الحرب غير المنتهية على الإرهاب: لماذا تواصل الولايات المتحدة خوض المعركة الخطأ؟

الحرب غير المنتهية على الإرهاب: لماذا تواصل الولايات المتحدة خوض المعركة الخطأ؟

في وقت سابق من هذا الشهر، أعلنت الولايات المتحدة أنها شرعت في إطلاق عمليات لتحرير المعاقل الأخيرة لمجموعة “داعش” في سورية، فيما بدا إشارة إلى أن “المهمة أنجزت” في القتال ضد الإرهاب العالمي. فبعد أن تمكنت أخيراً من إنهاء العمليات القتالية الرئيسية في العراق في أواخر نسيان (أبريل)، قامت واشنطن بنقل التركيز من عملياتها الهجومية هناك إلى قتالها ضد آخر معاقل المجموعة الإرهابية في سورية وفي مناطق “خلافتها الجغرافية” التي تضم أجزاء من أفغانستان، ونيجيريا، واليمن. وكما قال الرئيس الأميركي دونالد ترامب مؤخراً، “سوف نتمكن من العودة إلى الوطن في وقت قريب نسبياً. لقد أنهينا -على الأقل- كل عملنا تقريباً مع “داعش” في سورية، و”داعش” في العراق، وأنجزنا عملاً لم يتمكن أي أحد آخر من إنجازه”.
ربما يبدو الأمر وكأن انتصاراً عسكرياً نهائياً على “الدولة الإسلامية” أصبح وشيكاً، لكن الأمر ليس كذلك. ويبدو أن ما لا يتعلمه صانعو السياسة الأميركيون أبداً هو أنه عندما يتعلق الأمر بالإرهاب العالمي، فإن المهمة لم تُنجز بعد. ويستطيع “داعش” أو أي خليفة له أن يعود ذات يوم إلى العراق وسورية لاستعادة خلافته الفيزيائية. وفي حين كانت الولايات المتحدة تركز في قتالها على “داعش”، استفادت المجموعات الأخرى من انصراف الانتباه. ولنأخذ، على سبيل المثال، تنظيم القاعدة والفصائل ذات الفكر المشابه مثل “أحرار الشام”، و”جيش الإسلام”، من بين آخرين، التي عززت حضورها في شمال غرب سورية منذ العام 2011. ويسعى تنظيم القاعدة إلى إعادة اختراق صفوف الثوار العراقيين السنة من قاعدته في سورية. وقد حذر مجتمع الاستخبارات الأميركي مسبقا من استمرار التمرد السني في العراق، وهو ما سيسمح بصعود مجموعة متطرفة أخرى في ذلك البلد. وظهرت مجموعة تدعو نفسها “الأعلام البيضاء” (في تناقض ملحوظ مع راية “داعش” السوداء المعروفة) في محافظتي كركوك وديالى العراقيتين. ومن الممكن أن يكون ما يدعى الانتصار ضد “داعش” أقصر عمرا حتى من ذلك الذي تحقق ضد سلفه، تنظيم القاعدة في العراق.
تفشل الولايات المتحدة في كسب الحرب على الإرهاب لأن تنظيمي القاعدة و”داعش” لا يمثلان سوى جزء فقط من العدو الحقيقي: وهو حركة عالمية، توحدها أيديولوجية –السلفية الجهادية- التي توجد خارج القاعدة أو “داعش”. وتبرر عقائد هذا اللاهوت العسكري العنف وتطالب باستخدامه لتحقيق رؤية ضيقة للإسلام. وتتزاوج هذه المعتقدات مع التيار السلفي في الإسلام السني –الذي يسعى إلى إعادة الممارسة الدينية إلى إسلام المسلمين الأوائل- مع اعتقاد بأن خوض الصراع المسلح والعنيف باسم الإسلام هو واجب على جميع المسلمين.
السلفية الجهادية أكثر من مجرد تبرير هذه المجموعات لاستخدام العنف. وتجمع هذه الأيديولوجية شبكة كونية ومتقاطعة من المجموعات والمنظمات والأفراد –الذين لا تميزهم الولايات المتحدة كمرتبطين بالإرهاب- وتوفر عقيدة توحد الجهود عبر المناطق المختلفة من دون الحاجة إلى تنسيق. وتسمح هذه المبادئ الإرشادية للحركة بأن تكون منظِّمة لذاتها، وهو ما يعني أن الكسب ضد المجموعات المتطرفة وحدها هو معركة خاسرة.
على الرغم من أن السلفية الجهادية أجبرت على الذهاب إلى هوامش المجتمع منذ الثمانينيات، عندما انتهى الجهاد ضد السوفيات في أفغانستان، فإنها كسبت بحلول العام 2014 وصولاً عالمياً ربما كان أسامة بن لادن يتخيله فقط. وبحلول العام 2010، حولت الولايات المتحدة والقوات العراقية تنظيم القاعدة عملياً إلى تهديد أمني تمكن إدارته، لكن عدم عنايتهما بمعالجة الظروف التي سمحت للمجموعة بالعودة، أتاحت للبقايا الممزقة لتنظيم القاعدة في العراق إمكانية إعادة تنظيم نفسها والسيطرة على الفلوجة في كانون الثاني (يناير) 2014. ولم تصعد تنظيمات القاعدة، أو “داعش” والمجموعات الأخرى لأن أيديولوجيتها راقت فجأة للجماهير. لقد توسعت وقويت لأن الفوضى التي اندلعت في أعقاب الربيع العربي دفعت السكان السنة المحليين إلى مقايضة دعمهم للجماعات السلفية الجهادية بالأمن الذي توفره هذه الجماعات ضد تهديد أعظم –سواء كان ذلك التهديد ارتفاعاً عاماً في الجريمة وعدم الاستقرار في ليبيا، أو القوات الغازية في اليمن، أو مزيج من الاثنين في مالي، أو –فيما هو أكثر فظاعة- نظام بشار الأسد في سورية. كما عرضت هذه المجموعات أيضا السلع والخدمات التي سدت الحاجات المجتمعية العملية، وأعقبت ذلك بتعريض السكان المحليين للأيديولوجية السلفية الجهادية -في كثير من الأحيان عن طريق إجبارهم على الامتثال للممارسات الدينية الصارمة. وفي حقيقة الأمر، فإن الظروف التي تلف الآن الكثير من أفريقيا المسلمة، والشرق الأوسط وجنوب أفريقيا، منحت الحركة السلفية الجهادية الحافز الذي تحتاجه للحصول على موطئ قدم لها في هذه المناطق.
من أجل عكس هذه الوجهة، يجب على الولايات المتحدة إعادة توجيه استراتيجيتها لمكافحة الإرهاب نحو إزالة الظروف التي تمكِّن نمو الحركة السلفية الجهادية. ويشمل ذلك عدة تكتيكات، والتي سيكسر البعض منها العُرف السائد المريح. وكبداية، يجب على واشنطن تحويل تركيزها من إلحاق الهزيمة العسكرية بجماعات محددة، والسعي إلى مكافحة الأيديولوجية نفسها بالمساعدة في جعل المجتمعات السنية أكثر أمنا. وكما برهنت التجارب في أفغانستان والعراق واليمن، فإن الهزائم العسكرية للجماعات السلفية الجهادية تكون مؤقتة فقط. وقد حددت كل من إدارتي بوش وأوباما –محقتين- الأيديولوجية كمصدر لقوة الجماعات الإرهابية. وذهبت إدارة أوباما خطوة أبعد من جهود إدارة بوش نحو كسب “حرب الأفكار”، وجعلت من مكافحة التطرف العنيف، التي شملت نزع المصداقية عن المعتقدات السلفية الجهادية وتحسين الظروف الاجتماعية-الاقتصادية للسنة في المجتمعات المعرضة للخطر، دعامة ساسية لاستراتجيتها لمكافحة الإرهاب. لكن كلا الزعيمين أخطأ في افتراض أن مهاجمة الأيديولوجية سوف تضعف الدعم الذي تتلقاه المجموعات. كانت الظروف على الأرض -وليس الأيديولوجيا- هي التي تحفز ذلك الدعم.
ثمة عنصر آخر مهم هو أن تلاحظ الولايات المتحدة المنافسة الجارية بين المتطرفين لكسب دعم المجتمعات السنية، وأن عليها تقديم بديل عن الحركات السلفية الجهادية. وسوف يعمل تزويد المجتمعات السنية المحلية بالوسائل للدفاع عن نفسها من التهديدات الخارجية وعرض المساعدة لإضفاء الاستقرار على تلك المجتمعات، على التقليل من احتمال تحولها إلى الجماعات السلفية الجهادية للحصول على المساعدة. ولدى الجماعات المتطرفة أتباع في كل البؤر الجهادية، وهو ما يمكنها من الاستجابة بسرعة للتطورات والاستفادة من الفرص حال توفرها. وليس من المعقول –ولا المستحسن في كثير من الحالات- وضع الأميركيين على الأرض في كل هذه الأماكن المحلية، لكن على واشنطن استثمار وتمكين شركاء قادرين، والذين سيعملون معها على مستوى المجتمعات المحلية. وربما لا يشمل هؤلاء الشركاء الدولة نفسها، خاصة عندما تكون الدولة هي مصدر مظالم المجتمع، مثلما يحدث في سورية. وللتعرف على الشركاء المحتملين، يجب أن ينخرط الدبلوماسيون الأميركيون في لقاءات مع القادة الرئيسيين خارج جدران السفارات، حيث سيساعد ذلك في تكوين فهم أفضل للديناميات المحلية وتعزيز العلاقات مع الفاعلين من غير الدول ووسطاء القوة المحليين. وبطبيعة الحال، يجب أن تعمل الولايات المتحدة على تقوية الفاعلين البدلاء من غير الدول الذين يدعمون أيضاً فكرة قيام دولة مركزية موحدة فقط.
أخيراً، على الولايات المتحدة أن تمارس الضغط من أجل معالجة المظالم السياسية والاقتصادية التي تعاني منها المحلية، وخاصة تلك التي تسببت بها الدولة. وفي العراق وسورية، على سبيل المثال، على الولايات المتحدة أن تتحول من مطاردة أعضاء “داعش” إلى التركيز على المظالم التي يعاني منها السُّنة والمساعدة في تحسين الحكم. وتنبع مشاعر الظلم بين العراقيين السنة من تهميشهم في بغداد، وهو وضع يديمه استخدام إيران للمجموعات الشيعية الوكيلة لتعزيز نفوذها في داخل الحكومة العراقية. وهو اتجاه سيتأثر بالانتخابات العراقية الأخيرة. ويجب بذل الجهود لإعادة بناء المجتمعات السُّنية المدمرة، وخاصة في الموصل –والأكثر أهمية، التوقف عن وصف جميع السُّنة بأنهم متآمرون مع “داعش”. وبالمثل، تجاهلت السياسة الأميركية فعلياً المظالم السنية ضد النظام السوري. وبدلاً من ذلك، أصبح الأسد شريكاً بحكم الأمر الواقع في الحرب ضد “داعش”. وتحت ستار مكافحة الإرهاب، تمكن من استعادة السيطرة على أجزاء من الريف السوري بينما توسع حلفاؤه الأكراد في داخل مناطق سُنية تاريخياً.(1) وما يزال على الولايات المتحدة أن تعثر على شريك سني في سورية. وحتى تفعل، يجب أن تكون الولايات المتحدة مستعدة للدفاع عن المجتمعات السنية ضد الهجمات الوحشية لنظام الأسد –ليس فقط ضد استخدام الأسلحة الكيميائية، وإنما أيضاً ضد البراميل المتفجرة واستخدام التجويع كسلاح من أسلحة الحرب.
ليست الدعوة إلى معالجة المظالم المحلية وإعادة بناء الحكم شيئاً جديداً. لكن الصعوبة تكمن في إيجاد طريقة لفعل ذلك على نطاق واسع من دون نشر عسكري كبير. ويتطلب توسيع النطاق العمل من خلال شركاء إضافيين، من الهيئات الإقليمية والدول على حد سواء. وسوف تكون التحالفات والشراكات الثنائية مهمة لإكمال المهام الرئيسية على المستوى الدولي. ويجب أن يساعد الجيش الأميركي في تمكين وتهيئة ظروف معقولة على الأرض، والتي يمكن أن يعمل فيها كل من الدولة والشركاء من غير الدول. ويجب أن يكون الأمن شرطاً مسبقاً لتنفيذ أو إيصال برامج المساعدات الإنسانية والتنموية.
سوف يتطلب تبني مثل هذه الاستراتيجيات بشكل حتمي قبولاً أكبر بالأخطار. خطر على الأفراد. خطر من احتمال سوء الشركاء. وخطر الفشل. وقد فقدت الولايات المتحدة قدرتها على فهم وتشكيل البيئات بالنظر إلى انسحاب أفرادها. وقامت بملء الفراغ الذي خلفوه وراءهم الآن الجماعات السلفية الجهادية ولاعبون آخرون، بمن فيهم إيران وروسيا، اللتان تبدوان أكثر استعداداً لتعريض أفرادهما للخطر. كما أن نأي الولايات المتحدة بنفسها عن الشركاء غير المثاليين، بمن فيهم اللاعبون من غير الدول، عمل أيضاً على تمكين خصوم الولايات المتحدة من التدخل بدلاً منها. وعمل شعور بالخوف من الخطأ ومن مفاقمة الوضع على شل الولايات المتحدة حيث تكون ثمة حاجة إلى القيام بعمل لتشكيل الصراعات، مما سمح لآخرين، بمن فيهم الشركاء غير الكاملين، بالعمل بدلاً منها. صحيح أنه ليس كل شركاء سيكونون كاملين –إنهم ليسوا كاملين الآن وسوف تفترق مصالحهم عند نقطة ما- لكن الولايات المتحدة تستطيع دائما إنهاء الشراكات السيئة. ويجب أخذ الإخفاقات كدروس أكثر من النظر إليها خسائر، حتى تستطيع الولايات المتحدة –مثلما يفعل العدو- أن تتكيف وتتحسن.
لن يتم كسب الحرب ضد الإرهاب عن طريق الجيش الأميركي أو غيره من القوات العسكرية الشريكة وحدها. تحتاج الأعمال العسكرية إلى دعم جهد أكبر لإعادة الأمن إلى المجتمعات السنية، وبذلك فتح مجال للتنافس مع الحركة السلفية الجهادية. ويحتاج الدبلوماسيون الأميركيون إلى تطوير علاقات مع أصحاب الحصص الرئيسيين من أجل فهم مواقفهم والتفاوض على حلول للنزاعات. وتستطيع المساعدات الخارجية أن تلعب دورا حاسما في مكافحة الحركة السلفية الجهادية عندما تُدار بذكاء لتعزيز حكم محلي شرعي، أو باستخدامها كوسيلة ضغط لتشكيل سلوك النظام.
من الواضح أن استراتيجية واشنطن الراهنة القائمة على استهداف جماعات إرهابية محددة لم تسفر عن أي نتائج نهائية مرغوبة. وعلى الرغم من عدم وجود وصفة سهلة لمكافحة الحركة السلفية الجهادية عالمياً، فإن من المهم تذكر هذه المبادئ الهادية: من المستحيل إلحاق الهزيمة بحركة أيديولوجية بالسبل العسكرية، وإحدى الطرق المؤكدة لخسارة الحرب على الإرهاب هي التركيز على هزيمة جانب صغير واحد فقط من حركة متعددة الأوجه، بدلا من التركيز على كافة الأجزاء المتحركة. وإذا لم تقبل الولايات المتحدة بهذه الحقيقة، فسوف تجد نفسها متورطة في حرب غير منتهية على الإرهاب، في انتظار إعلان حقيقي عن أن “المهمة أنجزت”، والذي ربما لن يصل أبداً.

كاترين زيمرمان

الغد