اشتهر استعمال نسيم طالب لمصطلح «البجعة السوداء» للإشارة إلى المتغيرات غير المحسوبة والتي تناقض الاعتبارات القائمة والمقاربات المعتمدة. وفي غضون أشهر قليلة شهد لبنان توالي واقعتين تستحق كل منهما صفة «البجعة السوداء» وتأتي لتضيف المزيد من التعقيد إلى أوضاع اقتصادية وسياسية هي للتوّ دقيقة وصعبة. وقد يطيب للفريق السياسي المرتبط بإيران أن يطمئن إلى حسن إدارته للتحديات التي واجهها إذ يحكم قبضته على الدولة والمجتمع في لبنان. غير أن المجهول الذي يحيط بهذا الوطن، كما بالمنطقة والعالم، يضفي على هذا الاطمئنان الطابع المرحلي القصير.
ولا شك أن لبنان، والذي أطلق عليه فيما مضى لقب «الجمهورية الهشّة»، قد شهد تطبيع مستويات مرتفعة من تحمل الأوضاع الشاذة في الممارسة السياسية. فاللبنانيون قد تعاملوا مع بعض الوقائع الخارجة عن المألوف وكأنها القضاء والقدر، من الاستقالة القسرية لرئيس مجلس الوزراء خلال زيارة له إلى الخارج، في ظروف أشبه بالاعتقال، إلى التسليم بتواجد جيش محلي خاص، يقوم مقام احتلال خارجي، ويوفد وحداته من أبناء الوطن للقتال خارج الحدود في حروب المنطقة.
ولكن، حتى «حزب الله»، أي الجيش المحلي الخاص المعني، بدا عاجزاً ومرتبكاً إزاء «البجعة السوداء» الأولى التي شهدها لبنان العام الماضي، أي «الثورة» التي اندلعت بشكل تظاهرات ابتداءاً من السابع عشر من تشرين الأول ٢٠١٩. وكان على أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، أن يلجأ إلى كافة مقومات القوة والهيبة لديه في محاولة لتنفيس الانتفاضة واحتوائها، سيما مع استجابة أوساط في قاعدته الشعبية لها، فتراوحت مواقفه بين الإثناء على المتظاهرين واتهامهم بالعمالة للقوى الخارجية.
ولا شك أن الصف الموالي لإيران قد استفاد من الأداء الضعيف وغير المتجانس لرئيس مجلس الوزراء سعد الحريري. ففي حين أن الحريري استقال استجابة لمطلب المتظاهرين، فإنه وتياره بدا عاجزاً عن الاصطفاف الواضح مع دعوتهم إلى الإصلاح البنيوي، أو عن الاستفادة من حراكهم للعودة إلى منصب رئاسة الحكومة على أساس توزيع أكثر إنصافاً للسلطة التنفيذية إزاء المواقع التي يمسك بها حلفاء حزب الله.
وقد عاشت الطبقة السياسية في لبنان أسابيع ضبابية طويلة، سعى خلالها حسن نصر الله إلى إيجاد الصيغة الخطابية التي من شأنها المحافظة على نفوذه ضمن بيئته واستعادة ما تبدد منه، كما إلى إعادة تحصيل الهيبة التي تضررت على المستوى الوطني العام. أما سعد الحريري، فبدا وكأنه ينتظر أن تنتظم الأوضاع تلقائياً لصالحه. وقد أبدى حلفاء حزب الله في الحكم بدورهم الارتباك في التعاطي مع المستجدات. كان ذلك جلياً في حال الإنكار الذي أظهره جبران باسيل، صهر رئيس الجمهورية، والذي يرأس التيار الوطني الحر، المسيحي بغالب أعضائه، والمتآلف مع حزب الله بل التابع له، أمام انهيار صورته في خضم التظاهرات كزعيم قادر على تحقيق الامتيازات للمسيحيين، وتلاشي حظوظه بالرئاسة الأولى.
والواقع أن الحراك الاحتجاجي قد جاء تحديداً للاعتراض على سلوك الطبقة السياسية، وإمعانها بالزبائنية والنهب الممنهج القصير النظر للمال العام، ما حرم لبنان فرصة الارتقاء إلى مستوى الدولة العصرية ذات النظام التمثيلي الصادق. بل إن سوء الإدارة السافر للشؤون الاقتصادية والمالية والنقدية قد حكم على لبنان بالإفلاس المؤكد في المستقبل القريب. ومطالب المحتجين كانت الإصرار على أن يعمد الحكم إلى ما يجنب سقوط الوطن في الهاوية. وإذ بالاحتجاج يوفّر فرصة مناسبة للسلطة لإلقاء المسؤولية على المحتجين أنفسهم بشأن الإنهيار الاقتصادي الذي دعاهم إلى النزول إلى الشارع ابتداءاً. وضمن هذا المنطق الدائري الغريب إذ يشتكي المتظاهرون من حرمانهم من أموالهم المودعة في المصارف، تقع المسؤولية عليهم إذ هم أقدموا على التظاهر.
وبدا كأن الشريحة الحاكمة في لبنان، لإمعانها في إنكار الواقع وإصرارها على الاستمرار بنهجها الفاسد، ترتكب ما من شأنه الإسراع بسقوطها. وفي خروج عن العرف الذي أرساه فريق حزب الله بنفسه، والقاضي بأن تكون كل الحكومات حكومات «وحدة وطنية» تتمثل فيها كافة التوجهات، فإن الاختيار رسا على رئيس حكومة «باهت»، مستقل نظرياً وتابع فعلياً في أقواله وأفعاله لأمر حزب الله والتيار الوطني الحر.
والنتيجة الصافية الفورية لحراك السابع عشر من تشرين كانت بالتالي تحسين وضع الصف الموالي لإيران في لبنان. على أن ذلك جاء مصحوباً بتاريخ انتهاء صلاحية، نتيجة للأزمات المتراكمة، ولا سيما التخلف الحاصل للتوّ والمرتقب عن تسديد الديون الحكومية. والنهج الذي سارت عليه الشريحة الحاكمة، بعد أن شذّبت ما كانت قد فرضته «التسوية»، هو تبديد الحركة الاحتجاجية، مع الاستمرار بالممارسات النهبية بمزيد من الجشع والفجور.
وقد كان المنتظر، بعد انتهاء موسم الشتاء البارد والذي شهد انحساراً طبيعياً للحركة الاحتجاجية، أن تؤدي تحضيرات الناشطين إلى عودة قوية للتظاهرات وإلى تفعيل حاسم للحراك. والواقع أن مستقبل الحراك كان محكوماً باعتبارات متنافسة: تحسن التنسيق والتشبيك والتنظيم بين مجموعات الناشطين، بما من شأنه أن يؤسس لرؤية وطنية مشتركة تتجاوز الطائفية والطبقية، في مقابل خطط الاحتواء التي أعدتها القوى الأمنية لاعتراض النشاط الاحتجاجي، والمحاولات، الصافية النوايا وذات النوايا الأقل صفاءاً، من جانب بعض المجموعات لتحويل الاحتجاجات بما يتوافق مع قناعاتها العقائدية.
ورجاء الطبقة الحاكمة كان أن تزول الاحتجاجات فجأة كما ابتدأت فجأة. غير أن الواقع هو أن الحراك الاحتجاجي، وإن جاء عفوياً في تعبيره الأولي، قد انتشر على مدى الفضاء الوطني، وشكل حالة غير مسبوقة للبنان، في مئوية تأسيسه، لإظهار استعداد مجتمعه لتخطي الطائفية وبلوغ مقام الدولة العصرية القائمة على سيادة المواطن، دولة الوطن لمواطنيه.
أي أنه كان لا بد من وقوع مواجهة بين الطبقة الحاكمة، والتي اشتد عزمها بعد نجاحها في تحويل التحدي الذي شكلته الاحتجاجات إلى المزيد من الاستيلاء الفاجر على مقومات الوطن، وبين الحركة الاحتجاجية، والمتواسية بقدرتها على البقاء بل على تحسين حضورها، رغم الظروف المعاكسة لها. إلا أن هذه المواجهة قد ألغيت بفعل بروز «البجعة السوداء» الثانية، أي وباء كورونا.
لا يمكن الجزم بالمدى الفعلي لتفشي وباء كورونا في لبنان. رسمياً، أعداد الإصابات هي بضع مئات، والوفيات قليلة جداً، غير أن هذه الأرقام، والتي يظهر أنها تقديرات منخفضة جداً، قد تكون وحسب وليدة غياب الفحوص المخبرية الكافية، ضمن منظومة صحية منهكة وضعيفة للتوّ. الأكيد هو أن العديد من الأوساط الاجتماعية، بما فيها مخيمات اللاجئين والأحياء الشعبية المرتفعة الكثافة، مهددة بالوباء بشكل خاص، ومفتقدة للمقومات التي تسمح لها بالتجاوب الفعال مع وسائل الحد من التفشي، ولا سيما منها التباعد الاجتماعي. وفيما يطفح الإعلام بالوعود وتغطية التحضيرات المفترضة للمزيد من المرافق القادرة على مواجهة الجائحة، فإن مستشفى واحد في لبنان هو بالفعل على جهوزية فعلية لاستقبال مرضى الوباء.
وبعد أن كان التعاطي مع احتمالات التفشي في المراحل الأولى ينضوي على أقدار من الاستخفاف والتهوين، فإن الشعور بالخطر قد ارتفع، ولا سيما مع الوضع كارثي في إيطاليا، والتي تستقبل عدداً من اللبنانيين للدراسة والعمل. وسرعان ما اندلع سجال إعلامي مبطّن في البحث عن «بلد المنشأ» لهذا الوباء «المستورد» بين الحليفين حزب الله والتيار الوطني الحر. فبعد أن تعالت الأصوات لتتهم حزب الله بأنه وراء التلكؤ في إعلان حظر سفر مع إيران، حفاظاً على صورة الجمهورية الإسلامية وعلى خطوط الإمداد منها، انتشر في الإعلام الموالي للحزب زعم أن الوباء قد دخل لبنان قادماً من إيطاليا مع عودة رجال دين كاثوليك منها. والواقع أن تعرّض لبنان للوباء هو أكثر تعقيداً، وقد تم تعقب بعض حالات الإصابة إلى وافدين من مصر وسوريا، بالإضافة إلى إيران وإيطاليا. على أن زعم الانتشار الطائفي قد أتاح المجال أمام استدعاء العصبيات الفئوية، وهو ما استحق الإدانة في العلن، وإن خدم فعلياً مصلحة الحشد والتعبئة في البيئة الطائفية لكل من حزب الله والتيار الوطني الحر، بما يعزّز الانقسامات العامودية والتي كانت حركة الاحتجاجات قد أضعفتها.
وانسجاماً مع التوصيات الصادرة عن منظمة الصحة العالمية، اعتمدت الحكومة اللبنانية رزمة من الإجراءات لمواجهة وباء كورونا وسعت إلى تطبيقها. والواقع أنه من الصعب تصوّر مجموعة خطوات أكثر توافقاً وتطابقاً مع مصلحة الطبقة السياسية لتحقيق أهداف كانت إلى أمس قريب صعبة المنال، ولا سيما منها الانتهاء الكامل من التظاهرات. فلا حاجة بعد هذه التوصيات الصحية لمنع تجوّل يفرّغ الساحات وينهي الاحتجاجات انطلاقاً من اعتبارات سياسية، ذلك أن الحجر المنزلي للاعتبارات الصحية يؤدي الغرض. وبما أن التباعد الاجتماعي هو ما يقتضيه التصدي للوباء، فلا حرج لدى السلطات من أن تتهم عند بتفريق المتظاهرين بالتعدي على حرية التعبير أو الحق بالتجمع السلمي.
وما جرى بالتالي هو أن خطة الصف الموالي لإيران القصيرة المدى لمواجهة ثورة السابع عشر من تشرين قد تحولت إلى نجاح طويل الأمد، بعد أن أعاد الوباء خلط الأوراق. وقد يندرج إعلان حزب الله الحرب على الوباء، وتجييش المسعفين والممرضين والأطباء لهذه الحرب، في إطار الخطوات الساعية إلى تثبيت مكاسب لم تكن محسوبة. وكذلك حال الحكومة، والتي يسيطر عليها حزب الله، إذ عمدت إلى الإفراط في تفكيك الخيم والمنشآت المؤقتة والتي أقامها الناشطون في العديد من الساحات العامة. بل يجري استدعاء الوباء كحجة من جانب حزب الله وشركائه لتبرير المسعى إلى استبدال قائد الجيش وحاكم مصرف لبنان بآخرين أكثر طواعية، وفق ما جرى في حالة رئيس الحكومة.
على أنه قد يكون من المبكر الاطمئنان إلى أن هذه «البجعة السوداء» الثانية تشكل انتصاراً طويل الأمد للصف الموالي لإيران. ذلك أن قدرة هذا الفريق على تقديم الخطوات الكفيلة بإنقاذ لبنان من الكارثة محدودة جداً نتيجة لتعاظم المشاكل الاقتصادية، والتي تسببت بها الطبقة الحاكمة أو تجاهلتها أو امتنعت عن معالجتها، ونتيجة كذلك للأولويات التي يعتمدها حزب الله والتي توجهها المصلحة الإيرانية، ثم نتيجة لعجز الطبقة الحاكمة عن الامتناع عن الانغماس بالمزيد من النهب الفاجر والفساد وتلبية المصالح الضيقة. أي أن هذا النصر غير المحسوب قد لا يتعدى الطابع الترويجي الإعلامي والذي من شأنه وحسب تأجيل ما هو قادم لا محالة.
وبدورها، فإن الحركة الاحتجاجية، والتي امتدت إلى مستوى الوطن، رغم ما أصابها من ضربات، تبدي قدراً هاماً من التأقلم مع الواقع المستجد للوباء، بما يفرضه من قيود وما يتيحه من فرص. إذ يجري اليوم في صفوف الناشطين تغليب الدعوات إلى التعاضد الاجتماعي على مطالب الإصلاح البنيوي. وتبرز مبادرات مساعدة المحتاجين من خلال المساهمات عبر وسائل التواصل، أو من خلال الأساليب التقليدية والتي لا تحتاج إلى تقنيات الاتصالات والمعلومات، بما يمنح المواطنين أدوات وثيقة للتصدي للوباء. وقد وفرت الحركة الاحتجاجية كذلك خطاباً بديلاً في مواجهة مزاعم الشخصيات السياسية في هذا الشأن، حيث أنهم بعد الإمعان على مدى العقود بالنهب الممنهج للثورة الوطنية، يتبجح بعضهم بالتبرع بالفتات.
وقدرة التأقلم لدى الحركة الاحتجاجية، وإن قابلها استغلال مشهود للوباء من جانب الطبقة السياسية ومسعى مستمر لكبح الحراك، تشهد للطاقة الكامنة في انتفاضة السابع عشر من تشرين الأول. فهذه الانتفاضة لم تكن شطحة آنية إزاء الواقع اللبناني المرهق بالطائفية وبالنهب المشرعن، والمكبل بالإقطاعية الجديدة، والخاضع للسطوة الإيرانية. بل إن هذه الثورة بتجلياتها المتواصلة هي التعبير، وإن لم يصل بعد إلى كامل نضوجه، عن رغبة مجتمع يرفض أن يستمر بالخضوع إلى ما يستنزفه.
حسن منينمة
معهد واشنطن