أحضر جورج بيسيل ((George Bissell يوما زجاجة بها سائل أسود يطفوا على سطح الأرض من شقوق صخرية في ولاية بنسلفانيا سماه الأوائل بالبترول. مع عدد من المستثمرين قرر بيسيل دراسة امكانية استخراج مادة سائلة تصلح كسائل للاضاءة ، وفوّض أستاذاً في الكيمياء من جامعة ييل (Yale University)، وهو البروفيسور بنجامين سيليمانBenjamin Silliman Jr.، بإجراء هذه الدراسة. وأصبح التقرير جاهزاً في 16/4/1855. ولكن البروفيسور طلب مبلغ 526.08 دولار نظير خدماته، وهو ما اعتبره بيسيل وشركاؤه مبلغاً كبيراً . ونظراً لأن البروفيسور رفض تسليم التقرير لعدة أسابيع، قرر بيسيل وشركاؤه أن يدفعوا المبلغ. كانت نتائج الدراسة ايجابية. وبناء عليه تم القرار بانتاج هذه المادة تجارياً. وتم حفر أول بئر في بنسلفانيا على يد على يد Edwin Drake سنة 1859.
***
من البداية جلب النفط سوء الحظ لأهله :
كان النفط بداية يُعبأ في براميل الويسكي فأصبح البرميل هو مقياس إنتاجه. تهافت المستثمرون لانتاج النفط حين وصل سعر البرميل إلى دولارين . لكن زيادة الانتاج كثيرا عن الطلب هوت بالاسعار الى اقل من كلفة البرميل نفسه (اي التخزين) وهو ما حصل هذا الشهر حين تم اغراق السوق فوق حاجته . ببساطة انه قانون العرض والطلب. ومما زاد مصائب المستثمرين ان احد مصابيح الاضاءة اشعل النار في الغاز المتصاعد من براميل النفط وأتى بها عن بكرة أبيها وحلت الكارثة بأصحابها. اما Edwin Drake فذهب ببترودولاراته إلى وول ستريت حيث (شلّحه ابناء عمومتنا ) فلوسه واعلن افلاسه سنة 1866!
***
السيطرة على السعر بين العرض والطلب:
سأبين في هذه الدراسة ان ذلك قد مر بالمراحل الاتية ، المرحلة الاولى كانت السيطرة من شركات النفط بمفردها . والمرحلة الثانية الشركات بمساعدة الحكومة الامريكية . والمرحلة الثالثة السيطرة بواسطة اوبيك كحصان طروادة ، والمرحلة الاخيرة اوبيك بلس والتي كانت نهاية اوبيك .
المرحلة الاولى : قام اتحاد الشركات التي شكّلت شركة نفط العراق ) وهي شركات امريكية بريطانية فرنسية ) بتوقيع اتفاقية سرية باسم اتفاقية الخط الاحمر (Red Line Agreement) والتي اتفقت فيها تلك الشركات على احتكار صناعة النفط في منطقة الجزيرة العربية بحيث تدخل الشركات نفسها الى دول تلك المنطقة معاً او تخرج معاً . وبقي هذا الكارتل يسيطر ويقرر كمية الانتاج الى تلك البلدان ويقرر الاسعار على هواه ودون علم من دول الجزيرة العربية المنتجة. بقي هذا الحال على حاله الى ان فضحت وزارة العدل الامريكية هذا الامر باعتباره احتكارا ضد القانون وطالبت محاكمة الشركات جزائيا وجنائيا. الا ان الشركات كانت اكبر من (العدل ) فأصدر الرئيس ترومان مرسوما رئاسيا بالعفو باعتبار ان ما تقوم به الشركات هو تطبيق للسياسة الامريكية . لكن اسلوبا اخر للسيطرة اصبح ضروريا .
المرحلة الثانية: اصبح خلق مؤسسة لوضع أسس انتاج للدول المنتجة ضرورة قصوى نتيجة لاكتشاف الدور السري للشركات وخوفا من خلل العرض عن الطلب وفقدان السيطرة على الاسعار خصوصا وان للولايات المتحدة تجربة في هذا الخصوص . ففي سنة 1933 نتيجة الى الانتاج الغزير من الاكتشافات في تكساس والذي ترافقت مع هبوط حاد في الطلب نتيجة للكساد الاقتصادي انذاك هبط سعر برميل النفط من دولار الى 2 سنت فاضطرت الحكومة الفيدرالية بأن تخصص لكل ولاية حصة عليها الا تتجاوزها . يضاف الى ذلك ان سنوات الخمسينات من القرن الماضي جاءت فيها اكتشافات نفطية كبيرة في ليبيا ، الجزائر ، الغابون ، ونيجيريا مما سيسبب ازمة اسعار واختلال بين العرض والطلب فجاءت اوبيك كمنظمة لتنظيم الانتاج وأُنشأت سنة 1960 .
المرحلة الثالثة: اوبيك ودور الولايات المتحدة كالمنتج المرجح swing producer) )لضبط الاسعار وكانت هذه الفترة فترة الستينات حيث كانت الولايات المتحدة تهيمن على الاسعار بواسطة رفع او خفض انتاجها حيث كان انتاجها اعلى من استهلاكها حتى سنة 1970.
المرحلة الرابعة: المرحلة ما بين 1970-2016 : اوبيك كحصان طروادة للولايات المتحدة بواسطة شريكها الاستراتيجي المملكة العربية السعودية كالدولة المنتجة المرجحة. سنة 1970 بدأت الولايات المتحدة باستيراد النفط بعد ان وصل انتاجها واستهلاكها الى 10 مليون برميل يوميا .كانت هناك اكتشافات للشركات الامريكية والبريطانية في بحر الشمال وألاسكا لكنها لم تكن لها جدوى اقتصادية، حين كان سعر البرميل 2 دولار في الوقت التي كانت كلفة الانتاج في ألاسكا 5 دولارات وفي بحر الشمال 7 دولار للبرميل . كانت اهداف حرب 1973 لزيادة السعر 4 اضعاف ولتصبح تلك الاستكشافات مجدية اقتصاديا ولبدء عملية المفاوضات المصرية الاسرائيلية. تم قرار رفع الاسعار في مايو 1973 في مؤتمر بيلدربيرغ السري. يقول الكاتب Engdahl ان احمد زكي اليماني وزير النفط السعودي قال له انه حين سأل شاه ايران الذي طلب منه رفع الاسعار الى 400% عن سبب ذلك ؟ فأجابه شاه ايران بعنجهية : قُل لمليكك ان يسأل هنري كيسنجر . كان كل ذلك انقلابا على النظام المالي الذي نشأ بعد اتفاقية بريتين وودز واستبداله بنظام سعر الصرف المتغير لدولار غير مغطى بالذهب . ولكي نبيّن العلاقة الامريكية السعودية وسيطرة الولايات المتحدة على قرار الاسعار يورد برقية عاجلة من وزارة الخارجية الى سفارتها في لندن مشفّرَة سري جداً جاء فيها إن : “وزير الخارجية مهتم جداً بدراسة سريعة عن تأثير هبوط كبير في اسعار البترول “. كان ذلك في البرقية رقم 081715 المرسلة في شهر مارس 1985 هبطت الاسعار من معدل 26 دولار للبرميل في شتاء 1985 الى اقل من (10) دولار للبرميل 1986.
المحامي الشرعي ووزير النفط السعودي احمد زكي اليماني كان يحب دوره الاعلامي وكأنه هو صانع قرار التسعير والمسيطر على اوبك . في احدى حالات الدراسة بجامعة هارفرد بعنوان السيطرة على النفط العالمي جاء اقتباس عما قاله احمد زكي اليماني :” لتدمير دول أوبك الأخرى، يكفي أن ندفع انتاجنا إلى أقصى طاقته، ولتدمير الدول المستهلكة، يكفي أن نخفض معدلات إنتاجنا “.
بقي دور السعودية بالتنسيق مع الولايات المتحدة برفع انتاجها او تخفيضه حتى الان . ومن المحطات الفارقة كان رفع الاسعار الى ما فوق المئة دولار مما افسح المجال لاستخراج الزيت الصخري في الولايات المتحدة .
اوبك بعد الزيت الصخري الامريكي: رفعت الولايات المتحدة انتاجها بحيث اصبحت المنتج الاكبر في العالم بواسطة الزيت الصخري وذلك سنة2016 .هذا يعني ان استيرادها من الخارج قد تقلص بمقدار ما زاد انتاجها من الزيت الصخري مما جعل فائضا في الاسواق العالمية مما يستدعي خفض الانتاج من المنتجين الكبار الاخرين بدون مشاركتها فهي تريد المشاركة الغُنم ولا تريد المشاركة بالغُرم اي تخفيض انتاجها . وهذا ما لم تقبله روسيا وان قبلته على مضد منذ 2016 وحتى اجتماع لاوبك مؤخرا . وهذا ما تم تسميته اوبيك بلس .
***
قرار اغراق السوق بعد اجتماع اوبك:
من الاكيد ان تشابك المصالح السعودية الامريكية كما بينا تجعل من المستحيل ان تُقبل المملكة العربية السعودية على قرار يبدو بشكل واضح انه سيؤثر على الاسعار العالمية سلبا مما سيضر بصناعة الزيت الصخري بالاضافة الى الضرر بكافة المنتجين بما فيهم المملكة العربية السعودية نفسها . كان هذا القرار لغزا وما زال لكن اغلب ظني ان مثل هذا القرار قد اتخذه البيت الابيض في عهد ترامب والذي كبير مستشاريه تاجر عقارات اسمه جاريد كوشنر . والجميع يعلم بضحالة معلومات ترامب نفسه. والكل يعلم تغريداته عن كورونا والتي جاءت بمصيبة كبرى على الولايات المتحدة حيث اليوم اصبحت الولايات المتحدة صاحبة اعلى رقم في الوفيات والاصابات وخروج 26 مليون امريكي من وظائفهم خلال اخر 5 اسابيع . مثل من يتخذ هذه القرارات ومستشاريه لا يستبعد انهم قالوا لترامب فلتهبط الاسعار لمدة شهر فان في ذلك مصلحة في تحفيز الاقتصاد الامريكي وهذا ما غرده على تويتر ترامب في بداية الازمة ولربما اخبروه ان هذه الفائدة هي اكبر من الاذى الذي قد يصيب صغار منتجي الزيت الصخري والمتعثرين اصلا في الوفاء لسداد قروضهم الى وول ستريت . وان اصابنا اذى بسيط لشركات الزيت الصخري التي هي متعثرة عن الدفع في سوق المال اصلا ولكن ذلك سيضطر روسيا بالقبول بتنزيل انتاجها مع السعودية دون ان يقوم بالتنزيل انفسنا .ولربما كان هذا احد قرارات ترامب الارتجالية حتى جاءه كبار مدراء شركات النفط الى البيت الابيض .والمقرف والمؤسف انه بالرغم من كل ما تفعله السعودية من اجل الاقتصاد الامريكي نجد اعضاء الكونجرس يطالبون بمقاطعتها ونجد ترامب نفسه يريد من دول الخليج حسب قوله ان يكونوا اكثر سخاءً للولايات المتحدة لانها تقوم بحمايتهم وهنا ينطبق المثل العربي (حاميها حراميها).
***
والخلاصة:
اذا كان سعر برميل النفط المطلوب لميزانية السعودية هي 80 دولار للبرميل وباحتساب 10 مليون برميل باليوم انتاج فيكون العجز لهذا السعر صفر . اما عند سعر 60 دولار للبرميل فيكون هناك عجز 200 مليون دولار يومياً اي 73 مليار دولار بالسنة اما على سعر 20 دولار للبرميل فيكون عجز 60 دولار للبرميل اي 600 مليون دولار يوميا اي 219 مليار دولار … يا حرام، هذا بافتراض ابقاء المصروفات الدفاعية وغيرها كما هي.
بعد حرب الخليج الاولى ارادت السعودية ان تغطي العجز لبيع بعض سندات الخزينة الامريكية لكن الولايات المتحدة طلبت منها ان تأخذ قروضا من السوق المالي العالمي. واليوم تقترض المملكة من السوق المالي العالمي مع ان لديها مدخرات كسندات خزينة امريكية. علما ان مثل هذه العجوزات ستأكل الاخضر واليابس مما تبقى للدولة من ادخارات وبترودولارات.
انا اكتب واتألم لان ما يصيب اشقاءنا العرب في اي قطر من مصائب فهي مصائبنا. وآمل ان يكون فيما ذكرت تذكرة وافادة لنهج جديد يحافظ على ما تبقى للدول والشعوب من ثروات وبترودولارات وخاصة ان عصر النفط اصبح اصوله قاب قوسين او ادنى.
د.يحيى زلوم
رأي اليوم