لم يمنع عمق التحالف الاستراتيجي بين واشنطن وأنقرة، وانتماؤهما العريق الى الحلف الأطلسي، واتساع علاقاتهما الاقتصادية والسياسية، من نشوء خلاف بينهما حول الوضع السوري، تنامى تدريجاً ووصل إلى العلن عبر تصريحات متبادلة كشفت تباعد الرؤى والحسابات، ما يتطلّب لمعالجته تقديم تنازلات متبادلة وإعادة بناء مواقف تعيد الى الأذهان روح التقارب والتوافق.
بدأ الخلاف من تصوُّر تركي يميل إلى تكرار النموذج الليبي في سورية، متوسلاً حظراً جوياً يمنح أنقرة فرصة لإقامة منطقة عازلة تأوي موجات اللاجئين الهاربين من أتون العنف، وهو ما اصطدم برفض أميركي له أسبابه المتعلّقة بسياسة أوباما التسووية، وبتحسّبه من الارتدادات الإقليمية لإطلاق يد تركيا عسكرياً، وتأثير ذلك في مسار المفاوضات مع إيران.
تلاه التباين حول محتوى التغيير المنشود في سورية، حيث تـطالب أنقرة بإزالة السلطة كاملة، بينما تسعى واشنـطن الى خلق توليفة بين بعض النظام والمعارضة يمكنها حماية الدولة والحفاظ على وحدة البلاد وتوجيه الحراب ضد الإرهاب، ما حدا بحكومة أردوغان الى دعم بعض الجماعات السورية القريبة من القاعدة، وتشديد اشتراطاتها المعرقلة لتنفيذ المشروع الأميركي بتدريب مسلّحين يُحسبون على الاعتدال!.
وتلاه التعارض في الموقف من تنظيم «داعش»، حيث تحتلّ مواجهته الأولوية لدى واشنطن، بينما تجده أنقرة أداة لمحاصرة خصومها الإقليميين والكرد، ما يفسر إحجامها عن الانضمام إلى التحالف الدولي، ورفض استخدام قاعدة إنجرلك في الحرب عليه، بما في ذلك رد الكرة إلى ملعب الغرب ومطالبته بمنع مواطنيه المشكوك في تشدّدهم الإسلاموي، من السفر إلى تركيا، قبل اتهامها بتقديم تسهيلات لـ «داعش» وتأنيبها على عدم بذل جهود جادة لمنع مرور الجهاديين من أراضيها.
والأهم هو الخلاف حول الموقف من الكرد، بين حماسة أميركية لتسليحهم وتمكينهم، والرهان عليهم كقوات برية موثوقة في إطار الحرب على «داعش»، وبين رفض تركي لهذا الخيار خوفاً من أن يوفر فرصة لقيام كيان كردي ينعم ببعض الاستقلالية على حدود تركيا الجنوبية، ويغدو بؤرة لوجستية تدعم حزب العمال الكردستاني، بخاصة أن محادثات السلام مع زعيمه عبدالله أوجلان لا تزال تراوح في المكان.
لكن ما الجديد الذي حصل وشجّع أنقرة على التحرّك جدياً لردم الخلافات، وإظهار استعدادها للتقارب مع سياسة واشنطن في الحرب ضد «داعش»؟! وكي تبدأ بالمشاركة في توجيه ضربات جوية ضد مواقعه المتقدّمة شمال سورية؟! وكي تفتح قاعدتي أنجرليك وديار بكر أمام قوات التحالف الدولي، ثم تعتقل المئات من أنصار «داعش» وتشدّد رقابتها الحدودية لمنع التحاق الإسلامويين الغربيين بالجماعات الجهادية في سورية والعراق؟!.
أولاً، لا يخطئ من يربط هذا الجديد بالتفجير الذي جرى في منطقة سروج، وتبناه تنظيم «داعش» وذهب ضحيّته العشرات من المواطنين الأتراك، ليبدو الحدث كأنه جرس إنذار يحذّر حكومة أردوغان من خطر الرهان على تنظيمات متطرفة لا تلقي بالاً سوى لتنفيذ أجندتها، ويسهل عليها الانقلاب على رعاتها وداعميها، زاد الطين بلة تعرّض مهمة «داعش» في تحجيم التمدّد الكردي لنكسة كبيرة في معارك تل أبيض والحسكة.
ثانياً، يصيب من يربط التبدّل بنتائج الانتخابات التركية إن لجهة الضعف الذي أصاب حزب العدالة والتنمية، أو لجهة الوزن اللافت الذي حصل عليه الكرد في البرلمان عبر ممثّلهم حزب الشعوب الديموقراطي، وهو أمر يقلق النخبة التركية عموماً، وربما يوحّد مواقفها في التصدّي لخطر تصاعد المشاعر الانفصالية بين كرد تركيا، تأثراً بارتفاع شعبيتهم وبالرضا الأميركي عنهم وبالانتصارات التي حقّقها أقرانهم في سورية.
ثالثاً، لا يخطئ من يربط تحوّل الموقف التركي بتوقيع الاتفاق النووي بين الدول الكبرى وإيران، حيث ستكون بعض نتائجه الاعتماد على وزن طهران في معالجة ملفات المنطقة ربطاً بنفوذها في سورية والعراق ولبنان واليمن، الأمر الذي يضعف الحاجة إلى أنقرة وربما يخرجها من المعمعة خاسرة، واللافت وعلى رغم الترحيب التركي بتوقيع الاتفاق النووي كبوابة لتدفّق التجارة بين البلدين، ثمة إشارات عدة تظهر تخوّف أنقرة مما يحمله تقارب واشنطن وطهران من احتمالات لتقاسم النفوذ على حسابها.
لكن، ماذا قدمت أميركا لقاء تبدّل الموقف التركي؟ أيمكن أن نضع في هذه الكفة غضّ نظر واشنطن عن التعبئة الظالمة التي تقوم بها أنقرة ضد القوات الكردية على أنها و «داعش» من طينة إرهابية واحدة؟ أم صمتها عن اعتقالات واسعة طاولت المئات من أنصار حزب العمال الكردستاني في سياق اعتقالاتها لأنصار «داعش»؟! أم يتعلق الأمر بمنح أنقرة ضوءاً أخضر لعمليات عسكرية تطاول القوات الكردية في شمال العراق وربما في سورية؟! أم غضّ النظر عن إقامة جزر أمنية موقتة غرضها تشديد الحصار على «داعش» وقوات الحماية الشعبية على حد سواء، والحؤول دون قيام كيان كردي متّصل؟ ولا يغيّر حدود هذه الجزر ادعاء أنقرة أنها توصّلت مع واشنطن الى اتفاق بإقامة منطقة عازلة، فالأمر لا يتعدى عملياً توفير غطاء لتدخّل تركي محدود يهدف الى طرد «داعش» على امتداد الشريط الحدودي، بينما لا تزال المنطقة العازلة بالمعنى المتعارف عليه، موضع رفض شديد، إقليمياً وعالمياً، ومحفوفة بأخطار وتداعيات قد تؤجج النار وتهدّد استقرار المنطقة برمتها.
والحال، يبدو أن حكومة أردوغان أدركت بحسّها البراغماتي المرهف، أن مأزقها سيزداد حدة طالما تهادن «داعش»، وطالما ثمة روائح لا تزال تنتشر عن دورها الخفي في تمكين القوى الجهادية وتوظيفها لخدمة مآربها، والمخرج هو تعديل سياساتها نحو التعاون مع التحالف الدولي والاحتماء بمظلّته، لضبط التمدّد الكردي ومحاصرة قدراته على هزّ استقرارها، ولحفظ ما حصّلته من نفوذ إقليمي وتخفيف مثالب ما قد تفرزه التوافقات الجديدة، وربما لمنع صدام محتمل بينها وبين الجيش سيزيد من انحسار شعبيّتها بينما تتّجه البلاد نحو انتخابات عامة مبكرة.
أكرم البني
صحيفة الحياة اللندنية