في إحدى الفترات، كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان – سواء أحببتَه أم لا – عنواناً للتغيير. فقد دافع عن رؤية مستقبلية لبلاده، وأشار إلى قدرته على تجاوز التحديات الأكثر إلحاحاً: من القضية الكردية إلى الفساد، إلى سوء الإدارة الاقتصادية، وقد نجح في ذلك. لهذا أحبَّه الناس وصوّتوا لصالحه في صناديق الاقتراع.
ومع ذلك، لم يعُد الرئيس التركي – ورئيس الوزراء السابق – يمثل اليوم الإصلاح والكفاءة. إذ أظهر تعامله مع مرض “كوفيد-19” إخفاقه في تولّي دفة القيادة – وكشف عن منافسة بين مستشاريه. وفي المقابل، برز السياسيون المعارضون مثل رئيسا البلديتان المنتخبان حديثاً، اسطنبول (أكرم إمام أوغلو) وأنقرة (منصور يافاش) كمحللين للمشكلات. فقد تزعما هم ونظرائهم في المدن الكبيرة الأخرى التي يديرها «حزب الشعب الجمهوري» المعارض، مثل أزمير وإسكيسهير، الجهود الاجتماعية لمحاربة وباء الكورونا، وشنوا حملات لجمع التبرعات، وشجعوا المواطنين على ارتداء الأقنعة في الأماكن العامة، فضلاً عن الدعوة لحظر التجول على الصعيد الوطني.
وفي كل حالة، رفضت الإدارة الرئاسية تبني الإجراءات في البداية، لكنها احتضنتها في وقت لاحق. وفيما يتعلق بحملات جمع الأموال التي أطلقها إمام أوغلو ويافاش في 30 آذار/مارس، حظرت الإدارة الرئاسية هذه المبادرات، لكنها بدأت تعرض برنامجها الخاص بجمع التبرعات في وقت لاحق من ذلك اليوم.
إن رد أردوغان المتأخر والمشوّش يعود جزئياً إلى التغيّر الأخير الذي طرأ على النظام السياسي في تركيا حيث تحوّل من نظام ديمقراطي برلماني إلى نظام رئاسي ذي أسلوب تنفيذي. وتمت الموافقة عليه عن طريق استفتاء تم الفوز به بفارق ضئيل في نيسان/أبريل 2017، ودخل حيز التنفيذ في تموز/يوليو 2018.
وسابقاً، كان بإمكان أردوغان الاعتماد على كوادر كبيرة من المستشارين والوزراء والوكالات الحكومية من أجل اتخاذ قرارات حكيمة ساعدته على الفوز في الانتخابات وتوجيه دفّة تركيا خلال المصاعب التي مرّت بها. ومع ذلك، فإن الرئيس محاطٌ اليوم بمجموعة صغيرة من المساعدين، الذين يوفرون، مع بعض الاستثناءات، بديلاً لا يرتقي إلى مستوى المؤسسات التركية الكفوءة تاريخياً وخبرائها المتخصصين ولا يشكلون البديل الأفضل عنها. كما تم تهميش الشبكة السابقة من المقربين السياسيين، التي ساعدته على الفوز بما يقرب من اثنتي عشرة انتخابات.
إنّ انحصار صلاحية صنع القرار في سلطة شديدة المركزية يسبّب تحريفات وتشوّهات؛ فالقرارات لا تُتَّخذ بناءً على المصلحة الوطنية، أو حتى المصلحة السياسية للرئاسة، بل لصالح زمرةٍ ما على حساب أخرى. وأحد الأمثلة على ذلك هو إلغاء الانتخابات البلدية في اسطنبول في آذار/مارس من العام الماضي، والتي فاز بها إمام أوغلو بفارق ضئيل قدره 13,000 صوت. وحتى مع تعبئة جميع موارد الدولة ضده، فاز إمام أوغلو في الانتخابات المعادة في حزيران/يونيو 2019 بفوز ساحق بـ 800 ألف صوت. وشارك ما يقرب من 100,000 متطوع من «حزب الشعب الجمهوري» في عد الأصوات بعد الانتخابات، حتى أن بعضهم ناموا فوق أكياس محشوة بأوراق الاقتراع ليلاً لمنع الاحتيال والتلاعب.
ومثال آخر على عملية صنع القرارات المحرّفة هو ردّ القصر الرئاسي المشوّش على وباء “كوفيد 19”. وفي كلتا الحالتين، تفوّقت المرونة الديمقراطية بوتيرتها على أردوغان.
والتحدي الأعمق بعد هو التغيرات الديمغرافية التي حفزها حكم أردوغان الذي دام عقدين من الزمن تقريباً. ولطالما اعتُبرت تركيا خلال غالبية تاريخها المعاصر بلد القبائل السياسية تطالب فيها الجماعات الرئيسية، مثل العلمانيين في القرن العشرين أو الإسلاميين السياسيين في ظل حكم أردوغان في القرن الحادي والعشرين، بحقوق أتباعها ولكنها ترفض منح الحقوق نفسها للجماعات الأخرى.
لكن هذا ليس حال جيل الألفية في تركيا. فأبناء هذا الجيل الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و29 عاماً يشكّلون ربع سكان البلاد – حيث بلغ عددهم حوالي 20 مليون ناخب في عام 2018. وقد نشأ هذا الجيل، الذي وُلد بين عامي 1989 و 2003، في ظل حكم أردوغان ذي النزعة الاجتماعية المحافظة.
ومنذ عام 2003، غمر أردوغان الحكومة العلمانية التقليدية والمؤسسات التعليمية في تركيا بمواقفه الدينية المحافظة، سعياً إلى تربية “جيل تقيّ” على صورته ومثاله. ففي فصول الدين في المدارس الابتدائية على سبيل المثال، يتم تعليم الطلاب على اعتناق الجهاد!
وفي حين كان لتركيا ذات مرة “وزيرة لشؤون المرأة”، أصبح لديها الآن “وزيرة الأسرة”. ويعكس هذا التحوّل تفضيل الإدارة التركية تعزيز القيم التقليدية بدلاً من المساواة والتمكين.
لقد منح أردوغان أجهزة الرقابة الإعلامية الحكومية صلاحيات رقابة واسعة على البث الإذاعي والتلفزيوني، من أجل إزالة أي محتوى لا يتماشى مع نظرتها المحافظة. ويُعتبر التقبيل على الشاشة ضرباً من الفسق، وأصبحت مشاهد الكحول والتبغ مغشّاة. وفي الوقت نفسه، يتم التساهل مع نسبة كبيرة من العنف، وإطلاق النار، وتمجيد العنف ضد المرأة.
بيد أن تبنّيه المتعنت للنزعة المحافظة الاجتماعية من المستويات العليا نزولاً إلى الدنيا أتى بنتائج عكسية ملحوظة في مجموعة ديمغرافية مهمة، وهي جيل الألفية. وتُظهر الاستطلاعات التزاماً ساحقاً بالقيم الديمقراطية الليبرالية، وهي سابقةٌ بالنسبة لأي جماعة ديموغرافية في تركيا. كما أن هذا الجيل أقل تديناً بكثير من الأجيال السابقة، ويزيد احتمال تعرضه للإلحاد مرتين مقارنة بالمتوسط الوطني. وربعه فقط يصلي بانتظام، مقارنة بحوالي نصف سكان البلاد. ووجد استطلاع آخر أن 47 في المائة فقط من النساء اللواتي تتراوح أعمارهن بين 18 و 32 عاماً يغطّين شعرهن، مقارنة بـ 62 في المائة من جميع النساء في البلاد، وهي علامة رئيسية على التخلي عن الممارسات الإسلامية. وهذا تطور غير مسبوق. وحيث لا ترتدي غالبية الشابات الحجاب – وهو الأول لأي مجموعة ديموغرافية في البلاد – فمن المفارقة هو تحقّق حلم مؤسس تركيا العلماني مصطفى كمال أتاتورك، تحت حكم السياسي الإسلامي إردوغان.
إنّ قادة تركيا المستقبليين سيخرجون من بين أبناء جيل الألفية المذكور هنا. ويقول أحد مستطلعي الرأي الأتراك، بكر أغيردير، أن نسبة الشباب في تركيا تبلغ نحو 19 مليون نسمة، مليونان منهم “مواطنون عالميون”، وذلك في إشارةٍ إلى جيل الشباب المثقف والمتعلّم الذي يقدّر التنوع، ويرفض عدم المساواة بين الجنسين، ويريد الانخراط في الأعمال من خلال هيكليات تنظيمية أفقية. وتزداد شعبيةً هذه الحركات بسرعة في تركيا، وتُنمّي جيلاً من الشباب له مفهومٌ مختلف كلياً عن المشاركة المدنية – وهذه جميعها مؤشرات جيدة للمستقبل.
إن الدروس المستخلصة من التدخلات في العراق وأفغانستان هي أن بناء ديمقراطية يستغرق وقتاً طويلاً. وتوحي تركيا، في عهد أردوغان، أن التدمير يستغرق هو أيضاً وقتاً طويلاً، وربما هذا غير ممكن على الإطلاق. وتحقيقاً لهذه الغاية، ربما يكون أردوغان قد أوجد بنفسه وبدون قصد بعضاً من التحديات التي يواجهها. ولهذا السبب نحن متفائلون بشأن مستقبل تركيا الديمقراطي.