يتغير مزاج الشباب الإيراني بشكل متسارع ليشكل واقعا جديدا أطلق عليه باحثون في علم الاجتماع “إيران الثالثة” التي لا تشمل المحافظين والمتشددين وهؤلاء الذين ينزعون إلى التجربة الغربية طوال الوقت.
لا يبدو في إيران أن الصور النمطية لشباب يصيحون في الشوارع رافعين شعار “الموت لأميركا”، وآخرون يتظاهرون للتعبير عن غضبهم تجاه النظام الإسلامي، ستستمر طويلا مع صعود “الفريق الثالث” من الشباب الذين يحاولون خلق واقع جديد.
ولطالما اعتمد نظام ولي الفقيه دائما على الفريق الأول في تثبيت أركان حكمه، بينما نظر المسؤولون والمراقبون في الغرب إلى الفريق الثاني باعتباره القوة المحتملة لتغيير النظام في طهران واستبداله بآخر أكثر اعتدالا.
وفي داخل النظام، لم يعر أحد أي اهتمام للتغيير الجذري الذي شهده المزاج العام بين الشباب الإيراني والذي ساهم في نشأة جيل جديد لديه رغبة قوية في لعب دور في تبديل وجه المجتمع بشكل يتناسب مع تطلعاته.
وأظهر شباب “إيران الثالثة” قدرتهم على الحشد في نوفمبر الماضي حينما قادت رسائل على تطبيق فايبر عشرات الآلاف من الشباب للنزول إلى الشوارع تعبيرا عن حزنهم على الموسيقى مورتيزا باشاي الذي مات بمرض السرطان بينما لم يكن قد تخطى الثلاثين من عمره.
واجتاحت المظاهرات 12 مدينة إيرانية، من بينها طهران التي مات فيها باشاي، وأعادت لأول مرة إلى الأذهان احتجاجات 2009 التي هزت إيران اعتراضا على تزوير الانتخابات الرئاسية لصالح الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد.
ولم يكن باشاي مطربا معروفا أو وجها سياسيا، لكن أغانيه انتشرت بين الحشود التي تحدت القانون الذي يمنع الغناء في الأماكن العامة بعد موته بساعات.
وتقول تقارير إن ثلثي السكان البالغ عددهم في إيران 78 مليونا ولدوا بعد الثورة الإسلامية التي أتت بحكم رجال الدين عام 1979.
وحصل الشبان والفتيات، الذين لم يعيشوا أجواء الثورة ولم يتربوا على أفكار آية الله الخميني، على تعليم منفتح، بينما يتعامل 30 بالمئة منهم مع شبكة الإنترنت بشكل يومي طبقا لإحصاءات مركز الإحصاء الإيراني.
وغزت النساء الجامعات الإيرانية. وبات نصف الطلاب الجامعيين في إيران من النساء منذ عام 2000. وفي عام 2014 تخطت نسبة الملتحقات بالجامعة 70 بالمئة.
وفي إيران، يكون على النساء تغطية شعورهن وأجسادهن، وفي المقابل تتعرض من ترفضن ذلك إلى العقاب بالجلد أو السجن. ولا يسمح لغير المتزوجين بالظهور معا في الأماكن العامة، بينما تطوف دوريات الشرطة الدينية (التي تعرف أيضا بشرطة الأخلاق) في الشوارع، وتتعمد إهانة الشباب بسبب ملابسهم.
ونتيجة لذلك أدرك الشباب في إيران أن النظام يصرّ على تطبيق رؤيته الدينية المتشددة في الحياة العامة. وعبر مقاومة تدريجية تمكنت الفتيات من تكييف لباسهن الديني على أحدث صيحات الموضة، وتمكن الشباب والشابات عبر مراحل من الخروج معا دون مقاومة تذكر من قبل السلطات.
وحينما وصلت المفاوضات حول الملف النووي الإيراني إلى طريق مسدودة في مرحلة من مراحل التفاوض، لم تظهر على هؤلاء الشباب أي ردود فعل تذكر رغم معاناتهم تحت نير العقوبات الاقتصادية القاسية.
ويقول محللون إن هذا الجيل من الشباب يتطلع إلى الحصول على مساحة أكبر من الحقوق في الحياة اليومية أكثر من حدوث أي تغيير في السياسات على مستوى قمة السلطة.
ويفضل محمد رضا جلائيور الباحث الإيراني في علم الاجتماع أن يصف تصرفات الشباب الإيراني بـ”الحركة المدنية التي أخذت في النمو تحت السطح إلى أن تمكنت من اتخاذ شكلها الحالي عند القمة”.
وقبل ثمانية عشر عاما، دعم الشباب الإيراني المرشح الرئاسي محمد خاتمي أملا منهم في اقتناص المزيد من الحريات. وشكلوا بعد ذلك العمود الفقري لما بات يعرف فيما بعد بـ”حركة الإصلاحيين” التي واجهت مقاومة شرسة من قبل المحافظين التقليديين.
وتجلت هذه المقامة في حملة القمع الدامية التي تبعت احتجاجات عام 2009 على فوز الرئيس السابق نجاد بولاية رئاسية جديدة.
ورغم أن الآلاف مازالوا يقبعون في المعتقلات، والكثير منهم مازال تحت الإقامة الجبرية، إلا أن الشباب أرادوا عقب موت باشاي، على ما يبدو، أن يبعثوا رسالة بلغة مشفرة إلى النظام. ويبدو أن رجال الدين في السلطة لن يجيبوا على هذه الرسالة، ولن يصدروا أي رد فعل تجاهها الآن، لكنهم تلقوها وفهموا معانيها جيّدا.
وأعادت الأعداد الهائلة التي احتلت الشوارع بعد موت باشاي إلى الأذهان المظاهرات الحاشدة التي انطلقت في تونس ومصر وسوريا واليمن، كما أثارت قلقا من الفوضى التي قد تسقط فيها إيران إذا ما خرجت هذه المظاهرات عن السيطرة.
لكن على الجانب الآخر، يشعر الشباب بأنهم مازالوا يستطيعون حشد أعداد هائلة من المتظاهرين والتأثير بشكل مباشر في سير الأحداث.
ويقول جلائيور “لا يجب علينا أن نتجاهل حركات الاحتجاج المتصلة بالثورة. الحركات التي تتصل مباشرة بأسلوب الحياة اليومية للناس لا يمكن هزيمتها. هذه الحركات إلى جانب مجموعات أخرى هي جزء من المجتمع المدني الإيراني”.
صحيفة العرب اللندنية