق، لا سيما مع تركيز أدبيات القاعدة على فكرة المؤامرة الغربية على العالم الإسلامي، وتورط الأنظمة الحاكمة بالشرق الأوسط في هذه المؤامرة. وهذا التوجه وُجد له صدى لدى الكثيرين الذين كانوا على درجة جيدة من التعليم (دون الاهتمام بالمناقشات اللاهوتية بشأن الجهاد)، وهكذا باتت لديهم رغبة في الالتحاق بتنظيم القاعدة، ولكن نظرًا لتعرض التنظيم للانكماش والضغوط في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، أصبح من الصعب الانضمام المباشر للتنظيم، وكبديل عن ذلك قامت العناصر الإرهابية بتشكيل شبكات تتسم بدرجة كبيرة من السيولة وغير الرسمية، والاستناد إلى شبكة الإنترنت والموارد الذاتية في التمويل والتدريب، ومن ثم بدا الأمر كما لو كان “جهادًا بلا قيادة”.

سمات الإرهابي الجديد

اتصلت الموجةُ الإرهابية الراهنة (إن جاز وصفها بالموجة الرابعة) بتداعيات الثورات العربية، والتي تعرضت مساراتها للكثير من الانحرافات، والتي كان من ضمن ما أدت إليه المزيد من الفوضى الأمنية، وتراجع فكرة الدولة في مخيلة الكثيرين، لتشغل الانتماءات الأولية مكانة مركزية في مرحلة ما بعد الثورات، ناهيك عن عدم حسم سؤال الهوية في الكثير من المجتمعات العربية، وتنامي النزعة الطائفية، والتكريس للصراع السني الشيعي. وعطفًا على هذا، طرحت التنظيمات الإرهابية نفسها كبديل عنيف يُعبر عن خيار هوياتي متجاوز لحدود الدولة الوطنية، ويستعيض عنها بكيانات أخرى على نمط فكرة الخلافة الإسلامية التي يقدمها تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”.

وهذه المعطيات أوجدت جيلا جديدًا من الراديكاليين المنضوين تحت لواء التنظيمات الإرهابية يحمل سمات متنوعة، بعضها متوارث عن الموجات الراديكالية السابقة، وبعضها الآخر يتصف بالحداثة والاختلاف، وإجمالا فإن استقراء خرائط الإرهابيين الجدد تُشير إلى عدد من الدلالات يمكن اختزالها فيما يلي:-

أولا- المُكوِّن الشبابي، وهو ما تشترك فيه الموجة الإرهابية الراهنة مع الموجات الإرهابية السابقة، إذ إن قطاعًا واسعًا من العناصر الراديكالية في المنظومة الإرهابية الجديدة ينتمي إلى جيل الشباب، وتتراوح أعمارهم بين العشرينات والثلاثينات، بل إن بعضهم في سن المراهقة (لم يبلغوا العشرينات من عمرهم) وخاصة في صفوف المقاتلين الأجانب المنضمين لتنظيم الدولة الإسلامية. وتتجلى هذه الفرضية في عدد من النماذج، من أهمها نموذج التونسي “سيف الدين رزقي” البالغ من العمر 23 عامًا، والذي نفذ الهجوم الإرهابي الأخير في مدينة سوسة السياحية بتونس خلال شهر يونيو الماضي.

كما يؤكد هذه الفرضية عبد اللطيف الحناشي في دراسته المعنونة بـ”الإرهاب المعولم: المقاتلون التونسيون في سوريا خرائط التجنيد والمواصفات”؛ حيث توصل الحناشي – من خلال تحليل حالات لتونسيين قتلوا في سوريا أو اعتقلوا عقب رجوعهم لتونس – إلى أن نسبة كبيرة من المقاتلين تتراوح أعمارهم بين 20 و30 عامًا، وبالطبع فإن هؤلاء المقاتلين يمثلون الهدف الأول لاستقطاب التنظيمات الإرهابية، نظرًا إلى أن المكون الشبابي يُقدم لهذه التنظيمات عدة مزايا، منها أن غالبية هؤلاء الشباب ليست لديهم سوابق أمنية، وبالتالي لا يُثيرون شكوكًا حيال أنشطتهم، وهو ما يُتيح للتنظيم الإرهابي مزيدًا من الحرية العملياتية، وتعزيز فرص نجاح العمليات التي يتم التخطيط لها، علاوة على ذلك فإن تدفق العناصر الشبابية على التنظيم يكفل له الاستمرارية، وتوظيف طموح واندفاع هذه العناصر في تحقيق أهداف التنظيم.

ثانيًا- التفسيرات المتعددة، فالمسلمات التقليدية الاختزالية حول الخلفيات الاجتماعية للإرهابيين لم تعد قادرة على تقديم تفسيرات متكاملة لظاهرة الانضمام للتنظيمات الإرهابية في الوقت الحاضر، فالأمر لم يعد قاصرًا على الصورة التقليدية (والتي لا تزال موجودة ضمن المنظومة الإرهابية) للمتطرف غير المتعلم المنتمي للطبقات الدنيا والمناطق الهامشية في المجتمع، إذ إن المؤشرات القائمة توضح أن نسبة ملحوظة من المنتمين للتنظيمات الإرهابية من الشباب الحاصلين على تعليم جيد، على غرار نموذجي “إسلام يكن” الذي انضم لتنظيم الدولة الإسلامية في 2013، و”سيف الدين رزقي” منفذ الهجوم الإرهابي الأخير في مدينة سوسة.

فقد نشأ “إسلام يكن” في مصر الجديدة، وهو من الأحياء التي تعبر بصورة أو بأخرى عن الطبقة الوسطى في مصر، وقد درس يكن في مدرسة ليسيه الحرية، ثم التحق بكلية الحقوق. أما سيف الدين المرزوقي فقد كان طالب ماجستير في المعهد العالي للعلوم التطبيقية والتكنولوجيا بجامعة القيروان. وكلا النموذجين يعبران عن أعداد كبيرة من المنتمين للمرحلة الإرهابية الجديدة، والذين لم يتخرجوا في جامعات دينية، كما أنهم ليسوا منعزلين عن واقع مجتمعاتهم. والأمر المثير للانتباه أن التعليم الذي تلقاه هؤلاء كان له دور مركزي في عملية استقطابهم، لا سيما أنه سمح لهم بالمزيد من التفاعل مع الفضاء الإلكتروني ومواقع التواصل الاجتماعي بما تتضمنه من أفكار راديكالية، وبالتبعية تنامت فرص التلاقي مع المنصات الافتراضية للتنظيمات الإرهابية.

واستصحب هذا التعدد في الخلفيات الاجتماعية تعددية في الدوافع، وهو ما يجعل هذا الجيل من الإرهابيين مختلفًا إلى حدٍّ ما عن الأجيال الراديكالية الأولى التي كانت مدفوعة بالأساس برغبة الجهاد ضد العدو الخارجي، والإحباطات من الواقع. فالجيل الحالي يتصف بتنوع المحفزات والتي اشتملت على الرغبة في إثبات الذات، والبحث عن المغامرة والإثارة والشهرة، وأدوار البطولة، وخاصة في حالة بعض العناصر الغربية، ناهيك عن الحصول على التمويل والحياة المرفهة التي روّج لها تنظيم الدولة الإسلامية ليجذب المزيد من التابعين، كما أن البعض الآخر كان مدفوعًا بنزعة تطهرية تُعوض عن فكرة الابتعاد عن الدين، وتبحث عن خلاص دنيوي عبر مساعدة الشعوب المستضعفة في مواجهة الأنظمة الحاكمة، وثمة عامل أخير ارتهن بحالة الإحباط الناتجة عما آلت إليه الأوضاع عقب الثورات العربية، فالإحباط – وفقًا لأطروحة إريك هوفر في كتابه “المؤمن الصادق” والمنشور في عقد الخمسينيات من القرن الماضي- يُعتبر المحرك الرئيسي لتنامي النزعات الراديكالية في المجتمعات، فكلما زاد إحباط الأفراد كلما تعاظم اتجاههم نحو الأطر الراديكالية العنيفة التي تمنح لحياتهم مغزى حقيقيًّا.

ثالثًا- الارتباط بالدولة الإسلامية، حيث يبدو جيل الإرهابيين الجدد مرتبطًا بشكل واقعي بفكرة الخلافة الإسلامية منذ إعلان تنظيم الدولة الإسلامية عن نشوئها في يونيو 2014، ومطالبة كافة المسلمين بمبايعة الخلافة والولاء لقائدها أبي بكر البغدادي، وهذا الانتماء للدولة الإسلامية جعل الجيل الجديد من الإرهابيين متمايزًا عن كافة الأجيال السابقة التي ظلت حبيسة الانتماء المتخيل لفكرة تاريخية غير مطبقة على أرض الواقع، وعطفًا على هذا بات الإرهابيون الجدد أشد حدة في العداء للدول الوطنية القائمة، فهم يعتبرون أنفسهم جنود الخلافة الإسلامية، وينفذون التوجيهات الصادرة من تنظيم الدولة الإسلامية. ويكفي هنا استدعاء التسجيل الصوتي الصادر عن المتحدث باسم تنظيم الدولة “أبو محمد العدناني” في شهر يونيو الماضي، والذي طالب أتباع التنظيم بتصعيد هجماتهم خلال شهر رمضان. ويبدو أن هذا التسجيل كان بمثابة الضوء الأخضر لتنفيذ سلسلة من الهجمات الإرهابية بدأت بالهجوم على منتجع سياحي بمدينة سوسة التونسية في 26 يونيو الماضي، والهجوم على مسجد الإمام الصادق بالكويت في اليوم ذاته، وامتدت هذه السلسلة إلى مصر مع الهجمات التي شهدها شمال سيناء في الأول من شهر يوليو الجاري.

رابعًا- تنوع الأهداف، وهو يبدو كاختلاف في الحدة والدرجة بين الراديكاليين الجدد والأجيال السابقة، إذ إن كثيرًا من المنتمين للموجات الإرهابية السابقة (هذا لا ينفي الاستثناءات) كانوا يحاولون تجنب فتح العديد من الجبهات في وقت واحد، ولذا نجد الأدبيات التقليدية لتنظيم القاعدة تُركز على أولوية مهاجمة “العدو البعيد”، وحتى لو وقعت هجمات ضد “العدو القريب” (الأنظمة الحاكمة في الشرق الأوسط)، فإن هذا لم يكن يلقى ترحيبًا كبيرًا من جانب قيادات القاعدة. بيد أن هذه المعطيات تغيرت مع بزوغ جيل الإرهابيين الجدد التابع للدولة الإسلامية، فهذا الجيل أكثر راديكالية ودموية، وتتنوع أهدافه لتشمل كافة الفاعلين الآخرين المتمثلين في دول ومجتمعات الشرق الأوسط، والمواطنين الأجانب، على غرار قتل الأسرى الأجانب من جانب تنظيم الدولة الإسلامية، والهجوم على السائحين الأجانب. بالإضافة إلى طغيان الجانب الطائفي وثنائية الشيعة والسنة على خطابات ومفردات ذلك الجيل (وهي سمة مشتركة مع موجة الراديكالية الثالثة التي تأثرت بتجليات غزو العراق والعنف الطائفي بين السنة والشيعة)، وبناءً على هذه المدركات طالت الهجمات الإرهابية مساجد للشيعة داخل السعودية والكويت.

المصادر

1) عبد اللطيف الحناشي، “الإرهاب المعولم: المقاتلون التونسيون في سوريا خرائط التجنيد والمواصفات”.

http://www.rsgleb.org/pdf/2015/022015/3020-14.pdf

2) Mona El Naggar, “From a Private School in Cairo to ISIS Killing Fields in Syria”, the New York times, Feb 18, 2015,

2) Marc Sageman, “the next generation of terror’, foreign policy, October 8, 2009, http://foreignpolicy.com/2009/10/08/the-next-generation-of-terror/

3) Daniel byman &Jeremy Shapiro, “Be Afraid. Be A Little Afraid: The Threat of Terrorism from Western Foreign Fighters in Syria and Iraq”, Brookings, November 2014,

http://www.brookings.edu/~/media/research/files/papers/2014/11/western-foreign-fighters-in-syria-and-iraq-byman-shapiro/be-afraid–web.pdf

3) Tori DeAngelis, “understanding terrorism”, American Psychological Association, November, 2009,

http://www.apa.org/monitor/2009/11/terrorism.aspx

6) Thomas Koruth Samuel, “The Lure of Youth into Terrorism”, the Southeast Asia Regional Centre for Counter-Terrorism, http://www.searcct.gov.my/publications/our-publications?id=55