مواجهات سرت تعيد صياغة موازين القوى في ليبيا

مواجهات سرت تعيد صياغة موازين القوى في ليبيا

342f865585954e3a814abd5a131e90be_18

نهاية المعركة ضد تنظيم الدولة في سرت ستضع حكومة الوفاق، والمؤسسات المنبثقة عن الاتفاق السياسي، على سكة إنشاء مؤسسة عسكرية وأمنية وطنية، تحارب تحت راية موحدة. وستترك المعركة أثرًا على التحالفات العسكرية في المنطقة الشرقية والوسطى، بتقوية التحالف بين القوى المسيطرة على الحقول النفطية، وتلك المنضوية تحت لواء حكومة الوفاق، كما ستؤثر سلبًا على معسكر الكرامة الذي بدأ الانقسام يَدِبُّ فيه بخروج الصراع بين أبرز شخصيتيتن فيه (خليفة حفتر، والمهدي البرغثي وزير الدفاع بحكومة الوفاق) إلى العلن؛ فهي من جهة ستُعمِّق هذا الصراع، وتدعم معسكر البرغثي بتحالفات جديدة، وتقوي صلته بالقوى العسكرية في الغرب الليبي، ومن جهة أخرى ستهزُّ مكانة حفتر السياسية، بإظهار فشله في حرب ما يصفه بالإرهاب؛ بزيادة بروز البرغثي والقوى العسكرية، وهو ما سيلزم داعميه الإقليميين (خاصة مصر) بضرورة إعادة مراجعة مواقفهم من المشهد الليبي، وربما البحث عن فَرَسٍ أفضل للرهان عليه.
مقدمة

تخوض قوات “البنيان المرصوص” التابعة لحكومة الوفاق الوطني في ليبيا معارك عنيفة ضد عناصر تنظيم الدولة الإسلامية في مدينة سرت، انطلقت في الخامس من مايو/أيار 2016، فكلَّفت قوات البنيان 230 قتيلًا ونحو ألف جريح منذ بات التنظيم محاصرًا من جميع الجهات داخل الأحياء السكنية في مساحة لا تتعدى خمسة كيلومترات مربعة.

حققت قوات البنيان المرصوص الخاضعة لحكومة الوفاق تقدمًا عسكريًّا كبيرًا في مواجهة عناصر التنظيم، فتمكَّنت بذلك من تحقيق عدد من المكاسب فلقد أثبت أنها قادرة على فرض إرادتها على القوات التي تتواجد في المناطق التي تسيطر عليها، وأنها جادة في محاربة تنظيم الدولة وقادرة على هزيمته، فكسبت شرعية داخلية؛ لأن الليبيين بالمناطق الخاضعة لها باتت ثقتهم في قدرتها على توفير الأمن تتعزَّز، وشرعية خارجية؛ لأن القوى الغربية وجدت الشريك الذي يهزم ما تعتبره الخطر الرئيسي على أمنها دون أن تحتاج إلى إرسال قوات مقاتلة على الأرض أو أن تتدخل تدخلًا عسكريًّا كبيرًا. من جانب آخر، تمكنت حكومة الوفاق بنجاحها في هزيمة تنظيم الدولة بسحب البساط من تحت أقدام حفتر الذي ظل يرفع شعار مكافحة ما يُسمِّيه الإرهاب.

هذه المكاسب تفرض تحديات كبيرة، يأتي على رأسها قدرة حكومة الوفاق، على استثمار هذا الانتصار لتوسيع حواضنها ومجال سيطرتها، وإحداث شروخ في معكسر حفتر المناهض لها، لإرغامه على القبول بها. أما على الصعيد الدولي، فستواجه مهمة توظيف هذا الانتصار لدفع عدد متزايد من القوى إلى جانبها، وتحييد أو كسب القوى التي كانت في صف حفتر المناهض لها.
البنيان المرصوص: القوات والجبهات

تتكوَّن قوات البنيان المرصوص التي تواجه تنظيم الدولة في مدينة سرت الليبية من كتائب أغلبها من مدينة مصراتة، ومعها تحالف عسكري واسع من مدن في غرب ليبيا، من بينها غريان، وزوارة، وطرابلس والزاوية؛ ومقاتلون من مدن جنوب ليبيا، مثل أوباري. والمرجح أن تعداد القوة بالآلاف؛ لأن قتلاها وجرحاها ناهزوا الألف دون أن تتأثر جبهات القتال. وتخضع أغلب هذه القوة لغرفة عمليات شكَّلها المجلس الرئاسي بداية شهر يونيو/حزيران 2016. وفي ذات الوقت تتناقل وسائل التواصل الاجتماعي صورًا لجرحى عادوا إلى ساحة المعركة بعد أن عالجوا جروحهم في مستشفيات ليبيا وخارجها.

وردت تقارير أن قوات البنيان المرصوص، تحاصر الآن حوالي ستمائة من مقاتلي تنظيم الدولة في منطقة لا تزيد عن خمسة كيلومترات مربعة، بعد أن أخرجت المعركة مقاتلي التنظيم من أهم المراكز الحيوية بالمدينة التي يحتلونها منذ منتصف عام 2015. وفي الجهة الأخرى من مدينة سرت أعلنت قوات حرس المنشآت النفطية وقوات القاطع الحدودي- اجدابيا (889 كلم شرق طرابلس) أنها سيطرت على مدينة هراوة (70 كلم شرق سرت).

وبحسب قوات البنيان المرصوص، وجهات صحفية مستقلة، فإن التنظيم يتمركز في المباني السكنية التي يستخدم قناصته أسطحها، ويتركز وجوده في مجمع واغادوغو، وهو مجمع للمؤتمرات شُيِّد في عهد القذافي، إضافة إلى عمارات الحي السكني المعروف بحي 700. وقد انحصر دفاعه في الأسبوعين الأخيرين في استخدام القناصة، والسيارات المفخخة والانتحاريين، لمنع توغُّل القوات المهاجمة دون خسائر بشرية عالية. وإذا أضيف إلى هذا الوضع الميداني أن الزوارق التابعة للقوات البحرية الليبية، وهي ضمن القوات التي تتبع المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق، تضرب طوقًا بحريًا على ساحل المدينة، وشاركت في العمليات العسكرية، إضافة إلى استلامها ميناء المدينة البحري قبل أسبوعين، يتبيَّن أن فرص خروج مقاتلي التنظيم من المدينة تنحصر في بعض المسارب المؤدية إلى الصحراء جنوبًا، وبعض المدن غرب سرت.

يمكن لهذا الوضع أن يطيل أمد المعركة، ويدفع مقاتلي التنظيم إلى مزيد من الاستماتة في الدفاع عما تحت أيديهم من الأرض، كما قد يدفعهم إلى اتخاذ بعض المواطنين دروعًا بشرية؛ ومع ذلك ستضعف ضربة سرت قوة التنظيم، وستجعله يحتاج مدة طويلة لاستعادة عافيته.
الصراع على كسب الشرعية

يشكل تنظيم الدولة تهديدًا على أمن المدن الليبية، التي أعلنت أغلب قواها المدنية والعسكرية خضوعها لسلطة حكومة الوفاق، وستكون للحرب عليه آثار لا تنحصر على الوضع الأمني؛ فقتاله في المرحلة الحالية من تاريخ الصراع في ليبيا، يعني بالدرجة الأولى خوض معركة الشرعية وطنيًا ودوليًّا وإقليميًّا، في ساحتها الرئيسة.

وقد أعلن مقربون من قائد الجيش التابع لبرلمان طبرق، خليفة حفتر، تَوَجُّهَه لخوض الحرب ضد تنظيم الدولة في سرت، بعد أن سيطر على أغلب مناطق بنغازي، وبعد أن نسبت له وسائل إعلام مقربة منه طرد مقاتلي التنظيم من مدينة درنة (1340 كلم شرق طرابلس). وقد فُسِّر الإعلان على أنه بحث عن شرعية حرب جديدة بعد أن كادت شرعية الحرب في بنغازي تستنفد أهدافها.

إن أهمية هذه المعركة لم تدع لحكومة الوفاق خيارًا غير خوضها، وساعد على ذلك شعور القيادات العسكرية في مدينة مصراتة وفي الغرب عمومًا بخطورة استمرار سيطرة التنظيم على مدينة سرت ذات الموقع الاستراتيجي، القريب من البحر والهلال النفطي، إضافة إلى قربها من مدن الغرب الليبي خاصة مدينة مصراتة. ضاعف هذا الشعور الخوفُ من تقدم قوات حفتر إلى سرت، مما يقرب خطره من مدن الغرب. وكانت القوى الغربية تضغط بشكل واضح من أجل مواجهة تنظيم الدولة، إلى الحد الذي ربط بعض المسؤولين الغربيين في تصريحاتهم بين دعم حكومة الوفاق، وبين الحرب على الإرهاب، ومحاربة الهجرة غير القانونية.

وفي حال كسبت القوات المدعومة من المجلس الرئاسي المعركة بشكل نهائي، وهو ما تشير إليه المعطيات المتوفرة لحد الآن، فسيعني ذلك تكريس شرعيتها الداخلية والخارجية، في مقابل حكومة عبد الله الثني التي ما زال رئيس البرلمان عقيلة صالح، ومن خلفه حفتر، يتمسك بها، وما زالت بعض القوى الإقليمية (مصر)، والدولية (روسيا) تتعامل معها، بشكل أو بآخر.

لم تستطع حكومة الثني رغم اصطفافها مع حفتر طرد من تُسمِّيهم إرهابيين من مدينة واحدة هي بنغازي، رغم مرور أكثر من عامين على بدء الحملة العسكرية ضدهم، ودعم دولي وإقليمي حظيت به على مدى السنتين. ولذا، فإن نجحت حكومة السراج، رغم عدم استكمال إجراءات تسلمها السلطة، في القضاء على التنظيم في أهم معاقله، فسيعد إنجازًا ضخمًا بمقاييس توازن القوة بين الجهات المتصارعة على الحكم في ليبيا، والتي تنظر إلى السلطة من زاوية القدرة على بسط النفوذ الأمني في مقابل المجموعات المسلحة.

سيُضفي هذا الإنجاز لو تحقق التحالف بين المجلس الرئاسي والقوى العسكرية في الغرب الليبي (خاصة في مصراتة وطرابلس والهلال النفطي) صبغة استراتيجية نظرًا لحاجة هذه القوات إلى مظلَّة شرعية، مدعومة دوليًّا للدخول إلى مدينة ذات حساسية اجتماعية، كونها معقل قبيلة رأس النظام السابق، التي لا تخفي بعض قياداتها استيائها من مركزية قوة مصراتة في مشهد ما بعد القذافي، وما زالت تعتبر مقاتلي المدينة مسؤولين على إسقاط النظام الذي احتضن نفوذهم. ويعني هذا النصر أيضا نجاحًا في ما فشل فيه المؤتمر الوطني العام، والحكومة المنبثقة عنه، التي اضطرت لسحب الكتيبة 166 من مدينة سرت سنة 2015 بعد أن سيطرت على المدينة برهة.

سينعكس أحد الآثار المهمة للحرب على تنظيم الدولة على جبهة العسكريين التابعين لمجلس النواب، ويعزِّز من مكانة الرجل الذي بات منافسًا عسكريًّا لحفتر في المنطقة الشرقية، وهو وزير الدفاع المسمى في حكومة الوفاق، المهدي البرغثي، الذي بات يحظى بشيء من الاعتراف في المنطقة الغربية، وأفاد كثيرًا من الفيتو الذي يضعه الثوار المحسوبون على التيار الإسلامي على خليفة حفتر. وسيتعزَّز بالتالي تحالف البرغثي مع آمر حرس المنشآت النفطية، إبراهيم جضران، وهو ما أعلن في زيارة البرغثي إلى مقر جضران، وانتقد صراحة الذين يصفون جضران بأنه قائد مليشيا للانتقاص منه؛ وهي الصفة التي يُطلقها عليه مقربون من حفتر.

ستوسع السيطرة على سرت من دائرة نفوذ حكومة الوفاق لتمتد وتتصل من اجدابيا إلى طرابلس، وسيكون بإمكانها تصدير النفط من منطقة الهلال النفطي بسهولة، مما يعزز موقعها الاقتصادي، نظرًا لعلاقتها الممتازة مع آمر حرس المنشآت النفطية بالمنطقة الوسطى إبراهيم جضران، الذي تشارك قواته في الحرب الحالية، ويتقدم إلى سرت من المحور الشرقي.
نتائج تخلُّف البرلمان عن حرب سرت

يواجه برلمان طبرق وحلفه السياسي والعسكري، صعوبات عدة جراء تخلُّف قواته عن الحرب التي يعتبرها قطاع عريض من الليبيين، وشركائهم الإقليميين والدوليين، أهم الحروب. وبدون شك فإن أقوى هذه الصعاب، تلك المتعلقة بالشرعية وتماسك الجبهة الداخلية، والمصداقية السياسية.

قبل أن تبدأ الحرب على تنظيم الدولة في سرت، ساءت علاقة حفتر والبرلمان بواحدة من أهم القوى العسكرية والاجتماعية في المنطقة الشرقية (حرس المنشآت)، ويبدو أن معركة سرت أنهت أي أمل في إعادة ترميمها، وهو ما فشل فيه آمر كتيبة الصاعقة ونيس بوخمادة، أثناء الزيارة التي قام بها إلى مقر حرس المنشآت النفطية في رأس لانوف نهاية شهر مايو/آيار 2016، رغم علاقته الوثيقة مع قائد الحرس إبراهيم جضران، وانتمائهما لقبيلة المغاربة، التي يشكل شبابها معظم قوة جضران.

إن النقطة التي تحولت عندها العلاقة بين جضران وقوات المنطقة الغربية إلى علاقة استراتيجية، وعلاقته بحفتر والبرلمان إلى قطيعة، سابقة على انطلاق الحرب الأخيرة، لكنها على علاقة وثيقة بالحرب على تنظيم الدولة؛ ففي بداية العام الحالي خاضت قوات حرس المنشآت النفطية التي يقودها جضران أولى معاركها لصد مقاتلي التنظيم عن أحد معسكراتها في منطقة بن جواد، وهي المعركة التي أقلع فيها الطيران من مصراتة لمساعدة جضران، فيما ظل طيران قوات حفتر يرقب الوضع. هذ التدهور في علاقة جضران بحفتر، عززته الحرب الأخيرة، إلى الحد الذي أعلن معه مقربون من جضران في أحد الملتقيات بطرابلس تجميد النشاط الفيدرالي.

أقام اللواء المتقاعد، قائد الجيش التابع للبرلمان، خليفة حفتر، خطابه على محاربة ما يعرف بالإرهاب، وقدَّم نفسه منذ إطلاقة عملية الكرامة منتصف مايو/آيار سنة 2014 على أنه الرجل الأقوى القادر على محاربة التنظيمات التي توصف بالإرهابية في ليبيا، وهو ما يعني أن تخلُّفه عن حرب تنظيم الدولة في سرت سيُضعف مصداقية هذا الخطاب، ويُضعف أهم دعامة يقوم عليها وجود البرلمان والحكومة الموالية في الشرق الليبي. وتعتبر أقوى ورقة في يد البرلمان هي وقوف خليفة حفتر خلفه، وما يضمنه من دعم إقليمي ودولي، للرجل الذي استثمرت فيه دول إقليمية وغربية، باعتباره الأقوى في ليبيا، وهو ما يعني أن أي ضعف لموقف حفتر، سواء في مواجهة خصومه العسكريين أو الأيديولوجيين، أو في مواجهة منافسيه داخل معسكر الكرامة، سيوهن من قوة البرلمان، خاصة في ظل تأييد أكثر من نصف أعضائه لحكومة الوفاق.

ولم يخف البرلمان انزعاجه من قرار مجلس الأمن الأخير بشأن القبول بمشاركة الأوروبيين في رقابة حظر السلاح المفروض على ليبيا من عام 2011، حيث اعتبره فتحي المريمي، المستشار الإعلامي لرئيس مجلس النواب الليبي، من القرارات الدولية الجائرة، وأنه سيؤدي إلى تمدد الجماعات الإرهابية في البلاد. وتخفي تصريحات المريمي قلقًا من أن يطال هذا الحظر بعض الأسلحة التي ترد إلى حفتر، أو أن يتجه الأمر إلى ما هو أوسع من ذلك بدعم حكومة الوفاق بكميات من الأسلحة والذخائر، وهو ما يعني اختلال الميزان العسكري لصالح القوى العسكرية المتحالفة مع حكومة الوفاق، أو التي تدعمها في الغرب والوسط. ويعتقد عارفون بالشأن العسكري الليبي أن القوة التي تخضع الآن لسيطرة حكومة الوفاق، أو القريبة منها، تناهز خمسة أضعاف ما لدى مجلس النواب من قوة، من حيث الأعداد والتسليح. ولو تم تسليح حكومة الوفاق فسيقع السلاح بيد خصوم حفتر.

من ناحية البعد الخارجي، تعتبر مصر أبرز القوى التي ستتعرض لخسارة مباشرة جراء إضعاف حفتر؛ فعلاوة على خسارة ما استثمرته طيلة السنوات الماضية في دعمه وحلفه العسكري والسياسي، فإنها ستواجه تقلصًا في صادراتها العسكرية من العتاد والخبرات، بفعل دخول دول لم تعد تجمعها بالقاهرة علاقة حسنة، مثل إيطاليا، على خط رقابة توريد الأسلحة إلى ليبيا، إضافة إلى تقلص مساحة المعارك التي تعطي شرعية للاستنجاد بالحليف المصري. وهذا ما قد يدفع القاهرة لإعادة صياغة تحالفاتها، لتتواصل مع من تعتبرهم مناهضي مشروعها في ليبيا، وخصومًا تاريخيين لممثليه.
المواقف الدولية

قد تكون نهاية معركة سرت أقوى من بدايتها في ترسيخ دعم القوى الدولية لحكومة الوفاق؛ لتزيد من استمرار تمسك الأمم المتحدة بالحكومة التي هي نتاج الاتفاق السياسي الذي رعته. كما لا يُتَوَقَّع أن يتغيَّر الموقف الأميركي الداعم للحكومة وللعملية (التقارير الإعلامية تتحدث عن دعم لوجيستي أميركي، خصوصًا لطيران البنيان المرصوص). ومن شبه المؤكد وجود خبراء عسكريين أميركيين في قاعدة الكلية الجوية بمصراتة، التي ينطلق منها طيران عملية البنيان المرصوص.

في مقابل هذا الموقف يوجد الموقف الروسي الصريح إلى جانب قوات حفتر، لكنه ليس بالضرورة في مقابلة حكومة الوفاق؛ فروسيا تدعم بشكل واضح معسكر طبرق، سياسيًّا وعسكريًّا، لكنها لم تعلن موقفا عدائيًا، أو حتى متحفظًا تجاه حكومة السراج.

وهنالك دور فرنسي مزدوج؛ حيث تحدث تقرير صحيفة لوموند الفرنسية، في الرابع والعشرين من شهر فبراير/ شباط 2016 عن معلومات بوجود عناصر من قوات النخبة الفرنسية تدعم قوات حفتر في مدينة بنغازي، وهي أول معلومات دقيقة بشأن الوجود العسكري الفرنسي في ليبيا. وتعتبر فرنسا أنها في حرب ضد تنظيم الدولة منذ العمليات التي تبنَّاها في مدن فرنسية من بينها باريس خلال العامين 2015 و 2016.

وأظهرت تقارير إعلامية اهتمامًا فرنسيًّا شديدًا خلال الأعوام الأخيرة بإقليم فزان (الجنوب الليبي)، الذي كان يخضع للاحتلال الفرنسي إبان حقبة الاستعمار، والذي يقع على تخوم الصحراء؛ حيث تنشط الاستخبارات العسكرية الفرنسية لحماية منابع الطاقة. وهو نشاط لا يستبعد أن يحدث بتنسيق مع حفتر، الذي تشير معلومات إلى أنه استصلح بعض المطارات العسكرية في الصحراء، من بينها مهبط عسكري في قاعدة الويغ، قرب الحدود الليبية-التشادية.

سياسيًّا، تبدي فرنسا الرسمية حماسًا شديدًا لدعم حكومة الوفاق، وكانت تصريحات وزير الخارجية الفرنسي جان مارك إيرو واضحة في المطالبة بتفعيل قانون العقوبات الأوروبي ضد معرقلي الاتفاق السياسي الليبي، وهو ما تم فعلًا قبل أشهر في بروكسل. وشملت العقوبات الأوروبية رئيس مجلس النوب عقيلة صالح، وهو أبرز حلفاء حفتر السياسيين.

ميل الموقف الفرنسي لصالح المجلس وحكومة الوفاق رهين بإثباتها القدرة على محاربة تنظيم الدولة، وبسط النفوذ الأمني على كامل التراب الليبي، وضمان بعض الامتيازات للشركات الفرنسية خاصة في الجنوب؛ حيث لا يستبعد أن يكون هنالك مخزون لليورانيوم. وربما تكون فرنسا غير معنية بالشرق الليبي إلا بقدر ما يوفر لها من الحضور في الجنوب، وفي ضمان الامتيازات لشركاتها.

من هنا، فإن الموقف الفرنسي المزدوج ليس موقفا مبدئيًا مع قوات الكرامة وخليفة حفتر بقدر ما هو محاولة لتأمين مستقبل المصالح الفرنسية في ليبيا. وفي كل الأحوال لا يُتَوَقَّع أن تقف فرنسا في وجه إيطاليا التي تبدي حماسًا كبيرًا لحكومة الوفاق، وحربها في سرت ضد تنظيم الدولة، إلى حد إرسال طائراتها لنقل الجرحى من مصراتة، ووصف قوات حفتر بالمليشيات.
ما بعد الانتصار العسكري

ما دامت المعركة الحالية متواصلة فإن السيناريوهات ستبقى مفتوحة لعدة أسباب، أهمها رخاوة التحالفات السياسية والعسكرية التي تتأثر آنيًا بأي ميل في ميزان القوة؛ وكذلك بطبيعة المشهد المحلي والإقليمي والدولي. وما دامت الكفة مائلة لصالح انتصار القوات المدعومة من حكومة الوفاق في معركتها ضد تنظيم الدولة في سرت، وهو أمر ترجح الدلائل استمراره، فستتحكم بأهم مفاتيح اللعبة الدولية والمحلية في المنطقة الغربية والوسطى، وسيكون عليها محاولة ترسيخ هذا الوضع بتحسين حياة الناس، وتصدير النفط وضخ السيولة في المصارف، إضافة إلى ضبط الأمن في المدن الكبرى.

وقد أعاد هجوم مجموعات من الثوار القريبين من قوات حرس المنشآت النفطية على مواقع تابعة للقوات العسكرية المنضوية تحت عملية الكرامة والاستحواذ على مقرات لها في تخوم مدينة اجدابيا خلط الأوراق في منطقة الهلال النفطي المتاخمة لمدينة سرت، وأربك التحالفات القائمة إلى درجة خروج خلاف المجلس الرئاسي بشأنها إلى العلن. وما يهم هنا هو تأثيرها على التحالف ثلاثي الأطراف (جضران، قوى الغرب، البرغثي) الذي بدأ يتشكَّل في المنطقة الوسطى.

والواضح حتى الساعة أن وزير الدفاع في حكومة الوفاق، المهدي البرغثي، استطاع قيادة مصالحة بين إبراهيم جضران، ومن خلفه حرس المنشآت النفطية، والعسكريين المتحالفين معه، من جهة، وبين القوات الموجودة في اجدابيا، من جهة أخرى. لكن إعلان قوات حرس المنشآت أنها ستقاتل مع “قوات الجيش” والشباب المتطوعين، والمقصود هنا قوات الكرامة، ومجموعات الشباب التي تؤيدها أربك المشهد. فهل كان المهدي البرغثي يرمي إلى استمالة العسكريين الموجودين في اجدايبا لصالحه، بعد أن خرج الخلاف بينه وبين حفتر إلى العلن؟ أم أن خارطة التحالفات تنتظر نتائج الحرب على التنظيم في سرت؟

لا شيء يمكن الجزم به حتى الآن، إلا أن معطيات الأسابيع الماضية أشارت إلى أن الخلاف بين البرغثي وحفتر وصل مداه، وقُرئت تصريحات آمر جهاز مكافحة الإرهاب، فرج قعيم، بحضور المهدي البرغثي، التي جاءت ردًّا على قرار حل الجهاز من طرف حكومة الثني، على أنها اتهامات مباشرة لحفتر بالضلوع في عمليات الاغتيال والتعذيب. وفي ذات الاجتماع القبلي، تحدث البرغثي حديثًا سياسيًّا لم يخف فيه اختلافه مع رؤية حفتر، وبدت نبرته تصالحية، مع من يوصفون بخصوم الكرامة.

إذا استمر رجحان سيناريو الخلاف بين حفتر والبرغثي، كما هو واضح الآن، فإن معركة سرت ستُعزِّز موقع البرغثي، وتُقَدِّمُه وزير دفاع لكل ليبيا، وهو ما يُضعف موقف حفتر السياسي في المنطقة الشرقية، حتى ولو تمت السيطرة على بنغازي، كما يُرَوِّج لذلك الإعلام القريب من حفتر؛ لأن البرغثي سيكون شريكًا في “النصر”.

وإذا استمر استعصاء الحسم في بنغازي، ونجح البرغثي في نقل خطابه التصالحي إلى اتصال مباشر مع مجلس شورى ثوار بنغازي، وثوار اجدابيا، فإن حضور حفتر سيتقلص، ويزداد موقفه ارتباكًا، وهو ما سينعكس لصالح قوات البنيان المرصوص في سرت؛ لأنه سيسهل إدخال قوات من غير مصراتة، مثل عناصر حرس المنشآت، وعسكريين من اجدابيا، وربما قوة من بنغازي، وسيبعد سيناريو انتفاضة داخلية في سرت ضد مقاتلي قوات البنيان المرصوص، ربما كان مقربون من حفتر يراهنون عليها، في حال بدأت الأمور تستتب في سرت.

يبقى السيناريو الأكثر بعدًا بحسب الوقائع الراهنة، وهو انضمام حفتر إلى الحرب في سرت، تحت أي غطاء من الأغطية. ولكن هذا الاحتمال مستبعد لعدد من الأسباب، لعل أهمها اعتراض الغالبية الساحقة من المقاتلين في الجبهة عليه، واتهام إبراهيم جضران له بمحاولة اغتياله، وموقفه الرافض لتولي المهدي البرغثي وزارة الدفاع.

ولعل السيناريو الأقرب إلى الاحتمال، هو استمرار الوضع الحالي؛ بحيث تنتصر عملية البنيان المرصوص في سرت انتصارًا واضحًا، ويستمر الخلاف بين البرغثي وحفتر، وتظل جبهة بنغازي تراوح مكانها، فيما تتجه جبهة اجدابيا إلى هدوء يريده الثوار للتفرغ لقتال قوات الكرامة في بنغازي، ويريده إبراهيم جضران وحلفاؤه العسكريون، للتفرغ لحماية الحقول، والمشاركة في “نصر سرت” وتعميق التحالف مع القوى الثورية في الغرب. ولن يمانع البرغثي، ولا المجلس الرئاسي، هذا التوجه، نظرًا لحاجتهم إلى بقاء التفاهم قائمًا بين جضران وقوى المنطقة الغربية، ولبقاء الحد الأدنى من انسجام مكونات الحكومة والمجلس الرئاسي، وأخيرًا لرواج منطق الوفاق وإخماد الحروب.

مركز الجزيرة للدراسات