على مدار سنوات الحرب الثماني، كثيراً ما كان بشار الأسد يختفي عن رادارات الإعلام، كان يغيب فترات طويلة، في وقتٍ كانت فيه سورية تكاد تكون حديث العالم بأجمعه، وشكّل هذا الغياب بيئة خصبة لظهور شائعات كثيرة عن إختبائه وهروبه وحتى موته، وكانت تنتهي هذه الشائعات بظهور خبر استقباله مسؤولا إيرانيا من الدرجتين الثانية والثالثة، أو حضور موفد للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، برتبة نائب لوزير الخارجية، أو زيارة أحد نواب البرلمانات الأوروبية من أصحاب التوجهات اليمينية المتطرّفة.
وأعطى التدخل العسكري الروسي، منذ نهاية عام 2015، زخماً إعلامياً للأسد، نتيجة كثافة ظهوره في مقابلات على الفضائيات الروسية، أو منابر الإعلام، من صحافة وتلفزيونات أوروبية، أو ما تسمى الشبكة الإعلامية التي اخترقها الروس في أوروبا، وقد اتضح، من تحليل هذه اللقاءات، أن الهدف منها كان، بدرجة كبيرة، رفد حملة بوتين الدعائية في روسيا وأوروبا، وإظهار مدى نفوذه في السياسة الدولية وقضاياها الساخنة.
غير أن بوتين نفسه سيشير للأسد، بعد فترة، بتخفيف ظهوره على وسائل الإعلام لضرورات
“كان أمر العمليات الروسي للأسد واضحاً: لا تظهر على وسائل الإعلام، كلما ظهرت تسببت بكارثة لنا”سياسية، ففي تلك المرحلة، اعتقد بوتين أن السيطرة على سورية باتت خلف ظهره، وأنه لا بد من الانتقال إلى بناء هيكل للعملية السياسية التي ستثبت نفوذه في سورية والشرق الأوسط، وأنه على أعتاب مرحلة قطف ثمار تدخله العسكري، والذي ستتم ترجمته عبر تدفق تمويلات عملية الإعمار الذي ستغرف منه شركات ما يسمى رجال أعمال الكرملين، حتى التخمة، وراحت ماكينته الدبلوماسية تعمل ليل نهار من أجل إقناع الممولين بالنزول إلى سورية، وإقناع الحكام، وتحديداً العرب منهم، بإعادة احتضان الأسد، طالما أصبح أمراً واقعاً لا يمكن لأحد تجاوزه.
بالتزامن مع ذلك، كان أمر العمليات الروسي للأسد واضحاً وشفافاً، لا تظهر على وسائل الإعلام، فكلما ظهرت تسببت بكارثة لنا، وما تنجزه دبلوماسيتنا بمشقة وصعوبة لجعل العالم يستسيغك تدمره بكلمات فارغة، ولم تكتف روسيا بذلك، بل ذهبت إلى حد إعادة هيكلة الطاقم العامل في القصر الرئاسي، على مستوى المستشارين الإعلاميين، وارتأى الروس أن تكون أسماء الأخرس الواجهة الإعلامية لسورية، والاستفادة من حكاية مرضها بالسرطان والشفاء منه، لإظهار وجه آخر لبيت الحكم السوري غير بشار الذي لا يجيد إلقاء جملة كاملة من دون تعمده الاستفزاز والمناكفة.
لكن هذا ليس كل شيء، فالإدارة الروسية لعلاقات شرق أوسطية صعبة، وأوضاع سورية معقدّة، يلزمها بين حين وآخر إنطاق الأسد، وتلقينه قول أشياء لا يستطيع بوتين قولها مباشرة لخصومه وحلفائه في سورية، ولا بأس من ظهوره في مكان ما على جبهات سورية المشتعلة، لذا يصبح أمراً عادياً أن الأسد الممنوع من زيارة حلب فترة طويلة بأمر من بوتين، يزور جبهة إدلب، في وقت كان يخوض فيه بوتين مفاوضات صعبة مع نظيره التركي أردوغان، حول ترتيبات جديدة بعد العملية التركية، ثم يصف الأسد تركيا بالمحتل. ولكن يبدو أن روسيا شعرت بأنها رفعت السقف في وجه حليفها التركي، فطلبت من الأسد أن يرتب لقاءً مستعجلاً مع الفضائية السورية ليقول ما مفاده إنه يحرص على ألا تتحوّل تركيا إلى دولة عدو لسورية!
ولكن من الذي ما زال يتعاطى بجدية مع حقيقة أن بشار الأسد رئيس لسورية؟ حتى الأسد نفسه لا يصدق هذه الدعابة، وهو يدرك أن مرتبته انخفضت إلى أدنى من ذلك، مرتبة ليس لها توصيف لا في العرف الدبلوماسي ولا بالمنطق السياسي، فهو يعرف أنه لا يوجد رئيس دولة ذات سيادة يجري تسفيره على طائرة شحن، بالسر والتخفي، إلى روسيا وإيران، لمقابلة زعمائهما بدون حتى أن يصحبه موظف يكتب محضر اللقاءات، وهو يعرف أيضاً أن لا يوجد رئيس دولة تأمره مرافقة رئيس ضيف بالوقوف خلف الخط الأصفر على أرضٍ يفترض أنها تتبع لسيادته وتحت حكمه.
أما شؤون سورية الأخرى، الحرب والاقتصاد والسياسة، فباتت خيوطُها تجتمع في موسكو، هناك يجري الكرملين تفاهمات مع إسرائيل بشأن الأماكن والمواقع التي يحق للطائرات الإسرائيلية
“من الذي ما زال يتعاطى بجدية مع حقيقة أن بشار الأسد رئيس لسورية؟ حتى الأسد نفسه لا يصدق هذه الدعابة”استهدافها، ويوقع الاتفاقيات مع تركيا بشأن المساحات التي يمكن للجيش التركي دخولها لمطاردة حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي)، ويتفاهم مع ايران وتركيا عن الترتيبات السياسية القادمة في سورية من دستور وانتخابات وسواها، بل يذهب الكرملين إلى أبعد من ذلك بإجراء الإتصالات مع الدول العربية، من أجل فتح سفاراتها وإعادة علاقاتها مع نظام الأسد. وفي الغالب، يجري إبلاغ الأسد ونظامه بعد انتهاء الإجراءات والترتيبات، وغالباً عبر موظفين في وزارة الخارجية الروسية.
أنا الرئيس، يحاول بشار الأسد، بين فترة وأخرى، تذكير المقرّبين منه، والمحكومين باسمه، حتى لا ينسى هؤلاء هذه الحقيقة، وهم يرون تأكل صورته وسطوته، لا يتمالك نفسه، يظهر متوتراً نزقاً، يتكلم خارج النص، فلم يعد يملك ما يثبت أنه الرئيس إلا إذا شتم واستفز، يفعل ذلك وهو يدرك أن ثمّة رياحا ستهب عليه قريباً وتطيحه، فقد تراكمت معطيات ومؤشرات عديدة على أن بوتين، وحينما ينتهي من إجراء الترتيبات اللازمة لتثبيت وجوده في سورية، سيختتم هذا الفصل بتغيير بشار الأسد، ما دام ذلك سيشكل عتبة للانتقال إلى مرحلة قطف ثمار تدخله، فقد انتهى بوتين من هيكلة الجيش والأجهزة الأمنية، وها هو يفرض على الأسد الالتزام باللجنة الدستورية ومخرجاتها، وكل ذلك يرفع من درجة توتر الأسد الذي بات يصرخ أنه الرئيس، بعد أن نزل في واد سحيق.