مبدأ الحاكمية يحتل صدارة أطروحات حركات الإسلام السياسي، وقد تم تأويل الحاكمية بما يخدم الموقف الأيديولوجي لهذه الحركات ابتداء بالمودودي ووصولا إلى سيد قطب. ولعل الأسئلة التي لا تني في الإلحاح هي أين تقف حدود الديني في مجال السياسة؟ وما هي حدود الدنيوي في الممارسة السلطوية؟ فالحركات الفكرية الإسلامية درست مبدأ التوحيد في حدوده الدينية، أما الحركات السلفية الجهادية فقد جعلت من هذا المبدأ مطية لغاياتها السياسية ما جعل منه عاملا من عوامل التفرقة بين المسلمين بطوائفهم وإثنياتهم.
لا شك أن الحديث عن التطرف الديني أو الغلو الديني هو حديث مزدوج بطبيعته، حديث في الدين، وحديث في السياسة؛ حديث في الدين لأن المتطرفين ينطلقون منه، وحديث في السياسة لأن المتطرفين يريدون الوصول إليها، لأن تصورهم عن السياسة فرع لتصورهم عن الدين، وفي نطاق هذا التصور يحصل النزاع بين أهل الوسطية وأهل الغلو والتشدد.
إذا ما حاولنا إرجاع مجمل الأدبيات الدينية والسياسية التي تتبناها هذه الجماعات لوجدنا أنها تعود إلى أصل واحد، هو التوحيد. فقد شكلت قضية التوحيد دائما منطلقا مركزيا في كل حركة فكرية في التاريخ الإسلامي، وجرى الربط بين مبحث التوحيد ومبحث السياسة. ففي المرحلة التي ظهر وتطور فيها علم الكلام مثلا، خلال القرن الثاني الهجري، وارتبط فيها علم الكلام بالسياسة، تفردت فرقة المعتزلة بصفة “أهل التوحيد والعدل”، وكانت الاختيارات الفكرية والاعتقادية للمعتزلة، ولغيرها من الفرق، ليست اختيارات نابعة من الموقف من الدين فقط، بل أيضا من الموقف من السياسة.
ابن تيمية المرجعية السلفية
يعتبر أحمد بن عبدالحليم بن تيمية ـ أبرز الرموز الدينية التاريخية عند السلفيين المعاصرين ـ من بين العلماء الذين فصلوا في قضايا التوحيد والعقيدة، خلال القرن السابع الهجري. وقد قسّم ابن تيمية التوحيد إلى أركان ثلاثة: توحيد الأسماء والصفات، توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية؛ وكان هذا الاهتمام الكبير بموضوع التوحيد مرتبطا بسياق فكري في تلك الفترة، التي ظهرت فيها فرق ومذاهب عدة، استوجبت أن يكون التوحيد قطب الصراع في ما بينها.
مهدت تنظيرات ابن تيمية السبيل أمام الحركات الإصلاحية التي ظهرت في القرون التالية له، إذ استلهمت تلك الحركات فكر الرجل وحاولت تنزيلها وفقا للظروف الاجتماعية والسياسية التي ظهرت فيها. وفي القرن التاسع عشر، ظهرت حركة محمد بن عبدالوهاب في الجزيرة العربية، التي عملت على تجديد التوحيد وتنقيته من الشرك. وقد توسلت الحركة في مشروعها هذا بالعمل السياسي، من أجل محاربة الشرك والقبورية والخرافات التي كانت منتشرة باسم الدين.
وفي النصف الأول من القرن العشرين، إبان ما يسمى بعصر النهضة مع رواد الإصلاح الحديث، شكلت قضية التوحيد محورا مركزيا للتجديد الفكري والسياسي والحضاري، فألّف الشيخ محمد عبده رسالته المعروفة “رسالة التوحيد”، حيث حاول الربط بين تجديد التوحيد والتجديد الحضاري للأمة، في إطار الفكر الوسطي والاجتهاد العقلي والحرية الإنسانية.
تغيير التوحيد نحو السياسة
غير أن مفهوم التوحيد، بشقيه، خضع لتحول جذري مع فكر أبي الأعلى المودودي في الهند، خلال النصف الأول من القرن الماضي. ولا شك أن المودودي تأثر بالظروف السائدة في مجتمعه الهندي، من حيث تعددية الطوائف الدينية والصراعات المذهبية، والحاجة إلى توضيح مفهوم التوحيد بالمعنى الإسلامي وسط مزيج الأديان والمذاهب الدينية غير الإسلامية. لكن الواضح أنه أحدث تحولا في مفهوم التوحيد نحو الاتجاه السياسي، بسبب طموحه في صياغة هوية سياسية للمسلمين الهنود، حيث بات المفهوم لديه مرتبطا بمفهوم الدولة الإسلامية، كعنوان لذلك التميّز المنشود للمسلمين عمّا سواهم من الطوائف.
صاغ المودودي مفهومه للتوحيد في كتابه “المصطلحات الأربعة في القرآن”، الذي نشره عام 1941؛ فقد أكد فيه على أن التوحيد لا يستقيم من دون تحققه الواقعي على مستوى الحكم والسلطة، وإلا فإنه الشرك بعينه، إذ يقول “وكذلك إذا كان مفهوم تلك المصطلحات غامضا متشابها في ذهن الرجل وكانت معرفته بمعانيها ناقصة، فلا شك أنه يلتبس عليه كل ما جاء به القرآن من الهدى والإرشاد، وتبقى عقيدته وأعماله كلها ناقصة مع كونه مؤمنا بالقرآن. فإنه لن ينفك يلهج بكلمة لا إله إلا الله ويتخذ مع ذلك آلهة متعددة من دون الله. ولن يبرح يعلن أنه لا رب إلا الله ثم يكون مطيعا لأرباب من دون الله في واقع الأمر. إنه يجهر بكل صدق وإخلاص بأنه لا يعبد إلا الله تعالى ولا يخضع إلا له، ولكنه مع ذلك يكون عاكفا على عبادة آلهة كثيرة من دون الله”.
انطلاقا من ذلك المبدأ النظري، الذي يحاول تصحيح التصور العقدي لمفهوم التوحيد، بلور المودودي مبدأ آخر عمليا، وهو مفهوم الحاكمية، للانتقال من التصور النظري إلى الصورة الواقعية، ممثلة في الدولة الإسلامية. فقد أكد في كتابه “منهاج الانقلاب الإسلامي”، الذي نشره بعد الكتاب السابق بفترة قليلة، أن السبيل إلى تحقيق “توحيد الحاكمية” هو إقامة الحكم المسلم، ولو بالعنف والقوة، لأن “الإسلام يضاد ويعارض الممالك القائمة على المبادئ المناقضة للإسلام، ويريد قطع دابرها، ولا يتحرّج في استخدام القوة الحربية لذلك، وهو لا يريد بهذه الحملة أن يكره من يخالفه في الفكر”.
قطب وبداية التطرف والعنف
في عقد الخمسينات أعاد سيد قطب، في مصر، تطوير مفهوم “توحيد الحاكمية” الذي وضعه المودودي، واعتبر قطب في كتابه “معالم في الطريق” أن التوحيد منهج حياة، وأن كلمة التوحيد هي القاعدة الرئيسية التي يقوم عليها أيّ مجتمع مسلم، وأنه لا مجتمع مسلما خارج هذه القاعدة. وقد وضع قطب ثلاثة أركان للتوحيد، التوحيد على مستوى التصور، والتوحيد على مستوى التعبّد، والتوحيد على مستوى التشريع.
وفي الواقع فإن الأمر يتعلق هنا بـ”تعريب” المفهوم الذي وضعه المودودي، بنقله من المناخ الهندوسي إلى المناخ المصري، أكثر من شيء آخر. بيد أن الإضافة الجديدة التي جاء بها قطب أنه، خلافا للمودودي، حاول وضع مرحلة انتقالية بين المجتمع الجاهلي ـ الذي لا يحقق كلمة التوحيد ـ وبين الدولة الإسلامية، أطلق عليها تسمية “الجيل القرآني الفريد”، الذي تناط بعهدته تلك المهمة.
لقد دشن قطب الشروط الموضوعية لظهور جماعات الجهاد والتكفير في المجتمع المصري، ثم المجتمعات العربية في ما بعد، بوضعه لذلك المفهوم الحركي؛ ذلك أن جماعة الجهاد والجماعة الإسلامية وغيرهما من الجماعات المتشددة التي ظهرت في مصر في السبعينات من القرن الماضي، كانت محاولة استجابة لذلك المفهوم الحركي، الممثل في”الجيل الفريد”، الذي سيعمل على تحقيق مفهوم “توحيد الحاكمية” على صعيد الواقع العملي.
ونلاحظ أن السلفية الجهادية، التي ظهرت في نهاية القرن الماضي، ترجمت نوعا من الاستمرارية لهذا الفكر، مع نقله من السياقات المحلية التي صيغ فيها، إلى سياق دولي؛ وهكذا أصبح مفهوم الولاء والبراء ركنا رئيسا في مفهوم التوحيد لدى هذه الجماعات؛ وهو ركن كان حاضرا في الأدبيات الجهادية السابقة، لكن السلفية الجهادية أعادت إبرازه في إطار المواجهة الدولية التي فتحتها مع مختلف الأنظمة المسلمة وغير المسلمة، من أجل تأكيد المخالفة بين “أهل التوحيد” ـ التسمية التي صارت تلك الجماعات تطلقها على نفسها ـ و”أهل الشرك”، التي صارت تطلقها على باقي المختلفين عنها؛ ولذلك ليس غريبا أن نلاحظ أن هناك العديد من الجماعات المتشددة المسلحة باتت تحمل أسماء تظهر فيها عبارة التوحيد، كعَلَم على مرجعيتها، مثل “جماعة التوحيد والجهاد” التي ظهرت في العراق في منتصف التسعينات من القرن الماضي على يد أبي مصعب الزرقاوي، وتبعتها جماعات أخرى في عدد من المناطق العربية والإسلامية، أخذت لها نفس الاسم والمنطلق الفكري.
المقدسي وتأصيل السلفية الجهادية
يعد عاصم طاهر البرقاوي المعروف بـ”أبو محمد المقدسي”، منظر السلفية الجهادية الأردني، أحد أبرز المنظرين الذين عملوا على منح مفهوم التوحيد عمقا سياسيا. ففي كتابه المعروف “ملة إبراهيم” يذهب المقدسي إلى أن جميع رسالات الأنبياء كانت تدور حول أمرين: الموالاة، والمعاداة، وأن إظهار البغض للكفار ومحاربتهم ومعاداتهم هي ملّة إبراهيم، أبي الأنبياء. وقد اعتبر المقدسي أن هدف الجماعات السلفية الجهادية هو “دعوة الناس إلى التوحيد”، و”تجريد التوحيد”، وتحقيق حاكميته في المجتمع؛ إذ يقول “ونحن نسعى جاهدين إلى تقريب وشرح هذا التوحيد للناس لإخراجهم من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ونركز بهذا المجال على نواقض التوحيد المعاصرة، مثل أن يصرف التشريع لغير الله عز وجل، والتحاكم إلى القوانين الوضعية وتعطيل حكم الله، وهذا ما يطلق عليه الحاكمية في مصطلحات العصر، والحاكمية جزء أساسي من التوحيد”، ويظهر من خلال هذه الفقرة استبطان مفاهيم كل من المودودي وسيد قطب، التي صيغت قبل ذلك بأزيد من نصف قرن.
وقد أنشأ المقدسي موقعا أطلق عليه “منبر التوحيد والجهاد” في منتصف تسعينات القرن العشرين، ليكون بمثابة مصدر للتكوين الأيديولوجي على مفاهيم التوحيد السياسية وأدبيات الجهاد، ومنبرا لمختلف الحركات الجهادية المتشددة.
تحرص الجماعات السلفية الجهادية على تحويل مبدأ التوحيد إلى عامل للتمزيق بين طوائف المسلمين، عبر الإلحاح على المضامين السياسية التي حاولت شحنه بها، خلافا للمدارس الكلامية الإسلامية التقليدية التي ارتبط مبحث التوحيد بها، في نطاقه الديني المحدود، بعيدا عن الصراعات حول الحكم والسلطة السياسية. وتذهب هذه الجماعات إلى حد جعل ذلك المبدأ خصما للتعايش بين الشعوب والأديان، عوضا عن أن يكون عنصر لقاء وحوار، وفي ذلك يقول ناصر الفهد، أحد منظري هذا التيار “فهذا كتاب ربنا وهذا ما ينطق به، وهذا أساس العلاقة بين المسلمين وغيرهم، قائمة على الولاء والبراء، والمخالفة بين سبيل المؤمنين وسبيل الكافرين في جميع الأحكام، لا على السلام والمحبة والتعايش”.
إدريس الكنبوري
صحيفة العرب اللندنية