من المبكر إطلاق تكهنات من هذا القبيل، ما دامت هناك سيناريوهات متعددة، ولو نظرياً، أمام أطراف التوتر الشديد الذي أعقب اغتيال أيقونة النظام الإيراني قاسم سليماني وصحبه في بغداد قبل أيام. لكن إطلاق صواريخ أرض ـ أرض إيرانية على قاعدة عين الأسد الأمريكية في العراق، والتصريحات المتطايرة على وسائل إعلام محور الممانعة، تعطي إشارات كافية عن مأزق إيراني كبير لا يمكن تصور الخروج منه بسهولة.
أول ما يلفت الانتباه، بهذا الصدد، هو الفارق بين «الأخبار» التي يبثها التلفزيون الإيراني عن الحدث، والتصريح «المسؤول» لوزير الخارجية جواد ظريف. ونفهم أنهما يتوجهان لمتلقين مختلفين لهما تطلبات مختلفة. ففي حين هدد التلفزيون الحكومي بمزيد من الضربات «لمئة من الأهداف المرصودة»، في حال ردت الولايات المتحدة على ضربة عين الأسد، غرّد ظريف بوضوح شديد قائلاً إن «الرد الإيراني على العدوان الأمريكي قد تم وانتهى» معتبراً هذا الرد مشرعاً من وجهة نظر القانون الدولي بوصفه دفاعاً عن النفس.
ردُ حرصت فيه إيران على عدم إصابة جندي أمريكي واحد، ويحرص وزير خارجيتها على إعلان دقة بلاده في الالتزام بالأعراف الدولية! لا يتمالك المرء نفسه عن التعبير عن شكه فيما إذا لم تكن إيران قد أبلغت الأمريكيين بصورة مسبقة بهدف الضربة وحجمها، طالبةً منها تقبل الأمر إنقاذاً لماء وجه القيادة الإيرانية أمام جمهور الممانعة من طهران وصولاً إلى بيروت. ولنكمل هذا الافتراض إلى نهاياته لا بد من التساؤل عن الثمن الذي سيطالب به ترامب مقابل تمرير هذا «الميزانسين» الرديء. فلا شيء مجانياً في متجر ترامب كما نعلم، ولا شيء مستحيلا أيضاً. ولكن في جميع الأحوال نرى إيران، في هذا السيناريو المتخيل، ذليلة أمام «سيد الاستكبار العالمي» إلى درجة غير مسبوقة في كل تاريخها.
على فرض أن ذلك هو ما حدث فيما وراء الحركة الدبلوماسية الأوروبية والخليجية لـ«إنقاذ الموقف» بأقل الأضرار الممكنة، فهل تنطلي هذه الكذبة المكشوفة في الرد الإيراني «المزلزل» المزعوم بضرب قاعدة عين الأسد، على «جمهور الممانعة» ومعلقيها التلفزيونيين؟
كل العنجهيات الإعلامية السابقة سقطت في فراغ بلا قرار. ليس فقط ما قيل في اليومين التاليين لاغتيال قاسم سليماني، بل في السنوات السابقة عليه أيضاً. سيستمر فرسان التلفزيونات في لغوهم الفارغ الذي لا يجيدون غيره ولا بديل لهم عنه
لعلها لن تنطلي على أحد، لكن الجمهور المذكور لديه طلب مرتفع على الكذبة، وسيشتريها مهما بدا الأمر منافياً للحس السليم قبل المنطق السليم. الأرجح، إذن، هو تظاهر هذا الجمهور بتصديق الكذبة إنقاذاً للوقوع في فراغ رهيب.
نعم، هو الفراغ الرهيب! كل العنجهيات الإعلامية السابقة سقطت في فراغ بلا قرار. ليس فقط ما قيل في اليومين التاليين لاغتيال قاسم سليماني، بل في السنوات السابقة عليه أيضاً. سيستمر فرسان التلفزيونات في لغوهم الفارغ الذي لا يجيدون غيره ولا بديل لهم عنه. وسيستمر الجمهور، إلى حين، في التظاهر بتصديق الأكاذيب. ولكن ماذا بعد ذلك؟ لا شيء.
هل انتهت «حقبة السليماني» في السياسة الإيرانية، إذن، وهي سياسة التوسع الامبراطوري لإيران التي كانت ثمرة ضعف الجوار العربي المستهدف والتواطؤ الأمريكي المديد منذ العام 2001؟ هل ماتت تلك السياسة بموت مهندسها «الغامض» الذي سافر، رحلته الأخيرة، في طائرة مدنية من مطار دمشق إلى مطار بغداد بوضوح ما بعده وضوح؟
كان وزير الخارجية واضحاً بأكثر مما يجب حين أضاف في تغريدته المشار إليها قائلاً: «نحن لا نريد الحرب»! لا عزاء لجمهور الممانعة أمام ما وصلت إليه إيران من هوان يشبه الاستسلام التام، لينكشف له أن الصراعات في العالم الواقعي لا تشبه نظيراتها الإعلاميات والافتراضيات. ليس كل رئيس أمريكي هو أوباما. ولا يشبه الرد على الاصطياد الأمريكي السهل لقاسم سليماني تهديدات حسن نصر الله على شاشة قناة المنار.
لو سئل ترامب، في جلسة صدق وصفاء، عما إذا كان يتوقع أن يؤدي قراره باغتيال سليماني إلى كل هذه التداعيات على إيران، من المرجح أن يضحك من السؤال ويعلن أنه لم يفكر بذلك قط. فهذا ما يناسب مزاجه الذي بتنا نعرفه. أما رسمياً، فالمرجح أنه كان سيضيف كذبة جديدة إلى سجل أكاذيبه الحافل فيقول مثلاً إنه خطط بدقة لإسقاط القيادة الإيرانية في الفراغ.
بعيداً عن منطق الافتراضات التي لا يمكن التحقق منها، سنرى آثار اغتيال سليماني وما تلا ذلك، تباعاً فيما يشبه كرة الثلج في رحلة انحدار نظام ولي الفقيه. ما يتمناه المرء هو أن يكون السقوط سلساً وبلا آلام كبيرة مرافقة في إيران و«ولاياتها» العربية، بخلاف ما حدث للطائرة الأوكرانية التي سقطت ومات جميع ركابها، في لحظة انطلاقها من مطار طهران.
الرحمة لأرواحهم جميعاً.
القدس العربي