جاءني صوته هادرا كأنه الرعد، لاهثا كمن يخوض سباق مسافاتٍ طويلة. قال لي إنه يخاطبني من أعلى مبنى “المطعم التركي” في وسط بغداد الذي يعتصم فيه المنتفضون/ الثوار، وقد أطلقوا عليه تسمية “جبل أحد”، نسبة إلى الجبل الذي صعد إليه المسلمون الأوائل في المدينة المنورة في معركتهم مع المشركين. أضاف: “أظن أننا على أبواب مذبحةٍ لن يتردّد رجال الحكم هنا في ارتكابها، بعد أن ضاقت بهم الخيارات، خصوصا وقد تلقوا رسالة واضحة من طهران لإنهاء الانتفاضة بأي ثمن، وهذا ما تسرّب إلينا من اجتماعاتهم”. وعندما سألته عن موقفهم، أجابني بثقةٍ، مستعيرا شعرا للشاعر الفلسطيني الراحل توفيق زياد: “نحن هنا على صدورهم باقون كالجدار.. نتحدّى، ننشد الأشعار، ونملأ الشوارع الغضاب بالمظاهرات.. كأننا عشرون مستحيلا”.
ما نقله الناشط المرابط على جبل أحد عن سيناريو مريب أسود تُحاك خيوطه على عجل لمواجهة الانتفاضة/ الثورة المتصاعدة في العراق يعكس حالة الهلع التي يعيشها رجال الحكم الذين اكتشفوا فداحة المأزق الذي هم فيه، ولم تعد أمامهم رهاناتٌ كثيرة، وربما فكروا في أسوئها عبر استخدامهم الرصاص الحي والقنابل الغازية التي قال خبراء إنها تخترق الدماغ، وتؤدي إلى الموت الفوري، أو تلك التي تورّث الرعاش والصرع. والهدف هو إنقاذ “العملية السياسية” الطائفية التي جاء بها الأميركيون واستثمرتها إيران، وهيمنت من خلالها على الفضاءات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العراق، على مدى السنوات العجاف الست عشرة الماضية. وقد طار قاسم سليماني، رجل المهمات الإيرانية الصعبة الذي رسم الخطوط العريضة لهذا السيناريو، ليحط في بغداد، وليشرف بنفسه على التنفيذ مترئسا “خلية الأزمة” التي تضم وكلاءه من “صقور” المليشيات السوداء.
كان المرشد الإيراني، خامنئي، قد أعطى إشارة البدء بقمع الانتفاضة/ الثورة، بوصفه لها بأنها “أعمال شغب” تديرها أميركا وإسرائيل والسعودية، وتموّل منهم. ومع دخوله على الخط على نحو مباشر، نشط وكلاؤه في بغداد في تنظيم اجتماعاتٍ ومشاورات، وإعطاء وعودٍ بالتغيير، والتلويح بخطواتٍ “إصلاحية” باهتة، لكن العراقيين لم يكونوا في وارد سماع وعود كهذه، بعدما قطعت الانتفاضة شوطا عريضا في إصرارها على أن الصراع ليس بين الشعب وحكامه الطارئين فحسب، إنما هو بين الإرادة الوطنية التي تريد عراقا حرا سيدا ومستقلا، وبين رجال المشروع الفارسي الذين يريدون جعل العراق واحدةً من ولايات “إيران الكبرى”، وهو المشروع الذي ألقته انتفاضتا العراق ولبنان في الوحل، وبدا العنف المفرط الذي مارسه قنّاصة المليشيات السوداء غير قادر على إنقاذ الموقف الصعب الذي وجد هؤلاء الوكلاء أنفسهم فيه. ولذلك تقرّر الشروع في تنفيذ سيناريو المذبحة وسحق الانتفاضة بأي ثمن.
ما أوقف تنفيذ هذا السيناريو، ربما الى حين، ظهور سيناريو توفيقي، أوحت به مرجعية النجف، وروّجته أطرافٌ في “العملية السياسية”، استفاقت على توجيهات المرجعية، لتستدير ثلاثمئة
“وعد رئيس الوزراء، عادل عبد المهدي، بتقديم استقالته، لكنه تراجع عن ذلك بقرار إيراني”وستين درجة، لتعلن موقفا جديدا يتماهى مع الانتفاضة، ويفتح الطريق أمام تلك الأطراف لركوب الموجة. وكانت المرجعية قد عبرت عن دعمها مطالب المتظاهرين، ودعت إلى الاستجابة لها، ورفضت تدخّل أية جهة خارجية في شؤون العراق، كما رفضت استخدام العنف المفرط في مواجهة المنتفضين، وأشارت إلى ضرورة إصلاح الأوضاع من خلال عملية سياسية جديدة.
اللافت أن السيناريو الأخير تبلورت خطوطه بعد ساعاتٍ من خطبة المرجعية، حيث وجهت قيادة الحشد الشعبي رسالة إلى المتظاهرين، عبرت فيها عن وقوفها معهم ودعمها مطالبهم وشعاراتهم الوطنية، ومحذّرة من “إرادات أجنبية وعناصر دخيلة”. وانبرى هادي العامري أحد “وكلاء” طهران البارزين، ليعلن “فشل النظام البرلماني وضرورة إعادة صياغة العملية السياسية تحت سقف الدستور”. في هذه الغضون، طار مقتدى الصدر إلى طهران، بعد فشل محاولته في تزعم حركة الاحتجاجات، وظل موقفه ملتبسا كعادته. ووعد رئيس الوزراء، عادل عبد المهدي، بتقديم استقالته، لكنه تراجع عن ذلك بقرار إيراني. وحاصرت مسكن رئيس الوزراء السابق، حيدر العبادي، مجموعة “مليشياوية”، قبل أن تفك الحصار القوات الأمنية، كما انكفأ نوري المالكي وحزبه بعد فشل دعوته إلى التظاهر من أجل الإصلاح.
وسط هذا الخليط من المواقف الملتبسة، والظروف المعقدة التي تكتنف الفضاء السياسي، لا يستطيع أي مراقبٍ للأحداث أن يجزم بأن أيا من السيناريوهات المطروحة سيتقدّم، ويعطي بعضهم الأرجحية للانتفاضة، ولقدرتها على الصمود والتصدّي لمثل هذه السيناريوهات، ولكن كل الاحتمالات تظل واردة.