على امتداد عقود، دأب قادة الحرس الثوري والجيش الإيراني على التهديد بـ”الردود المزلزلة” التي سيتلقاها كل من يستخفون بأرواحهم من الحمقى، الذين قد يفكّرون ولو مجرّد تفكير بالانخراط في نزاع مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، أو قد يغامرون بتحدّيها. وكان ساسة إيران يعزّزون هذا الخط بما يدلون به من تصريحات، ويعتمدونه من مواقف متشدّدة في أي قضيةٍ تتصل بشأن من الشؤون التي يمنحون بلادهم الحق في التعامل معها، انطلاقا من مصلحة قومية من غير الجائز التهاون فيها، بما أنها تستمد قيمتها من قدسيةٍ مذهبيةٍ تلزم من يتولون تحقيقها باجتهادات مرشدٍ دينيٍّ معمم، تقول أيديولوجية الجمهورية الرسمية إنه معصوم، لأنه ينوب في ما يصدر عنه من أقوال وأفعال عن إمامٍ معصوم، هو على الرغم من غيابه منذ قرون “صاحب الزمان وإمامه”.
بمقتل الإمام العسكري للجمهورية الإسلامية، قاسم سليماني، انطلقت كالعادة موجات ردودٍ توعّدت واشنطن بضرباتٍ مزلزلة، فخشي العالم نشوب حربٍ قد تتطاير شرارتها لتشعل نارا عالمية. لكنه ما أن وقع الرد، حتى تبيّن أن طهران أبلغت من ستزلزلهم بموعده، عبر وزير خارجيتها، محمد جواد ظريف، ورئيس وزراء العراق، عادل عبد المهدي، وأن قادة الحرس الثوري حرّكوا صواريخهم بطرقٍ سمحت لواشنطن بمتابعتها، ومعرفة وقت إطلاقها وهدفها، واختاروا من ترسانتهم الصواريخ الغبيه والأكثر غباءً التي لم يصل بعضها إلى هدفه، بل سقط على بعد كيلومترات منه، ولذلك لم يقتل أي أميركي، التزاما بتصريحٍ لترامب، جعل قتل أميركي واحد خطّا أحمر إن اجتازته إيران دمر مرافقها الحيوية.
هذا الرد الذي خيّب آمالنا لأنه ليس ردا، وصفه قائد الحرس الثوري بالمزلزل، بينما أعلن وزير خارجيتها ظريف أنه متكافئ مع قتل سليماني وكاف، واعتبره المرشد صفعة لواشنطن التي أعلنت أنها لم تشعر به ولم يؤلم خدّها. عندئذ تساءلنا مع العالم: أهذا هو الانتقام لمن قال حسن نصر الله إن قتل ترامب لا يكفي للانتقام له، لأن حذاءه يساوي خمسين ترامب؟ ألم يدرك قادة إيران أن هدف ترامب من قتل سليماني كان تحدّيهم إلى أقصى حدود التحدّي، وكشف حقيقة قوتهم، التي لطالما استهان جنرالاته بها، وهم يؤكّدون أن إيران هي أضعف قوة إقليمية في عالم اليوم، فانتظرنا أن يكذّبهم الرد الذي لا بد أن يكون مزلزلا بالفعل، بالنظر إلى هوية القتيل ومكانته، ولأن الرد سيكون الأول في أخطر اشتباكٍ استفزازي، بادرت واشنطن إليه، بضربتها العسكرية التي دفعت الأمور إلى حافّة الحرب، واعتبرت أقسى ما يمكن أن يوجّه من ضرباتٍ إلى الجمهورية الإسلامية التي لا مفر من أن تردّ عليها بأقصى قدر من قوتها التي أعلن عنها المتخصّصون بالضربات المزلزلة من قادتها.
لم تقع الضربة. يقال إن طهران تفادت، بذكائها المعهود، نتائجها الكارثية، بتركها أذرع قاسم سليماني المنتشرة في العالم تتولى تسديد ضرباتٍ متلاحقةٍ للوجود الأميركي، تستهدف اقتلاعه من المنطقة بكاملها.
هل سيحدث هذا؟ لا أعتقد، لأن ما منع إيران من الرد كان خط ترامب الأحمر الذي جعل قتل أميركي واحد بيد إيران أو أتباعها سببا لقتل الجمهورية الإسلامية التي تبيّن أنها عاجزة حقا عن الرد بسبب ضعفها الذي أكده عدم ردها. ما هو البديل المتاح لطهران، وقد “ذاب الثلج وبان المرج”. إنه باختصار: إما ذهابها إلى مفاوضاتٍ موضوعها إعادة إنتاج سياساتها وأوضاعها، لتتفق مع ما تريده واشنطن منها، أو مواجهة انفجار شعبها الذي لم تحشده ليودّع سليماني فقط، بل ليكون ردها على عجزها العسكري، وإظهار قدرتها على الصمود، ريثما يأتيها عرض أميركي مقبول: هنا كمن الرد الإيراني، وهو مزلزل كغيره من الردود، لذلك رحبت واشنطن به، ولو إلى حين.
ميشيل كيلو
العربي الجديد