بينما تمضي إيران في إجراءاتها المتهورة المناوئة لشعوب المنطقة وحكوماتها، تسعى أطراف إقليمية ودولية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، إلى التعامل مع طهران من خلال العقوبات الاقتصادية.
ولعل الهتافات التي خرجت من حناجر المحتجين في العراق ولبنان ضد إيران قد كشفت مدى الاستياء المتنامي ضد تدخلاتها.
أما الولايات المتحدة الأميركية فتسعى بالتزامن إلى فرض عقوبات متتالية على إيران لإرغامها على الجلوس إلى طاولة المفاوضات.
في الحقيقة، إيران ليست في وضع يسمح لها بالمناورة أو المراوغة، وليس أمامها سوى البدء في مفاوضات جدية، حتى لو كانت في سياق شروط وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو الـ12، وذلك قبل الانهيار الكامل لاقتصادها.
وكما نعلم فإن العقوبات أدت إلى انخفاض رصيد الصندوق السيادي الإيراني إلى مستوى أقل من 100 مليار دولار. كما انخفض تصدير نفطها إلى أقل من 300 ألف برميل يومياً. فإذا استمرت الأوضاع بهذا الشكل لن تكون إيران قادرة على دفع النفقات الحكومية حتى لسنة أخرى. وفي أحسن الأحوال، لن تستمر الحكومة على هذا المنوال على أمل نهاية رئاسة ترمب، كما صرح بعض المسؤولين، ومنهم روحاني أخيرا.
لكن ما جعل إيران أكثر جرأةً في التمادي بالعدوان على دول المنطقة هو وضع ترمب الداخلي، حيث تشير بعض تقارير مراكز الفكر والاستطلاعات في واشنطن، بخاصة تلك المراكز المقربة من اللوبي الإيراني، إلى أنه اعتباراً من أكتوبر (تشرين الأول) 2019 أصبحت المسافة بين المنافسين الديمقراطيين الثلاثة الأوائل وترمب عند 50% لصالحهم، وهذا يعني أن الشعب الأميركي منقسم إلى نصفين، وبالتالي فإن الموقف حسّاس للغاية.
لكن من ناحية أخرى، يمرّ الاقتصاد الأميركي بوضع جيد في ظل ترمب، الذي لا يزال يحظى بدعم قوي من أقطاب الجمهوريين، كما أن البطالة انخفضت إلى 3.5%، كما لم يحدث منذ عقود.
وعلى الرغم من كل هذه الإنجازات الداخلية، لا تزال سياسة ترمب الخارجية غير واضحة، حيث أعلن الرئيس الأميركي أنه لا يريد الدخول في الصراعات الدولية، بخاصة في الشرق الأوسط، وأكد أنه لا ينوي خوض أي مواجهة مع إيران، ويعتقد بأنه قادر على إبرام صفقة مع الإيرانيين لإثبات أنه أفضل صانع للصفقات لصالح الولايات المتحدة.
كيف جرّأ ترمب النظام الإيراني على مزيد من الأعمال العدائية بالمنطقة؟
من جانب آخر، تضغط القيادة الجمهورية على الرئيس ترمب باتجاه الحفاظ على الوضع القائم حتى الفوز في انتخابات 2020، ولذا فقد أصبح ترمب سجيناً لمواقفه وضحية لأفعاله في نفس الوقت.
وعندما شاهدت طهران هذه التقارير والاستطلاعات استنتجت أن ترمب لن يبدأ حرباً معها، ولذا فقد أصبح قادة النظام الإيراني أكثر جرأة، ورأوا أن الوقت مناسب لشن هجوم بطائرات صغيرة متطورة من دون طيار وصواريخ كروز ضد المنشآت النفطية السعودية بهدف بثّ حالة من زعزعة الأمن والاستقرار من جهة، والضغط على الولايات المتحدة المنشغلة داخليا من جهة أخرى، وبالتالي كسب تنازلات منها أو تخفيف العقوبات وضغوط واشنطن القصوى في الأقل.
وبينما كان الإيرانيون يهدفون إلى خلق حالة من القلق لدى السعودية والخليج والأوروبيين وإحداث اضطراب في أسواق النفط العالمية، عُرضت خيارات كثيرة على الرئيس ترمب، منها الخيار العسكري من مستشاريه العسكريين، مثل الجنرال جوزف دانفورد، رئيس هيئة الأركان المشتركة. لكن وزير الخزانة منوشين، ووزير الخارجية بومبيو، أصرا على أن الرئيس يفضّل فرض عقوبات إضافية والضغط الأقصى وخنق إيران اقتصاديا.
وبهذا أدت الأوضاع إلى حالة “لا حرب ولا سلم”، أو ما يوصف بـ”الحل الرمادي” مع النظام الإيراني. لكن لا أحد يعلم كم من الوقت يمكن أن تستمر العقوبات، وإلى أي درجة، بحيث تؤدي إلى تآكل النظام، بخاصة بعد فشل محاولات فتح باب المفاوضات من قبل الرئيس الفرنسي ماكرون وغيره من الأوروبيين خلال اجتماعات الأمم المتحدة الشهر الماضي في نيويورك، والتي قوبلت بإصرار روحاني على رفع العقوبات كشرط مسبق للتفاوض.
وفي كل الأحوال، إذا ما قبل الطرفان اقتراح “الحل الرمادي”، الذي يعني استمرار الوضع الراهن، فهذا يعني أن واشنطن ماضية بسياسة تغيير النظام الإيراني بشكل تدريجي ودون شن حرب.
لكن من ناحية أخرى، مع اقتراب الانتخابات الأميركية سيكون الرئيس ترمب منشغلا بشكل أكبر بالقضايا الداخلية، وبالتأكيد سيستغل الإيرانيون هذه الفترة لتوجيه صدمة أكبر للاقتصاد العالمي بهدف رفع أسعار النفط، وقد يشنون هجمات على أهداف أخرى محتملة في المنطقة.
إذاً، ما هي الخيارات أمام دول الخليج، بخاصة السعودية والإمارات اللتين لا تريدان الحرب مع إيران في موقف يتطابق مع الموقف الأميركي؟ هذا بالرغم من تصريحات عادل الجبير، وزير الدولة السعودي للشؤون الخارجية في نيويورك، حيث أكد أن ما قامت به إيران لن يبقى دون رد.
برأيي، الخيار الأفضل هو “الحل الرمادي”، أي تغيير النظام الإيراني من الداخل وعلى يد شعوب إيران المستاءة بشدة من 40 عاما من الاستبداد والقمع والقهر، والمستعدة للانتفاض بوجه النظام.
وإلى جانب الحراك الشعبي والاحتجاجات المتواصلة شبه اليومية والإضرابات العمالية ومظاهر رفض النظام من مختلف شرائح المجتمع الإيراني، ستلعب قضية القوميات المهمشة والمضطهدة التي تعاني حرمانا وقهرا وتمييزا وقمعا مضاعفا دورا مصيريا في شل آلة النظام القمعية إذا ما حدثت انتفاضة شاملة.
ولدى الولايات المتحدة قواعد محاذية للحدود التي تقطنها القوميات غير الفارسية، من الكرد والعرب الأهوازيين والبلوش والأتراك الآذريين، ويمكنها تقديم الدعم اللوجستي لهم في حال حدوث أية تحركات شعبية، إذا أرادت ذلك.
كما تستطيع المعارضة تدريب مجموعات في الخارج أو في دول الجوار وإرسالهم إلى الداخل لبدء الانتفاضة في المناطق القومية. وبمجرد أن يحدث عصيان مدني شامل على مستوى كافة المحافظات والأقاليم سوف تتوسع الانتفاضة لتعمّ جميع أنحاء البلاد، وحينها لن يستطيع النظام الإيراني إخمادها.
وهذه خطة تم تقديم نسخ مختلفة منها إلى رؤساء الإدارات الأميركية المختلفة خلال العقدين الماضيين من المعارضة.
وفي إحدى المرات تم تقديم الخطة إلى إدارة ريغان، لكنها كانت متورطة في استخدام نفس الأسلوب لإسقاط الاتحاد السوفييتي، وفي عهد بوش الأب قُدّمت الخطة أيضا، لكنه كان منشغلا بإخراج العراق من الكويت عام 1991. أما كلينتون فلم يكن مهتما لأنه ركّز على الإصلاحيين، وكان يأمل توسيع التجارة مع إيران.
لكن جورج بوش الابن كان مهتما بهذه الخطة، بخاصة خلال فترة ولايته الثانية، واجتمعت إدارته في مناسبات عديدة بقادة الجماعات المعارضة بما فيها تنظيمات القوميات. لكن المعارضة الإيرانية لم تكن موحدة آنذاك. وفي آخر اجتماعين في البيت الأبيض بحضور مساعد وزير الخارجية ورئيس مجلس الأمن القومي ومسؤول من البيت الأبيض، كانت هناك خلافات حادة على اختيار بديل عن النظام في طهران، ومَنْ القوى التي يمكنها قيادة الجهود لإسقاط النظام.
وبالنسبة إلى أوباما، فمن الواضح أنه كان متحيزاً تماماً لطهران تحت تأثير كبير للوبي الإيراني في واشنطن، حيث كان معظم مستشاريه يعملون على تطبيع العلاقات مع النظام الإيراني. وقد عقدت إدارته نحو 40 اجتماعاً مع جماعات اللوبي الإيراني في واشنطن، لكنها رفضت الدعوات التي قدمها قادة المعارضة.
الآن حان الوقت المناسب لتنفيذ الخطة ضمن سياسة “الحل الرمادي” التي تتبعها واشنطن، حيث يوشك النظام في طهران على الانهيار الاقتصادي. كما أن هناك المزيد من الإرادة والتضامن في صفوف قوى المعارضة، وهناك إمكانية لتوحيدها. كذلك هناك أطياف واسعة المعارضة باتت متفقة على ضرورة إقامة نظام حكم ديمقراطي فيدرالي غير مركزي من أجل تقرير المصير الداخلي داخل حدود إيران لجميع مكونات المجتمع الإيراني بمختلف تنوعاتها العرقية والثقافية والدينية.
وبما أن نظام ولاية الفقيه لم يعد عدواً للشعوب الإيرانية فحسب، بل عدواً لكل شعوب المنطقة، وأصبح خطرا يهدد الأمن والسلام والاستقرار في المنطقة والعالم، فيجب على جميع القوى الإقليمية والدولية أن تساند حراك الشعوب الإيرانية في التغيير وتخليص المنطقة من نظام إرهابي يؤمن بتصدير الثورة من خلال إشعال الحروب والفتن وتغذية الجماعات المتطرفة والسعي للحصول على الأسلحة النووية.