كانت السمة البارزة للعصر الحديث هي قدرة الإنسان على تغيير كل ركن من أركان الكوكب من خلال استنزاف موارده والتحكم بنظمه البيئية. لكن الشهور القليلة الماضية أظهرت حزم الطبيعة في فرض شروطها على البشرية بأسرها، عبر التأثير على صحة الإنسان وتهديد النمو الاقتصادي. وبينما تطغى أعداد الإصابات والوفيات الناتجة عن وباء «كورونا» على ما عداها من الأخبار في وسائل الإعلام، تسبب الانخفاض الحاد في ساعات العمل وحركة المرور على الطرقات وتراجع الانبعاثات الصناعية في تحسين نوعية الهواء حول العالم والحفاظ على حياة كثيرين.
فقد أدت إجراءات مواجهة الفيروس في أوروبا خلال شهر أبريل (نيسان) إلى انخفاض بنسبة 40 في المائة في متوسط مستوى التلوث بثاني أوكسيد النيتروجين، و10 في المائة في متوسط مستوى التلوث بالجسيمات المعلقة، مما ساعد في تجنب 11 ألف حالة وفاة كانت متوقعة بسبب تلوث الهواء. لكن أعداد المتوفين في أوروبا بسبب «كورونا» خلال الفترة نفسها فاق هذا بكثير. عدا عن أن هذه التقديرات التي نشرها «مركز أبحاث الطاقة والهواء النظيف»، تخص قارة واحدة خلال شهر واحد. لكن تلوث الهواء يتسبب بوفاة 7 ملايين إنسان حول العالم سنوياً، وفقاً لأرقام منظمة الصحة العالمية، التي تشير أيضاً إلى أن 91 في المائة من سكان العالم يعيشون في أماكن لا يتمتع هواؤها بالحد الأدنى من المواصفات المطلوبة.
وقد رصدت دراسات حديثة وجود ارتباط محتمل بين فيروس «كورونا» وتلوث الهواء. ويقترح فريق من الباحثين في جامعة بولونيا الإيطالية انتقال الفيروس على أسطح الأجسام المعلقة في الهواء، مما يفسر ارتفاع معدلات الإصابة في أجزاء من شمال إيطاليا، بصفتها واحدة من أكثر المناطق تلوثاً في أوروبا. وكانت دراسة نشرت سنة 2004 أظهرت انتقال فيروس «سارس» في الهواء بواسطة الرذاذ (إيروسول). كما أظهرت الإحصاءات علاقة بين ضعف مناعة الجهاز التنفسي عند الأشخاص المقيمين في مناطق ذات مستويات تلوث هواء مرتفعة وزيادة عدد الإصابات والوفيات بفيروس «كورونا».
وتتأكد يوماً بعد يوم العلاقة الوثيقة بين النشاط البشري والجائحات المرضية، التي لا تقتصر على انتشار الأوبئة، بل ترتبط أيضاً بظهورها وانتقالها في أغلب الأحيان من الحيوان إلى الإنسان. وفيما يُرجَّح أن أصل تفشي جائحة «كوفيد-19» يعود إلى انتقال الفيروس من أحد أنواع الخفافيش في سوق للحوم والحيوانات الحية في الصين، فالثابت أن 60 في المائة من جميع الأمراض المعدية بين البشر هي أمراض حيوانية المنشأ، و75 في المائة من الأمراض المعدية التي ظهرت حديثاً ويتسارع انتشارها في العالم تأتي عن طريق الحيوانات. لكن اللوم لا يقع على الحيوانات، إذ إن النشاط البشري هو الذي اقتحم موائلها الطبيعية، وليس العكس. كما أن أساليب الإنتاج الحيواني والزراعي المكثف تساهم بشكل رئيسي في انتقال الأمراض وتفشيها.
الأمراض الحيوانية المنشأ التي ظهرت، أو عادت إلى الظهور مؤخراً، مثل «إيبولا» وأنفلونزا الطيور ومتلازمة الجهاز التنفسي في الشرق الأوسط (ميرس) وحمى الوادي المتصدع (التي انتقلت من المواشي إلى البشر في كينيا في ثلاثينات القرن الماضي) والمتلازمة التنفسية الحادة المفاجئة (سارس) وفيروس غرب النيل وفيروس «زيكا»، والآن فيروس «كورونا» المستجدّ، بدأت في الخراف والأبقار والخنازير والطيور، لكنها انتقلت إلى الإنسان بسبب النشاط البشري. فقد تفشى فيروس «إيبولا» في غرب أفريقيا نتيجة لخسائر في الغابات أدت إلى تماس أوسع بين الحياة البرية والمستوطنات البشرية. وارتبط ظهور إنفلونزا الطيور بالتربية المكثّفة للدواجن، كما اقترن فيروس «نيباه» بالتربية المكثّفة للخنازير وإنتاج الفاكهة في ماليزيا. وتُظهر دراسة نشرت نتائجها سنة 2004 أن تحوراً أصاب إحدى سلالات فيروس الإنفلونزا كان وراء انتقالها من الطيور إلى الإنسان سنة 1918، ثم انتشرت العدوى بين ثلث تعداد سكان العالم متسببة بوفاة عشرات الملايين خلال سنة واحدة، فيما يعرف بجائحة الإنفلونزا الإسبانية.
وتوجد كثير من أوجه التشابه بين إنفلونزا «كورونا» المستجد والإنفلونزا الإسبانية، فالمرضان يأتيان في الأصل من مصدر حيواني، وهما واسعا الانتشار، إذ يمكن العثور حالياً على فيروس كورونا في جميع القارات، باستثناء القطب الجنوبي. وفي المقابل، تعد فترة حضانة الإنفلونزا الإسبانية قصيرة، مقارنة بفترة حضانة فيروس «كورونا». وفي حين تزامنت الإنفلونزا الإسبانية مع الحرب العالمية الأولى، مما ساعد على انتشار المرض بسرعة مع القوات المتنقلة من مكان إلى آخر، فقد أدى التطوُّر في وسائل المواصلات الجوية والبحرية والبرية إلى انتشار جغرافي واسع لفيروس «كورونا»، لم يحدّ منه إلا فرض قيود على السفر وتنقل الأفراد. ومع أن الوقت ما زال مبكراً لمعرفة النتائج النهائية لجائحة «كورونا»، فلا بد أن تطوُّر الرعاية الطبية عما كانت عليه قبل قرن من الزمن سيكون عاملاً حاسماً في تحديد حجم الخسائر البشرية.
– التدهور البيئي وانتشار الأمراض
لطالما وفّرت الحروب وحالات الجفاف الشديد والإصابات الزراعية التي ينتج عنها نقص في الغذاء الظروف المناسبة لانتشار الأوبئة. فالجفاف وغزو العالم الجديد تسببا بين نهاية القرن الخامس عشر ونهاية القرن السابع عشر في وفاة 90 في المائة من سكان أميركا الأصليين، نتيجة الحرب وانتشار الجدري والحصبة والتيفوئيد والإنفلونزا والدفتيريا. وتظهر مراجعة تاريخية نشرت نتائجها في 2002 أن الحمى النزفية التي يرتبط انتشارها بكائن ناقل مثل الجرذان، أودت بحياة 90 في المائة من المكسيكيين خلال القرن السادس عشر الذي شهد أقسى فترة جفاف عرفتها البلاد وأطولها.
وتزامن الموت الأسود (جائحة الطاعون) خلال القرن الرابع عشر مع غزوات المغول والعصر الجليدي المصغّر والمجاعة الكبرى في أوروبا. كما تزامنت الحملات الصليبية مع الجفاف الشديد الذي أصاب مصر في القرن الحادي عشر خلال فترة «الشدّة المستنصرية»، وأصاب بلاد الشام في القرن الثاني عشر؛ وفي المنطقتين اقترن انتشار الأوبئة مع الحرب والجفاف.
الجفاف يؤدي إلى تغيُّر استخدامات الأراضي بإزالة الغابات، وتحويلها إلى أراضٍ زراعية، مما يضع الإنسان على تماس أكبر مع الحيوانات الناقلة للأمراض، كما حصل في انتقال فيروس «إيبولا» من خفافيش الفاكهة إلى الإنسان في الكونغو والغابون. ويوفر تدمير الغابات الموطن الملائم لتكاثر البعوض الذي ينقل الملاريا، كما حصل في البيرو، عندما أصيب 120 ألف شخص بالمرض بعد إزالة آلاف الهكتارات من الغابات المطيرة. وفي منطقة تضم 18 بلداً أفريقياً، من غامبيا غرباً إلى إريتريا شرقاً، وتعرف باسم «حزام التهاب السحايا»، يرتبط انتشار التهاب السحايا وأمراض أخرى كالملاريا بتغيُّر استخدامات الأراضي والتغيُّرات المناخية.
وتسمح الاضطرابات البيئية للعوامل الممرضة الكامنة في القوارض والطيور في أن تجد طريقها إلى البشر أيضاً. ففي تسعينيات القرن الماضي، ظهر مرضان مستجدّان في الولايات المتحدة، هما فيروس «هانتا» وفيروس غرب النيل. ويعتقد العلماء أن هاتين الآفتين نتجتا عن تغيُّر المناخ. ففي حالة فيروس «هانتا»، أدّت ظاهرة «النينو» المصحوبة بأمطار غزيرة مبكرة إلى إقلال أعداد البوم والأفاعي والقيوط، وزيادة إثمار أشجار الصنوبر وأعداد الجنادب، مما وفّر الظروف المناسبة لتكاثر فئران الأيل وانتشارها بأعداد كبيرة، ناقلة معها الفيروس. وفي حالة فيروس النيل، تسبب الدفء والأمطار الغزيرة في وفرة أعداد البعوض التي تنقل الفيروس من الطيور إلى الإنسان.
لقد ساهم التطور في علوم الأمراض والفيروسات في علاج الأمراض وإبطاء انتشارها إلى حد بعيد. ومع ذلك، فإن ظهور الأمراض المستجدة غالباً ما يضع النظام الصحي العالمي أمام تحديات قد لا يكون فيروس «كورونا» المستجدّ أشدها وطأة، إذ إن الخشية الأكبر هي في ظهور بكتيريا وفيروسات قاتلة كانت غائبة لآلاف السنين، أو لم يسبق لنا أن واجهنا مثيلاً لها من قبل. إن فيروسات أمراض شبيهة بالجمرة الخبيثة والإنفلونزا الإسبانية والجدري والطاعون مدفونة في التربة الصقيعية في ألاسكا وسيبيريا، ويخشى العلماء أن يؤدي ذوبان الجليد نتيجة الاحترار العالمي إلى إيقاظها وانتشارها من جديد.
خلال الأشهر القليلة الماضية، تسبب فيروس «كورونا» في وفاة مئات آلاف البشر، وهدد آلاف الملايين في مصادر رزقهم وسبل عيشهم. ولئن كان انتشار الجائحة سبباً في خفض مؤقت للملوثات والانبعاثات، فإن مواجهة الأوبئة المستجدة تتطلب اتخاذ المبادرة لمجابهة التهديدات العالمية المستقبلية، من خلال الإدارة البيئية السليمة، وحماية التنوع الحيوي، وخلق وظائف خضراء تسهل الانتقال إلى اقتصادات أكثر انسجاماً مع الطبيعة.
عبدالهادي نجار
الشرق الاوسط