عجلّ تفشي وباء كورونا في مختلف دول العالم باتخاذ الحكومات لإجراءات هامة في مختلف المجالات شملت أيضا الإفراج عن الآلاف من السجناء خوفا من أن تتحول السجون إلى بؤر موبوءة. لكن هذا الإعفاء لم يشمل في كثير من الدول المحكومة بأنظمة استبدادية سجناء الرأي وذلك رغم تحذيرات مختلف منظمات حقوق الإنسان الدولية من تداعيات هذا التعنت الذي تنتهجه بعض الحكومات خاصة في إيران التي قمعت مؤخرا أعمال شغب وعمليات فرار المساجين المذعورين من الإصابة بكورونا.
باريس- منذ أن أطلقت مفوضية حقوق الإنسان التابعة لمنظمة الأمم المتحدة نداء إلى رؤساء الحكومات في شهر مارس الماضي كي تتخذ إجراءات تخص السجناء لدى مكافحة وباء كوفيد – 19، تفاعلت بعض الدول مع الطلب واتخذت قرارات بالعفو عن الآلاف من السجناء تفاديا لإصابتهم بكورونا.
ودعت المفوضية آنذاك إلى إطلاق سراح أكبر عدد ممكن من السجناء كإجراء هام للحدّ من تفشي وباء كوفيد – 19، لكن وعلى عكس تفاعل بعض الدول، واصلت بلدان أخرى نهج سياسة التعنت غير مبالية بما قد يفرزه إهمال المساجين من بؤر موبوءة.
ورغم تشديد كل منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان بأن يكون السجناء السياسيين وسجناء الرأي في طليعة الذين يجب إطلاق سراحهم، إلا أن دولا كإيران والجزائر التزمت الصمت حيال هذا المطلب وواصلت نهج نفس السياسات التي انتقدت من أجلها أكثر من مرة.
ولم يغيّر الوباء العالمي سمعة إيران لناحية أنها تعد إحدى الدول التي تعدم أكبر عدد من سجنائها في العالم. وخير دليل على ذلك أن أحد المعتقلين الأكراد والذي يدعى مصطفى سالمي فرّ أثناء تمرد مارس الماضي لكنه أُوقف مجدداً وأُعدم بعد بضعة أيام في سجن سقز (شمال).
قنابل موقوتة في إيران
داخل سجون إيران المكتظة وفي ظلّ ظروف صحية هشّة يهدّدها فايروس كورونا المستجدّ، حدثت أعمال شغب وعمليات فرار قمعتها السلطات بعنف. وتأتي هذه الخطوة الإيرانية بعدما حذرت منظمات حقوقية من أن وضع المعتقلين في إيران وبينهم سجناء سياسيون، بات “مقلقا للغاية”.
وفي وقت يدور فيه جدلٌ حول عدد الوفيات الدقيق جراء فايروس كورونا المستجدّ في إيران الدولة الأكثر تضرراً في الشرق الأوسط، يحذّر مدافعون عن حقوق الإنسان وداعمون للمساجين السياسيين من واقع أن الوباء العالمي وصل فعلياً إلى السجون الإيرانية.
وتؤكد كاتيا رو من مكتب منظمة العفو الدولية في فرنسا، أن “الوضع بالنسبة لسجناء الرأي في إيران مقلق للغاية”. وقدّرت أن عدد سجناء الرأي في السجون الإيرانية يصل إلى “المئات”.
وتواجه إيران صعوبات في احتواء الفايروس وتعدّ رسمياً 5297 وفاة و84802 إصابة. وتعتبر السلطات الصحية وخبراء في الجمهورية الإسلامية وفي الخارج، أن هذه الأعداد أقل بكثير مما هي فعلياً متحدثةً عن عدد وفيات أكبر بأربع أو خمس مرات.
من جهته، يقدّر المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية (معارضة في المنفى) عدد الوفيات في إيران جراء الفايروس بـ28 ألفاً. ولم يتسنّ لفرانس برس التحقق من هذا العدد.
ولم تستجب إيران إلى دعوات منظمات حقوق الإنسان، حيث قالت في وقت سابق مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، ميشيل باشيليت، إن “على الحكومات إطلاق سراح كل شخص ليس موقوفا على أسس قانونية، بمن فيهم السجناء السياسيون ومعتقلو الرأي. وبعد إطلاق سراحهم، ينبغي أن يخضعوا إلى الفحوصات والإجراءات الطبية اللازمة، للتحقق من خلوهم من الأمراض وتقديم الرعاية اللازمة للمحتاجين إليها ومتابعة أوضاعهم الصحية”.
واستشهدت باشيليت بقانون حقوق الإنسان الدولي بهذا الصدد ودعت الدول إلى الالتزام بواجباتها إزاء السجناء، “بحسب قانون حقوق الإنسان الدولي، فإن الدول ملزمة باتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع أي خطر محدق بالصحة العامة وضمان تقديم الرعاية الطبية لكل من يحتاج إليها”.
وتقول كاتيا رو إن المعتقلين السياسيين في إيران “مسجونون أصلاً بشكل غير عادل، فوسط هذا الوباء، من المهمّ جداً أن يتمّ الإفراج عنهم من دون شروط” منددةً بسجون “حيث ظروف الاعتقال سيئة من ناحية الصحة والنظافة الصحية” و”من دون تهوئة ولا وصول إلى نقاط توزيع المياه”.
وتضيف “لا تسمح السلطات بالوصول إلى خدمات الرعاية المناسبة، ليس هناك فحوص ولا وضع في الحجر الصحي للأشخاص المحتمل أن يكونوا مصابين”.
وبالنسبة لطهران، فإن السجون الإيرانية لا تضمّ أي “سجين سياسي”. وتتهم الجمهورية الإسلامية الدول الغربية بالخلط بين هذه التسمية وحالة الأشخاص المُدانين بجرائم ضد الأمن القومي. ومنذ مارس، استفاد حوالي مئة ألف سجين في إيران من إذن بالخروج تم تمديده حتى العشرين من مايو بهدف الحدّ من تفشي المرض.
عشرات الموقوفين “المنسيين”، وبعضهم منذ أكثر من عام، ينتظرون محاكمتهم بتهم تتعلق بمشاركتهم في الحراك ضد النظام
وأُفرج مؤقتاً عن معتقلين يحملون جوازات سفر أجنبية على غرار الإيرانية البريطانية نازانين زغاري راتكليف التي أوقفت عام 2016 وحُكم عليها بالسجن خمس سنوات للتحريض على “الفتنة”. وتمّ تمديد إذنها بالخروج حتى العشرين من مايو، لكن لا يزال قيد الاعتقال حملة جنسيتين آخرون تعتبرهم الأسرة الدولية معتقلين سياسيين.
ويرى هادي قائمي المدير التنفيذي لمركز حقوق الإنسان في إيران ومقرّه نيويورك، أنه “لن تتم السيطرة على الوباء في وقت قريب في إيران”. ويقول “الأماكن مثل السجون وهي أصلاً منافية للتباعد الاجتماعي، ستكون معرضة جداً للتفشي” واصفاً السجون الإيرانية بأنها “مكتظة للغاية”.
ويشير متحدث باسم المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية شاهين جوبادي إلى أن “وضع هؤلاء المساجين هو قنبلة إنسانية موقوتة”. وأدى تعنت السلطات الإيرانية إلى هروب عشرات المعتقلين الذين انتابهم الذعر أثناء عمليات فرار جماعية في الأسابيع الأخيرة.
واعتبر جوبادي أن “المساجين ليسوا بحاجة إلى أن نشرح لهم الوضع المأساوي الذي يواجهونه؛ معتقلون توفوا جراء كورونا المستجدّ وآخرون نقلوا إلى المستشفى. هؤلاء المساجين يدركون أنه عندما سيدخل الفايروس إلى سجنهم سيصبحون من دون وسائل دفاع، لذلك لجأوا إلى هذه الخطوات اليائسة من أعمال شغب وعمليات فرار”.
وفي تقرير نُشر في التاسع من أبريل، تعتبر منظمة العفو أن “عشرات الآلاف من المعتقلين في ما لا يقلّ عن ثمانية سجون قاموا بتحركات احتجاجية”. وتضيف “في سجون عدة، أطلقت قوات الأمن رصاصاً حياً واستخدمت الغاز المسيل للدموع” لقمعهم “ما أدى إلى مقتل 36 سجيناً وجرح المئات، وفق مصادر جديرة بالثقة”.
وتؤكد كاتيا رو من المنظمة أن هذا “التحرك الاحتجاجي في السجون هو أحد أكبر التحركات في السنوات الأخيرة وهذا يعكس القلق الكبير لدى المعتقلين”.
معاناة نفسية
تهم الكثير من الأطراف السياسية المحلية والدولية السلطات الإيرانية بتوظيف أزمة وباء كورونا كأداة لتعذيب المعارضين من المساجين خاصة أولئك الذين قادوا احتجاجات عارمة في أواخر عام 2019.
وأوضح هادي قائمي أنه “لم يرَ أبداً قبل اليوم مساجين تجرأوا على الفرار أو التمرد بهذا الشكل”. ويتّهم السلطات باستخدام هذا الوباء كأداة “تعذيب” السجناء السياسيين قائلا “يبقونهم في وضع خطر، وفي ظل معاناة نفسية”. ويتابع “إنهم أهداف سهلة”.
وأعلن القضاء الإيراني الثلاثاء، أنه أفرج بشكل مؤقت عن أكثر من ألف معتقل أجنبي. وقال المتحدث باسم السلطة القضائية الإيرانية غلام حسين إسماعيلي “ما فعلته إيران عبر ضمان صحة السجناء ومنحهم أذون خروج هو خطوة مهمة” مقارنة بما فعلته دول أخرى. والأسبوع الماضي، دعت مجموعة خبراء في حقوق الإنسان إيران إلى توسيع لائحة المعتقلين الذين سيستفيدون من إذن خروج لتشمل “سجناء الرأي وحاملي جنسيتين والأجانب”.
وتقول هذه المجموعة إن مئات المساجين يواجهون “خطراً كبيراً بالتقاط عدوى كوفيد – 19 بسبب كبر سنّهم ومشاكل صحية”.
ولا تعترف الجمهورية الإسلامية بازدواجية الجنسية وتتهم حكومات أجنبية بالتدخّل في ما تعتبره ملفات متعلقة بقضاياها الداخلية. ومن بين مزدوجي الجنسية الذين لا يزالون قيد الاعتقال الباحثة الفرنسية الإيرانية فاريبا عادلخاه التي أوقفت في يونيو 2019 في طهران. ولطالما أكدت براءتها وهي المتهمة بـ”التواطؤ للمساس بالأمن القومي”. وقد أضعفها إضراب عن الطعام دام 49 يوماً.
ورغم تفشي الوباء، مثلت عادلخاه الأحد، أمام القضاء الإيراني في جلسة جديدة من محاكمتها في طهران. ويوضح جان فرانسوا بايار، الأستاذ في معهد الدراسات العليا الدولية والتنمية في جنيف والعضو في لجنة دعم عادلخاه، أن “المخاوف لدى اللجنة بشأن صحة عادلخاه فعلية نظراً إلى خطورة الوضع الصحي. فاريبا موجودة في زنزانة مع عدة أشخاص آخرين”.
غير أنه يشير إلى أن عدد السجينات “انخفض حيث يبدو أن عددهنّ في سجن النساء تراجع من 42 إلى 18”. ويتابع “بقدر ما نعلم، فإن الحارسات يحمين السجينات فهناك أقنعة واقية ومواد معقمة”.
غير بعيد عن إيران لا يختلف الأمر كثيرا في بعض الدول العربية، وعلى الرغم من الانتقادات الموجهة للنظام المصري بانتهاك حقوق السجناء السياسيين وسجناء الرأي وخاصة منهم مزدوجي الجنسية، فإن السلطات ترد بدورها بأن جماعة الإخوان المسلمين تريد توظيف الأزمة لدفع الحكومة للإفراج عن أطراف متورطة في عمليات إرهابية وفي قضايا تخص أمن الدولة.
أما في الجزائر، فينتظر إلى الآن عشرات الموقوفين “المنسيين”، وبعضهم منذ أكثر من عام، محاكمتهم بتهم تتعلق بمشاركتهم في الحراك ضد النظام، لكن لا أحد يتكلم عنهم في خضم الأزمة الصحية الناتجة عن فايروس كورونا المستجد.
ولا يتمتع هؤلاء بصفة معارضين سياسيين، وغالبًا ما يعيشون بعيدًا عن العاصمة، نبض الحراك، وينظر اليهم أحيانا على أنهم رعاع.
وإزاء اللامبالاة العامة تقريبًا، لا تعرف عائلاتهم من تقصد لطلب المساعدة. وشُكِّلت مجموعات لأمهات الموقوفين اللواتي التقين في قاعات المحاكم، يتمّ فيها تشارك خيبة أملهن. واليوم يساعدن بعضهن البعض لإنقاذ أولادهن.
وتقول زكية حنان وهي والدة زين الدين الموقوف منذ الأول من مارس 2019 بعد عودته من تظاهرة للحراك في سيارة مع شخصين من الحي الذي يقطن به “لقد نسيهم الحراك والقضاء، ومع فايروس كورونا هم يدفعون ثمناً باهظاً. إنها العقوبة المزدوجة قبل الحكم”.
وتوقفت حياة عائلات هؤلاء المتحدرين في كثير من الأحيان من فئات اجتماعية متواضعة، منذ اعتقال أبنائهم. وعملت العائلات على توكيل محامين ودفع أتعابهم.
وازداد اليأس لدى الأمهات بعد إلغاء الزيارات العائلية في السجون منذ تفشي جائحة كوفيد – 19، علما أن السلطات نفت وجود أي إصابة في السجون.
واعتبر الناشط في مجال حقوق الإنسان قدور شويشة أن “الحبس الاحتياطي ظل سلاحًا قويًا في أيدي أولئك الذين يجرّمون النشاط السياسي والنقابي والجمعوي، والآن جاء دور أعضاء الحراك”.
وينتظر بعض الموقوفين المحاكمة منذ أكثر من عام. وقد شاهدوا وصول سجناء آخرين من الحراك، ثم مغادرتهم، بعد أن أطلق سراحهم أو حُكم عليهم بعقوبة تغطي فترة حبسهم. وتنقسم المنظمات غير الحكومية من المجتمع المدني حول وضع هؤلاء السجناء إن كانو سجناء رأي أم لا، ولكنها تتفق على حقيقة واحدة هي أنه لا ينبغي أن يقبعوا في السجن الاحتياطي.
وعاملهم معظم المحامين على أنهم سجناء حق عام، في حين أنه تم توقيفهم لوقائع تتعلق بنشاطهم في الحراك، كما يقول السجين السابق حكيم عداد، الناشط في منظمة “تجمع عمل شباب”، الحركة الطليعية في الحراك.
ورفض محامون آخرون الدفاع عنهم دون توضيح الأسباب بدعوى “السرية المهنية” حتى لا تكشف ملابسات توقيفهم، بحسب المحامية ليديا لوناوسي في بجاية (شمال شرق). وتورط بعض الموقوفين في مشاجرات وسرقات أو تحطيم أملاك الغير على هامش مسيرات الحراك.
وباء كورونا لم يغير سمعة إيران لناحية أنها تعد تاريخيا إحدى الدول التي تعدم أكبر عدد من سجنائها في العالم
وهذا الوضع الأخير ينطبق على يزيد حدو من تلمسان (شمال غرب) الذي تم توقيفه في أكتوبر 2019، بعد أن اتهمته الشرطة بأنه تشاجر مع موظف من البلدية قبل الانتخابات الرئاسية. ويطالب شقيقه حمّي بمحاكمته أو إطلاق سراحه، فقد “كان لديه عمل فقده وهو متزوج ولديه طفل صغير”.
ويروي حمّي أن والدتهما توفيت دون أن تتمكن من رؤيته. ويقول بمرارة “كانت مريضة ولم تتحمل سجنه. حتى اليوم، لا أجرؤ على إخباره أنها ماتت”. وأصبح استخدام الحبس الاحتياطي هو القاعدة وليس الاستثناء، بحسب محامين ونشطاء في مجال حقوق الإنسان في الجزائر.
ويقدر بأكثر من ألف سجين “حراكي” أو بسبب قضايا حقّ عام عدد الذين لا يزالون ينتظرون محاكمة غير مؤكدة، على الرغم من إجراءات عفو رئاسي صدرت مؤخرا.
والتقى قدور شويشة في سجن وهران (شمال غرب) رجلا متهما في قضية مخدرات ينتظر المحاكمة منذ ست سنوات. ويقول إن السجن الاحتياطي يستهدف أكثر “أولئك المعزولين والفقراء الذين وُضعوا وجها لوجه بشكل غير متكافئ مع الوجه الحقيقي للقمع في الجزائر”.
ويأسف شويشة، وهو سجين سابق من الحراك “لأنهم لا يعرفون الآليات ولا الأشخاص الذين يجب الاتصال بهم، ولا يملكون المال. ولا تعرف أسرهم أي باب تطرق”.
ويروي حكيم عداد من جهته “كان معي شاب عمره 23 عامًا في الحبس الانفرادي يتيم الأبوين، وليس لديه سوى أخ. ظلّ محتجزًا قبل المحاكمة لمدة 18 شهرًا بسبب شجار وليس لديه المال لتوكيل محام”.
العرب