رغم مرور ثلاثين عاما على سقوط جدار برلين، لا تزال فرادة الحدث المدهشة ماثلة للعيان: فقد دشن التاسع من تشرين الثاني/نوفمبر 1989 مسارا لم يشهد له التاريخ مثيلا لا من قبل ولا من بعد: إنه انهيار امبراطرية بأسرها دون إطلاق رصاصة واحدة، بل دون إراقة قطرة دم واحدة! وللمؤرخين أن يتجادلوا في الأسباب البنيوية العميقة التي أفضت للانهيار، إلا أنه لا جدال في أن السبب المباشر لا يتعلق بالضغوط الغربية أو بالمظاهرات التي عمّت ألمانيا الشرقية، وإنما يتعلق بالرجل الذي تسلم الحكم في موسكو قبل ذلك بأربعة أعوام. ذلك أن ميخائيل غورباتشوف قرر، في استثناء تاريخي عجيب، عدم استخدام القوة، أي عدم تكرار ما حصل عام 1956 في بودابست وعام 1968 في براغ. بل إنه بكّر منذ عام 1986 بالتوضيح لحكام أوروبا الشرقية بأنه لن يستخدم القوة للدفاع عنهم. صحيح أنه كان في ألمانيا الشرقية عام 1989 حوالي 300 ألف من الجنود السوفييت، وصحيح أن الأنظمة لم تكن تشعر بقرب زوالها. إلا أن الحقيقة أن غورباتشوف كان قد حسم، بقرار عدم التدخل، مصيرها. ولهذا أصاب جاك أتالي عندما كتب في يومياته «فرباتيم» (حرفيّا)، التي أرخت للسنوات التي لازم فيها الرئيس ميتران، أن العالم المعاصر يدين بالفضل لغورباتشوف لأنه هو الذي تحمّل بمفرده مسؤولية فتح جميع حدود الامبراطورية السوفييتة فتحا سلميا.
كان سقوط جدار برلين لحظة تحريرية امتزج فيها عنفوان السعادة بـ«براءة المصير». لحظة عارضة بقدر ما هي ثابتة. لحظة خاطفة خالدة نقشتها في الوجدان المعاصر معزوفة باخ المهيبة التي عزفها روستروبوفيتش، يوم الحادي عشر، على الفيولونسيل أمام ما تبقى من الجدار. كانت الأسابيع التي أعقبت سقوط الجدار، وسقوط الستار الحديدي الذي ظل طيلة أربعين عاما يشطر أوروبا شطرين، أسابيع بهجة ونشوة. ولكن ثمن هذا الخروج السلمي من الشيوعية تمثل في أن التحول التاريخي المزدوج نحو الحكم الديمقراطي والاقتصاد الحر لم يمنع عددا معتبرا من أفراد النخب الشيوعية الحاكمة من البقاء في السلطة.
كان سقوط جدار برلين لحظة تحريرية امتزج فيها عنفوان السعادة بـ«براءة المصير». لحظة عارضة بقدر ما هي ثابتة. لحظة خاطفة خالدة نقشتها في الوجدان المعاصر معزوفة باخ المهيبة
ولأن المشاهد التلفزية هي أبرز ما يبقى في الأذهان، فإن معظمنا نسي أن أول ثغرة في الستار الحديدي لم تفتح يوم 9 تشرين الثاني/نوفمبر، وإنما يوم 2 أيار/مايو عندما بدأ جنود المجر في تفكيك الأسلاك الشائكة على الحدود مع النمسا. ولهذا فإن آلافا من الألمان الشرقيين أخذوا، منذ الصيف، في مغادرة بلادهم وطلب اللجوء في سفارتي ألمانيا الغربية في المجر وتشيكوسلوفاكيا. ذلك أن أحداث عام 1989 لم تكن تدشينية، بل إنها أتت في سياق استمرارية الزخم التغييري الذي بدأ مطلع الثمانينيات بفعل الأزمة الاقتصادية التي أرغمت الحكومات الشيوعية على الانفتاح. إذ برز في صلب النخب الحاكمة جيل جديد من الاقتصاديين المؤمنين بالليبرالية والمتأثرين بمدرسة شيكاغو وزعيمها ميلتون فريدمان، حيث عمل هؤلاء على وضع حد لتدخل الدولة في الاقتصاد. وقد تطور القطاع الخاص في المجر، مثلا، حتى صار يمثل ثلث الناتج المحلي، وبدأت البطالة في الظهور بعد أن تخلت الحكومة عام 1987 عن ضمان حق العمل لجميع المواطنين.
وما إن حلت أواخر الثمانينيات حتى سيطر اقتصاد السوق بديلا وحيدا عن الشيوعية التي لم تعد تعني لعموم المواطنين سوى رداءة الخدمات وندرة المواد الغذائية. وبما أن دول أوروبا الشرقية صارت آنذاك معتمدة إلى حد كبير على قروض البنك العالمي وصندوق النقد الدولي، فقد كان المجال ممهدا لكي تتخذ ثورات 1989 منحى ليبراليا.
ولكن المشهد الأبرز الآن، بعد ثلاثين عاما من سقوط الشيوعية، هو أن بلدان أوروبا الوسطى والشرقية قد أخذت تنقلب منقلبا تسلّطيا من جنس غير معهود: إنه منقلب «الديمقراطية اللاّ-ليبرالية». أما المفارقة فهي أن المجر وبولندا هما اللتان تتزعمان اليوم هذا المسار التسلطي رغم أنهما هما اللتان كانتا قد أطلقتا، في الثمانينيات، بواكير المسار الصحوي من دوار الاستبداد الهاذي الذي كان يعرف باسم الديمقراطية الشعبية.