بين عشية وضحاها، تحوَّل أخصائي الميكروبيولوجيا الإثيوبي ذو الخمسة والخمسين عاما إلى محط اهتمام العالم بأسره، مع تكدس مئات الملايين، وربما المليارات، حول العالم أمام وسائل الإعلام بمختلف أشكالها لمتابعة الإحاطات الصادرة عن الرجل الذي كان يشغل سابقا منصب وزير خارجية إثيوبيا قبل أن يصبح لاحقا أول أفريقي يتولى رئاسة منظمة الصحة العالمية، وأول رئيس للمنظمة يتم تسميته بالانتخاب بين مجموعة من المرشحين.
فمع الذعر الذي اجتاح العالم منذ نهاية عام 2019 تزامنا مع الأنباء حول تفشي فيروس جديد وغامض في مقاطعة ووهان الصينية، أصبحت تصريحات تيدروس أدهانوم غيبريسوس، الرجل الذي كان حريصا دائما على الخروج إلى وسائل الإعلام محاطا بطاقم من الأطباء والعلماء لإضفاء الصبغة المهنية على إحاطاته، مصدرا للطمأنينة للعالم المضطرب، ولكن هذه الطمأنينة سرعان ما أثبتت أنها كاذبة وزائفة بعدما ثبت يقينا أن منظمة الصحة العالمية قلّلت، سواء عن عمد أو تقصير، من خطورة الوباء الجديد، وتبنّت تقريبا جميع مفردات الرواية الصينية التي هوّنت من قدرة الفيروس على الانتشار، وهو ما تسبّب في تقاعس العالم عن الاستعداد بشكل مبكر وكافٍ لمواجهة الخطر الجديد.
فحتى نهاية شهر ديسمبر/كانون الأول عام 2020، أي بعد أكثر من شهر ونصف على تسجيل الإصابات الأولى بالمرض في مدينة ووهان، لم تُصدِر منظمة الصحة العالمية أي إحاطة حول حقيقة انتقال الفيروس (1) بين البشر، وظلّت المنظمة حتى نهاية شهر يناير/كانون الثاني تُخبر العالم بإصرار أنها لا تملك أي دليل على إمكانية انتقال المرض من شخص إلى آخر، ورغم أنها لم تُرسل فريقا إلى الصين للتحقيق في ظروف وملابسات انتشار الفيروس إلا في منتصف شهر فبراير/شباط، ظلّت المنظمة تُصِر بشدة أنه لا يوجد أي داعٍ لاتخاذ تدابير لإعاقة السفر وحركة التجارة الدولية، بل إنها انتقدت الولايات المتحدة بسبب عدم استماعها لتعليماتها وقيامها بإغلاق مجالها الجوي، معتبرة أن القرار الأميركي متسرّع وغير مبني على أدلة حقيقية.
في الوقت نفسه، استمرّت منظمة الصحة العالمية في تجاهل القيود التي فرضتها الصين حول المعلومات المتعلقة بانتشار الوباء الجديد بما في ذلك العديد من الممارسات القمعية للسلطات، وعلى رأسها اعتقال الطبيب الشاب لي وين ليانغ الذي كان من أوائل الذين حذّروا من خطورة الفيروس الجديد، بخلاف تجاهلها للدعوات المتتالية للتحقيق فيما كشفته الصور التي التقطتها الأقمار الصناعية لمقابر جماعية في مقاطعة هوبي، موطن انتشار المرض، وهي الصور التي قدّمت إشارات مبكرة على احتمالية ألّا تكون بكين صادقة تماما فيما يتعلّق بأعداد ضحايا الفيروس التاجي.
لم تقف الأمور عند هذا الحد، ففي تقريرها (2) الصادر في فبراير/شباط حول فيروس كورونا الجديد، حرصت المنظمة على الإشادة بقوة بجهود الصين لاحتواء المرض حيث وصفتها بأنها “الأكثر فاعلية ونشاطا في مواجهة أي وباء في التاريخ”، ولم يكتفِ تقرير المنظمة بذلك ولكنه زعم أن الصين “كسبت للعالم وقتا لا يُقدَّر بثمن لإنشاء خط دفاعي لمنع المرض من الانتشار على الصعيد الدولي”، وكانت إشادة المنظمة العالمية تلك بمنزلة ضوء أخضر لبكين لتعزيز سرديتها الجديدة، بوصفها القوة التي نجحت في احتواء الوباء في مهده بشكل مبكر، في حين لا تزال الدول المتقدمة في الغرب، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، تكافح في احتواء آثاره.
لكن هذه الرواية التي تروّجها الصين، بدعم (3) من منظمة الصحة العالمية على ما يبدو، تتجاهل مسؤولية الممارسات البيروقراطية وانعدام الشفافية والتحكم الصارم في تدفق المعلومات الذي مارسته السلطات الصينية عن ظهور المرض وانتشاره في المقام الأول، وهي تتجاهل كذلك مسؤولية بكين عن إضاعة وقت ثمين كان من الممكن أن يستغله العالم لتطبيق إجراءات حماية جدية لمنع انتشار الوباء عالميا، وهو ما تسبّب في اتهام العديد من الجهات للمنظمة بالعمل كبوق للنظام الصيني بدلا من التدقيق بشكل مستقل في المعلومات والبيانات الواردة إليها، بما أسهم في زيادة انتشار المرض بدلا من احتوائه.
وفي حين أن المنظمة الدولية لم تُعلن فيروس كورونا جائحة عالمية إلا في 12 مارس/آذار، تُشير تقديرات (4) إلى أن أداء المنظمة المتردد حرم العالم على الأقل من ثلاثة أسابيع ثمينة كان بإمكانها تغيير خريطة مواجهة الوباء بشكل كامل إلى درجة تقليص عدد الإصابات بنسبة قد تصل إلى 95% مقارنة بالوضع الحالي، وكما يقول “فرانسوا غودمان”، الباحث في معهد مونتين الفرنسي للسياسات، فإن “المنظمة ارتكبت خطأين رئيسيين: الأول عندما أخفقت في اكتشاف أن العدوى تنتقل بين البشر مبكرا، والثاني عدم إعلانها كورونا جائحة دولية إلّا بعد تسجيل 118 ألف حالة في 114 بلدا، ما أثّر على سياسات الدول التي تتبع إرشادات المنظمة”.
واليوم، مع تسجيل فيروس كورونا لنحو 3.8 مليون إصابة، وأكثر من 260 ألف حالة وفاة، في 212 دولة ومنطقة حول العالم، يبدو أن مصداقية المنظمة العالمية، التي تُعَدُّ مهمتها الرئيسية هي دق ناقوس الخطر العالمي عند تفشي الأمراض المعدية الجديدة وتنسيق الاستجابة العالمية لمواجهتها، باتت على المحك، خاصة أن سهام الانتقادات تطولها الآن من أكبر الدول المساهمة في المنظمة وعلى رأسها الولايات المتحدة التي علّقت تمويلها للمنظمة مؤخرا بعد أن اتهمتها بالتسبُّب في تفشي المرض بسبب انحيازها للنظام الصيني، وهي انتقادات مشابهة لما صدر على لسان نائب رئيس الوزراء الياباني الذي دعا متهكما في كلمة أمام نواب البرلمان في البلاد إلى إعادة تسمية منظمة الصحة العالمية باسم “منظمة الصحة الصينية”.
اعلان
لم تقتصر سهام النقد تلك على أداء المنظمة ككيان فحسب، ولكنها امتدت للطعن في نزاهة رئيسها الإثيوبي وانحيازاته، أدهانوم غيبريسوس، المتهم إعلاميا اليوم بالتستر عمدا على النظام الصيني لأسباب سياسية تتعلق بالنفوذ الذي تتمتع به بكين في سياسة بلاده، إثيوبيا، خاصة أن رئيس الصحة العالمية يمتلك تاريخا مثيرا للجدل (5) من محاولات التستر على تفشي الأوبئة في بلاده نفسها، بما في ذلك اتهامات بالتستر على تفشي وباء الكوليرا في إثيوبيا أعوام 2006 و2009 و2011 حين كان يشغل منصب وزير الصحة في البلاد بين عامي 2005 و2012.
من التدخين إلى الإيبولا
على مدار تاريخها الذي يمتد لسبعة عقود منذ تأسيسها عام 1948، واجهت منظمة الصحة العالمية في أكثر من مناسبة اتهامات عالمية بالوقوع في فخ البيروقراطية المفرطة والخضوع للحسابات السياسية ومصالح الممولين، وذلك على الرغم من النجاحات الكبيرة التي حقّقتها المنظمة على بعض الأصعدة مثل استئصال أوبئة الجدري والطاعون والحمى الصفراء وخفض عدد حالات الإصابة بمرض شلل الأطفال عالميا، وهي الأوبئة الرئيسية التي استدعت تأسيس المنظمة منذ البداية.
في الخمسينيات على سبيل المثال، فشلت منظمة الصحة العالمية في مواجهة طوفان الأبحاث العلمية الزائفة الممولة من قِبل أباطرة صناعة التبغ، في ظل قيام الشركات الكبرى في الصناعة بتمويل المعاهد الصحية والبحثية وتوظيف العديد من الأطباء والباحثين والعلماء للدفاع عن مصالحها عبر التهوين من الآثار الصحية للتدخين، وللمفارقة فإن الكثير من هؤلاء العلماء كانوا من المرتبطين بمنظمة الصحة العالمية بشكل أو بآخر، ومن أبرز الأمثلة (6) على ذلك قضية اختصاصي شهير في مجال السموم كان يعمل لصالح منظمة الصحة العالمية، وكان مدرجا في الوقت نفسه على كشوف رواتب عملاق التبغ العالمي فيليب موريس.
تزايدت وتيرة الانتقادات للمنظمة بشكل ملحوظ خلال حقبة الثمانينيات مع فشلها في لعب دور فعال في مواجهة الأوبئة الجديدة التي ظهرت خلال هذه الفترة، وعلى رأسها فيروس نقص المناعة المكتسبة، الإيدز، والأمراض التنفسية الجديدة، وبالتزامن مع ذلك بدأت المنظمة تعاني من الركود وتفاقم البيروقراطية في هياكلها، وبدأت الدول الأعضاء تشتكي من شبهات حول الفساد وسوء الإدارة داخل المنظمة الأممية.
ولكن مع مطلع القرن الحادي والعشرين وقع حدثان مهمان (7) أعادا تعريف دور منظمة الصحة العالمية بالشكل الذي نعرفه اليوم، أولهما حدث في عام 1998، مع صعود السياسية النرويجية ورئيسة الوزراء السابقة غرو هارلم برونتلاند إلى قيادة المنظمة الدولية، لتستغل السياسية المخضرمة اتصالاتها الدبلوماسية وشبكة الإنترنت الناشئة في تأسيس وتبنّي نهج جديد ومستقل تجاه الصحة العامة بعيدا عن هيمنة الحكومات الوطنية، حيث كانت برونتلاند صاحبة الفضل في تحويل العنف العالمي إلى قضية صحة عامة، وقيادة حركة عالمية مناهضة لتدخين التبغ، بعد أن جعلت التحرر من إدمان التدخين أحد شروط التوظيف في صفوف المنظمة الدولية للمرة الأولى.
ونتيجة لذلك، وبحلول الوقت الذي وقع فيه الحدث الثاني وهو ذلك الوباء التنفسي الذي تفشى في الصين نهاية عام 2002، وعرفه العالم لاحقا باسم متلازمة الالتهاب التنفسي الحاد، سارس، كانت منظمة الصحة العالمية مستعدة لقيادة الاستجابة الصحية للعالم بشكل غير مسبوق، ورغم أن الصين تأخرت كعادتها في الإبلاغ عن المعلومات الدقيقة حول تفشي الوباء داخل حدودها، لم تكن المنظمة تحتاج إلى المعلومات الصينية على كل حال، حيث كانت تمتلك مصادرها الخاصة داخل النظام الطبي الصيني، وكانت تراقب عن كثب المعلومات المتداولة حول الوباء على المواقع المتخصصة للأطباء الصينيين وحتى في وسائل الإعلام المحلية في الولايات، وبالإضافة إلى هذه المعلومات، تلقى مسؤولو المنظمة في وقت لاحق بريدا إلكترونيا من نجل موظف سابق للمنظمة في الصين يُحذِّر فيه من مرض معدٍ غريب تتكتّم عليه السلطات تسبّب في مقتل أكثر من 100 شخص، وفي تلك اللحظة اتخذت المنظمة خطوة قوية للأمام وواجهت السلطات الصينية بالمعلومات التي تمتلكها وأجبرتها على إصدار تقرير رسمي حول المرض خلال أيام قليلة من انتشاره.
وعلى الرغم من أن منظمة الصحة العالمية لم يكن لديها سلطة رسمية لمعاقبة أعضائها، لم تخجل برونتلاند من القيام بذلك على أي حال، حيث اتهمت الصين في أكثر من مناسبة بحجب المعلومات عمدا عن المنظمة، مؤكدة أن الوباء من الممكن أن يتم احتواؤه بشكل أبكر إذا تم إطلاع المنظمة على التطورات كافة، وهو ما وضع ضغوطا على الصين لمشاركة المعلومات التي تمتلكها أولا بأول، وبحلول مارس/آذار 2003، حين بدأ المرض في الانتشار إلى هونغ كونغ وفيتنام ولاحقا إلى كندا، أصدرت (8) منظمة الصحة العالمية للمرة الأولى في تاريخها توصية بحظر السفر إلى المناطق المتضررة، ورغم أنها لم تكن تمتلك سلطة فعلية لفرض الحظر فإن دعوات الصحة العالمية آتت أُكلها سريعا، حيث انخفض عدد الرحلات الجوية والركاب بمجرد إصدار المنظمة لتوصياتها.
واليوم، يتم اعتبار استجابة منظمة الصحة العالمية لوباء سارس تجربة نجاح كبيرة وتاريخية، حيث توفي أقل من ألف شخص في جميع أنحاء العالم بسبب المرض رغم انتشاره في 26 دولة، ورغم عدم ظهور لقاح له حتى الآن، حيث كانت الإجراءات غير الدوائية التي اقترحتها المنظمة مثل الحظر المبكر للسفر وتتبع وعزل الحالات المصابة وعملية جمع المعلومات الضخمة من بلدان متعددة كافية لإنجاح جهود احتواء الوباء، ومع هذا النجاح الكبير للمنظمة سارعت دول العالم للمطالبة بتقنين الدور الذي لعبته الصحة العالمية خلال أزمة سارس، حيث تم تحديث اللوائح الصحية الدولية لمنح المنظمة الدولية الصلاحيات اللازمة لجمع المعلومات حول انتشار الأوبئة وقيادة الاستجابة الدولية لها وإصدار التوصيات اللازمة حول السفر والحركة وإعلان حالة الطوارئ الصحية، لكن الوثيقة فشلت في إعطاء المنظمة السلطة الحقيقية لإجبار الدول على الامتثال لقراراتها، حيث خشيت دول مثل روسيا والهند والصين وحتى البرازيل من أن يتم استخدام نشاط المنظمة كذريعة من قِبل الولايات المتحدة والدول الغربية للتدخل في شؤونها.
ولكن مع رحيل برونتلاند عن قيادة المنظمة في وقت لاحق، تراجع حضور الصحة العالمية على الساحة العالمية، وواجهت إدانات متعددة من الصحافة والمجتمع بسبب القصور في معالجتها للأزمات الصحية خلال العقد التالي، وظهر هذا القصور بشكل واضح خلال أزمة تفشي وباء إنفلونزا الخنازير في مارس/آذار من عام 2009 انطلاقا من المكسيك، حيث بدا أن قدرة المنظمة على تنسيق استجابة عالمية للوباء أقل بكثير مما كان عليه الحال أثناء أزمة سارس، وفي حين أن المنظمة أعلنت -بحلول شهر يونيو/حزيران من العام نفسه- عن تحول إنفلونزا الخنازير إلى وباء عالمي، في وقت كان المرض قد أصاب فيه 28 ألف شخص في 74 دولة، فإن قرارات المنظمة تعرضت لتدقيق كبير بعد الإعلان عن نهاية الوباء رسميا نهاية عام 2010 مسفرا عن قرابة 18 ألف حالة وفاة في 200 دولة، وفي هذه المرة اتُّهِمت المنظمة (9) بالمسؤولية عن موجة هلع عالمي لم تكن في محلها، وتكليف الاقتصاد العالمي نفقات ضخمة غير ضرورية بسبب مبالغتها في تقدير الخطر.
اعلان
تزايدت حِدّة الانتقادات الموجهة للمنظمة مع تفشي فيروس الإيبولا في غرب أفريقيا عام 2014، وفي هذه المرة يبدو أن الاتهامات الموجهة للمنظمة بالتسرع في إدارة أزمة إنفلونزا الخنازير جعلتها تتباطأ أكثر من اللازم في التحذير من الوباء مما أدى إلى خروجه عن السيطرة، إلى درجة أن الولايات المتحدة والعديد من الدول الأخرى اضطرت إلى نشر 5000 عسكري استجابة لطلب البلدان المتضررة، كما تم إنشاء لجنة تابعة للأمم المتحدة لتولي المسؤولية عن الوباء بدلا من منظمة الصحة العالمية، ومع ذلك، تسبّب الوباء في مقتل أكثر من 11 ألف شخص في غينيا وليبيريا وسيراليون، ووُصِف أداء منظمة الصحة العالمية خلال الأزمة لاحقا بأنه كارثي ومشوب بالفساد (10)، خاصة بعد أن أظهرت وثائق مسربة في وقت لاحق أن المنظمة تأخرت في إعلان الطوارئ مخافة أن يُنظر إلى قرارها كعمل عدائي من قِبل الحكومات في غينيا بيساو وساحل العاج ومالي، واستجابة لضغوط حكومات هذه الدول التي لم تكن راغبة في تحمل التداعيات الاقتصادية للوباء، وخاصة مع الإغلاق المحتمل لصناعة التعدين التي تُعَدُّ مصدرا رئيسيا للدخل في هذه البلدان.
وعلى ما يبدو، وضعت أزمة وباء إيبولا المسمار الأخير في نعش منظمة الصحة العالمية كجهة دولية موثوقة، وبدّدت بشكل كلي رأسمال المنظمة الرمزي الذي راكمته بعد استجابتها الفعالة لوباء سارس، وفي الوقت الذي تواجه في المنظمة، تحت رئاسة الإثيوبي تيدروس، ما يمكن أن تكون الجائحة الأكبر في تاريخها فإن مستقبلها يبدو مجهولا، خاصة في ظل الضغط العلني وغير المسبوق الذي تتعرض له المنظمة من قِبل الولايات المتحدة، وتحول المنظمة إلى موضوع للاستقطاب الدولي بدلا من أن تكون الجهة التي تحظى بثقة الجميع في خضم الأزمة.
المال يحكم
يتسبّب هذا الاستقطاب الدائر حول طبيعة دور منظمة الصحة العالمية اليوم، ومدى تأثير السياسة على قراراتها الفنية والصحية، في إحياء الجدل القديم حول السياق التاريخي الذي تأسّست فيه المنظمة ودور الأموال والجهات المانحة في التحكم في توجّهاتها، فرغم أن المنظمة التي يقع مقرها الرئيسي في جنيف (سويسرا)، وتمتلك 6 مكاتب إقليمية و150 مكتبا قطريا في جميع أنحاء العالم، قد أُنشِئت نهاية الأربعينيات لتقديم المشورة في مجال الصحة العامة، واجهت المنظمة اتهامات تاريخية بالعمل كأداة (11) للنظام الاستعماري الغربي ووضع مهامها الصحية في المرتبة الثانية بعد مصالح مموليها الغربيين.
تكتسب هذه الاتهامات أهمية خاصة بالنظر إلى الطريقة التي يتم بها تمويل أنشطة المنظمة، حيث تعتمد موازنة الصحة العالمية على مزيج من التمويل المُقدّر (يُشكِّل 20% فقط من إجمالي موازنة المنظمة) من الدول الأعضاء، والذي يعتمد على عدد سكان كل دولة وحجم ناتجها المحلي الإجمالي، إضافة إلى التمويل الطوعي الذي يُشكِّل 80% من مصادر دخل المنظمة، ويكون معظمه من الأموال المشروطة التي تُحدِّد الجهات المانحة آلية صرفها في أوجه نشاط معينة، وتمارس في مقابلها ضغوطا على المنظمة للتغاضي على أنشطة معينة، مثل الضغوط التي مارستها شركات المشروبات السكرية الأميركية على المنظمة للتراجع عن حملتها التي تربط بين استهلاك السكر وبين وباء السمنة العالمي ومرض السكري.
وفي ضوء هذا الارتباط الوثيق بين المنظمة وبين هياكل السلطة والمال حول العالم، تتسابق الكثير من الدول لاستغلال نفوذها للتحكم في هوية مَن يشغل منصب رئيس المنظمة العالمية، لذا فإن عملية اختيار مدير المنظمة غالبا ما تتحوّل إلى معركة شرسة تستعرض فيها الدول عضلاتها وقدرتها على صناعة التحالفات لتعبيد طريق الشخص الذي تدعمه إلى المنصب، وقد ظهر بشكل واضح أثناء عملية اختيار مدير المنظمة في عام 2006، فمع إدراك الصين لحقيقة النفوذ الذي باتت المنظمة تتمتع به عقب أزمة سارس، فإن بكين استخدمت (12) كل أوراق نفوذها لتمرير تعيين الطبيبة الكندية ذات الأصول الصينية مارغريت تشان كمديرة للمنظمة، قبل أن تقوم الصين في وقت لاحق بزيادة حصتها الطوعية في تمويل الصحة العالمية وتكثيف نشاطها الدبلوماسي في مجال الرعاية الصحية خاصة في أفريقيا تزامنا مع إطلاق مبادرة الحزام والطريق بشكل فعلي في عام 2015.
ومنذ ذلك الحين، من الواضح أن بكين نجحت في تحويل بوصلة (13) منظمة الصحة العالمية من الولاء المطلق للغرب إلى الولاء للصين، وهو ما تم تأكيده مع انتخاب الإثيوبي تيدروس غيبريسوس لرئاسة المنظمة في عام 2017، ولكن أزمة كورونا الأخيرة سلّطت الضوء على مخاطر الاختراق الصيني للمنظمة المسؤولة عن الاستجابة الصحية العالمية ضد الأوبئة والأضرار الكارثية الناجمة عن وضع مصير العالم في يد نظام قمعي منعدم الشفافية مثل بكين، وهو ما دفع العالم لطرح ملف التأثير السياسي على منظمة الصحة العالمية على الطاولة مجددا.
ومرة أخرى كانت ورقة المال حاضرة، ولكن هذه المرة في صورة التهديدات الأميركية المتتالية بقطع التمويل عن المنظمة، تهديدات تحوّلت إلى حقيقة مع قيام إدارة “ترامب” بتعليق مساهمتها السنوية المُقدَّرة بـ123 مليون دولار في ميزانية المنظمة، وهو ما يضع ضغوطا إضافية على مؤسسة تعاني بالفعل من نقص دائم في التمويل، مع ميزانية لا تتجاوز ميزانية مستشفى كبير في أوروبا أو الولايات المتحدة، لكن الاستجابة الأميركية قد تُثبت أنها قصيرة النظر وتدفع المنظمة الدولية للرهان بشكل أكبر على دعم بكين، التي تُقدِّم 86 مليون دولار للمنظمة سنويا، بوصفها بديلا أكثر أمانا من الأميركيين، ولكن حتى لو نجحت الصحة العالمية في تأمين الدعم المالي المفقود من بكين، أو تمكّنت حتى من إثناء الولايات المتحدة عن قرارها بتعليق الدعم، تبقى الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها هي أن مصداقية المنظمة الدولية قد تضرّرت خلال الأزمة الحالية بشكل لا يمكن إصلاحه قريبا، وأن المال وحده لن يفعل شيئا لتغيير ذلك.
مرفت عوف
الجزيرة