كما في سنوات الحصار على العراق والتهيئة للغزو والاحتلال (1990 ـ 2003)، ترتفع أصوات بعض العراقيين، حاليا، وأكثريتها من المقيمين خارج العراق، مطالبة بالتدخل الأمريكي. ينتشر النداء على مواقع التواصل الاجتماعي وضمن المجاميع الخاصة، تحت ذرائع لا ينقصها حسن النية، وبأشكال متعددة من بينها ارسال عريضة موجهة الى البيت الأبيض لتحمل مسؤولية الغزو وإنقاذ المواطنين من حكومتهم المستبدة.
ليس هذا النداء جديدا، اذ سبقه نداء مماثل وجهه مفكر عربي، منذ ثلاثة أعوام تقريبا، بعنوان « اللي شبكنا يخلصنا». تم إطلاق المناشدة الأخيرة بالتزامن مع تعرض الشباب المنتفضين في ساحات التحرير، منذ تشرين / أكتوبر الماضي، للقتل والاختطاف والتعذيب، بلا تمييز بين ذكر أو أنثى، وبعد أن مست آلة القمع الوحشية حتى الأطفال المستخدمين لابتزاز ذويهم المتظاهرين واجبارهم على العودة الى بيوتهم. جاءت المناشدة، أيضا، في وقت لم تعد فيه الأحزاب والقيادات الشعبوية المستندة الى الدين او الطائفة قادرة على التضليل، وتمرير الخدع فترة أطول، خاصة مع تزايد عدد الشهداء والجرحى والمعوقين والمعتقلين، بينما يقف العالم الخارجي، بضمنه الدول العربية والاسلامية، أما متفرجا، متحالفا مع النظام، في انتظاره أن يتعب المنتفضون ويعودون الى بيوتهم، أو مراهنا على اضعاف إيران في مفاوضات جارية بين الطرفين، ضمن مجريات صراعهما على الأرض العراقية، ولا يتحمل فيها أي من الطرفين خسارة مباشرة، بل يدفع ثمنها أبناء الشعب العراقي.
تشكل هذه الأرضية محاججة المتوجهين الى أمريكا بمناشدتهم «ليس استجداء ولكن طلبا من أمريكا تصحيح خطئها التاريخي باحتلال العراق تحت مسمى الديمقراطية»، متسائلين بلوعة وحرقة قلب « ما هو الحل؟ هل نستسلم للميليشيات لتقتل كل شباب الشعب العراقي أم نطلب ممن وضع هؤلاء على رأس هرم السلطة ليحذفوهم من المعادلة السياسية الراهنة «؟
يعيدنا سؤال: ما هو الحل؟ الى سنين ما قبل الغزو. فالشعب محاصر وجائع جراء تدهور الوضع الاقتصادي بحيث صار راتب الموظف يساوي دولارين شهريا، ومعارضة الخارج، بأنواعها، كانت تساهم برسم صورة مضخمة عن أسلحة دمار النظام، وجيشه الأقوى المُهدد للعالم، ومفرمة اللحم التي أبكت بواسطتها آن كلويد، النائبة في البرلمان البريطاني، بقية النواب، عشية التصويت على وقوف بريطانيا بجانب أمريكا، لإنقاذ العراقيين من المفرمة، وبناء عراق الديمقراطية وحقوق الإنسان. وانتهينا بكارثة بشرية وبنى تحتية، ورثها ويعيش نتائجها شباب الوطن الان. ولا نزال نسمع أصوات من تعاونوا مع المحتل مبررين: « لم يكن هناك حل آخر»، أو « كان ذلك الحل الوحيد لإنقاذ العراق».
الحل هو وحدة المنتفضين وصمودهم وانضمام بقية أفراد الشعب إليهم، مع مواصلة ناشطي الخارج حملات التضامن والدعم وايصال صوت المنتفضين الى العالم الخارجي. على المدى البعيد: لا بديل عن النهوض التدريجي للقوى الذاتية
نحن، الآن، امام تاريخ يعيد نفسه. فاليوم، كما يكرر الكثير من اهلنا داخل العراق، أسوأ من الامس، ولا ندري ما الذي سيجلبه الغد. بعد تجاوز الانقسام الطائفي الذي أثبت تجاوزه، خلال أربعة أشهر فقط من الانتفاضة، كم كان واهيا وبلا جذور في المجتمع، طفت على السطح أصوات منقسمة حول الاستجارة/ الاستنجاد/ المناشدة أو المطالبة (سمها ما تشاء) إما بإيران او أمريكا. مع أن كليهما يحتلان العراق وفق صفقات تتجدد منذ الغزو عام 2003 بتوزيع المنافع والمناصب لزبائن كل منهما، و«قواعد اشتباك « و«خطوط حمر» في التجاذب والتنافس قبل التوافق، ويعرفان جيدا، ربما أكثر من النظام العراقي نفسه، تفاصيل ما يجري يوميا من جرائم يساهمان إما بارتكابها مباشرة، بواسطة الميليشيات والمرتزقة وقوات العمليات الخاصة، او بشكل غير مباشر عن طريق أتباعهما المحليين، ثم يتبادلون التهم والإدانات والاستنكار بشأنها.
ان إدراك المنتفضين لطبيعة وتشابك العلاقة بين الشيطان الأكبر والأصغر، بعد أن ذاقوا مرارة العيش، بلا كرامة، في ظليهما على مدى 17 عاما، هو الذي يجعلهم يرفعون شعار « ألعن أبو أمريكا وأبو إيران»، وهو الذي يميز انتفاضتهم ويحصنها ضد السقوط في مستنقع الاستجارة بهذا النظام أو ذاك. إن المنتفضين، بحكم معايشتهم اليومية للأحداث بتفاصيلها المفرحة والدامية معا، وفهمهم لمتطلبات النضال السلمي المشترك، بمواجهة قوى تتربص بهم، يعرفون أفضل منا نحن المقيمين على مبعدة، خارج الوطن، ونرى ونتفاعل مع ما يجري عبر شاشات التلفاز وأيديولوجيات أجهزة الاعلام واشرطة الفيديو (على أهميتها). يفرض علينا، هذا الاختلاف مستوى من النشاط التضامني، يتماشى مع مطالب المنتفضين، لا يزايد عليهم ولا يختطف أصواتهم ليجيرها لمصالح حزبية او شخصية، تفاديا لما حدث في الماضي، حين باع معارضو الخارج صوت الشعب العراقي المضطهد الى الإدارة الأمريكية مصورين إياه بانه سيستقبل قوات الاحتلال بالزهور والحلوى. إن هتاف المتظاهرين في مدينة النجف « مقتدى الصدر قاتل»، بعد أن تعرضوا لمجزرة دامية، اتهم بارتكابها اتباع الصدر، لا يعني أن يطالب المتضامنون معهم، خارج العراق، أن « تتحمل أمريكا مسؤولية خطئها وتنظف العراق ممن نصبتهم». هذه المطالبة، مهما كان حسن نية المطالبين بها او حرقة قلوبهم على شباب الانتفاضة، بحاجة الى التوضيح إذا ما أريد عدم تكرار الماضي وتجربته المريرة بكل تفاصيلها البشعة، بضمنها المجازر الحالية. هل من الصحيح استبدال مجرم بآخر؟ ماهي تفاصيل عملية التنظيف المُطالب بها؟ ماذا عن جرائمها هي (فساد، مجازر، اعتقالات وتعذيب، قصف المدن، يورانيوم منضب)؟ ثم من الذي سيحل محل الساسة الحاليين؟ إذا افترضنا صحة موقف مطالبي أمريكا بالتدخل، ما هو الثمن الذي يتوجب على العراق دفعه بالإضافة الى ما يدفعه الآن، خاصة بعد ان أكد الرئيس الأمريكي ترامب أن على الدول التي ترغب بالحماية الأمريكية أن تدفع الثمن، لأن أمريكا ليست منظمة خيرية؟ هل سيكون الثمن شن الحرب ضد إيران؟
ولننتبه جيدا الى حقيقة أن الاحتلال الأمريكي هو الذي أدى الى زرع ونمو الميليشيات الإيرانية وإرهاب داعش، وأن ما ارتكبته أمريكا ليس خطأ، كما يدعي ساستها، بل جريمة منهجية استهدفت تحطيم العراق بشعبه ودولته. ما هو الحل اذن؟ هناك بعض الاستشراف الآني: وحدة المنتفضين وصمودهم وانضمام بقية افراد الشعب إليهم، مع مواصلة ناشطي الخارج حملات التضامن والدعم وايصال صوت المنتفضين الى العالم الخارجي. على المدى البعيد: لا بديل عن النهوض التدريجي للقوى الذاتية، ومنها الحركات السياسية الجديدة، عبر رفض سياسات الاستعانة بالأجنبي والتعويل على القوى الخارجية، أيا كانت.
هيفاء زنكنة
القدس العربي