بالتزامن مع انشغال الدول الكبرى بأزمة كورونا، قامت الصين بتوسيع نفوذها في منطقة بحر الصين الجنوبي، لتعزيز سيادتها في المنطقة الاقتصادية الخالصة، وسط نزاع وتوتر بين المارد الصيني ودول خمس أخرى مطلة على البحر، وهي فيتنام، والفيليبين، وتايوان، وماليزيا وسلطنة بروناي.
ومن حين لآخر، تتعمد الصين استفزاز الجيران الخمسة، كما فعلت أخيراً بإسقاط قارب فيتنامي ووضع علامة على سفينة ماليزية تستكشف المنطقة، وذلك لبسط سيطرتها على الممر المائي العالمي، وأيضاً لأهميته الاستكشافية، إذ يوصف بالكنز البيولوجي المتنوع، لما يحويه من الشعاب المرجانية ووفرة النفط والغاز الطبيعي، وهو ما استدعى تدخل الولايات المتحدة بعتاد بحري ضخم، لكبح جماح بكين والحدّ من أطماعها في المنطقة.
الموقع وسبب النزاع
يقع بحر الصين الجنوبي في غرب المحيط الهادي بين منطقة جنوب شرق آسيا، وتايلاند، والفيليبين، وبورنيو، ويرتبط ببحر شرق الصين عبر مضيق تايوان. كما يعد هذا البحر الأكبر في العالم بعد المحيطات الخمسة، حيث تغطي مساحته أكثر من 3 ملايين كيلومتر مربع، ويمتد من مضيق ملقا في الجنوب الغربي إلى مضيق تايوان في الشمال الشرقي، ويعيش أكثر من 500 مليون شخص في الصين وتايوان والفيليبين وماليزيا وبروناي وإندونيسيا وسنغافورة وكمبوديا وتايلاند وفيتنام على بعد100 ميل من ساحله.
بالإضافة إلى ما سبق، تقول صحيفة “إس سي إم بي”، إنه يوجد أكثر من 30 في المئة من الشعاب المرجانية حول العالم في هذا البحر، بخلاف العديد من مصائد الأسماك القيمة، كواحد من أهم مصادر الغذاء للملايين، بوجود نحو 12 في المئة من الأسماك التي يتم اصطيادها في العالم، ناهيك بالوفرة الهائلة في النفط والغاز الطبيعي، وسط توقعات بوجود احتياطات هائلة من الموارد الطبيعية تحت مياه البحر.
ووفقاً لتوقعات إدارة معلومات الطاقة الأميركية، فإن منطقة بحر الصين الجنوبي تحتوي على ما لا يقل عن 11 مليار برميل من النفط و19 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي، وتشير تقديرات مرتفعة أخرى إلى 22 مليار برميل من النفط و290 تريليون قدم مكعب من الغاز.
تاريخ النزاع
تتنازع الدول المطلة على البحر منذ قرون، وتعود أسباب الخلافات حول السيادة على مياه البحر وجزر باراسيل وسبراتلي، وهما سلسلتان من الجزر تدَّعي عدد من الدول السيادة عليها، وتعدّ الادعاءات الصينية الأكبر والأكثر طمعاً، بوضع يديها على منطقة تطلق عليها اسم “خط الخطوط التسعة” الممتد لمئات الأميال جنوبي وشرقي جزيرة هاينان الواقعة أقصى جنوب الصين، وذلك بزعم أنها تملك حقوق هذه المناطق منذ قرون عدة، عندما كانت جزءاً لا يتجزأ من الأمة الصينية، ودعمت موقفها بنشر خريطة تفصيلية عام 1947، لتبين أن السلسلتين تقعان ضمن حدودها بالكامل.
وتطالب بكين بأكثر من 80 في المئة من المنطقة، فيما تدعي فيتنام سيادتها على نفس الجزيرتين، أما الفيليبين، فتريد ملكية أرخبيل سبراتلي وسكاربورو شوال، في حين تطالب بروناي وماليزيا بالسيادة على الأجزاء الجنوبية من البحر وبعض جزر سبراتلي.
وبالنسبة إلى تايوان، التي تعتبرها الصين إقليماً متمرداً وسيعود يوماً ما إلى كنف الوطن، تستدل هي الأخرى على ملكيتها بالأدلة، بينما فيتنام تناقض بشدة الرواية الصينية التاريخية، وتقول إن الصين لم تدع أبداً سيادتها على الجزر قبل عام 1940، وأن فيتنام قد حكمت سلسلتي باراسيل وسبراتلي فعلياً منذ القرن السابع عشر، وذلك استناداً إلى وثائق لديها، كما أوردت صحيفة “جنوب الصين” الصباحية نقلاً عن قناة “بي بي سي”، بعد مطالبة فيتنام، بالجزيرة التي احتلتها الصين في أعقاب غزو عام 1974، الذي قتل فيه عشرات الفيتناميين.
تحركات مريبة
ألقت صحيفة “استريتس تايمز” الضوء على التحركات الصينية الأخيرة، على اعتبار أنها لم تأتِ في عزلة، بل بخطة ممنهجة لاستفزاز السيادة الإندونيسية، وحدث ذلك في فبراير (شباط) الماضي، بدخول سفن الصين إلى المنطقة الاقتصادية الخالصة في إندونيسيا قبالة ناتوناس، وذلك في خضم صراع أكبر بلد إسلامي في العالم مع (كوفيد-19)، الذي صدرته ووهان للعالم أواخر العام الماضي، والمثير للجدل أن الصين بررت هذا الإجراء، بأنه عملية صيد في مناطق تقليدية للصيادين، وبعدها احتجت هانوي على غرق قارب الصيد الفيتنامي من قبل خفر السواحل الصينية، لكن بكين اعتبرت ما وصفته بـ “الأفعال الخطيرة” للسفينة الفيتنامية سبب الحادث.
وفي نفس السياق، وبينما كان مضيق تايون مشغولاً في الربع الأول من العام، سارعت تايبيه مراراً وتكراراً إلى مواجهة المقاتلات الصينيات، التي تقوم بالتحليق في مجالها الجوي، وكانت البداية بتمارين الليلة الأولى، التي أجرتها 16 مارس الماضي بالقرب من الإقليم، باستخدام المقاتلات وطائرات المراقبة، وفي اليوم ذاته، صدم أحد الزوارق السريعة سفينة تابعة للبحرية التايوانية بالقرب من جزر كايمان، وحدث ذلك قبل الانتخابات الرئاسية، كرسالة بأن القوة العظمى الإقليمية لن تتوقف عن متابعة مصالحها، بغضّ النظر عن الانحرافات التي قد تظهر في طريقها.
الاستفزاز الصيني في زمن كورونا
رصد العديد من الصحف والمؤسسات الإعلامية، بعضاً من استفزازات الصين، بانتهاز فرصة تشتت العالم في الحرب على كورونا، لتعزيز مصالحها، بمزيد من التحركات في البحر الجنوبي تحت مسمى “الدفاع عن المطالبات الإقليمية”، بجانب ما يُسمى “دبلوماسية الفيروسات التاجية”، بحيث تُرسل الأقنعة ومعدات الحماية الشخصية في جميع أنحاء العالم، ولكن في الوقت نفسه، تستمر بفرض سيطرتها في بحر الصين الجنوبي.
على سبيل المثال لا الحصر، ذكرت صحيفة “تايمز” الهندية، أنه في الوقت الذي يركّز فيه العالم لمنع انتشار الوباء المستجد، تقوم الصين بتكثيف أنشطتها العدوانية لاغتصاب بحر الصين الجنوبي بأكمله، ضاربة المثل بحادثة غرق القارب الفيتنامي وطاقمه المكون من ثمانية أشخاص في الثالث من أبريل الماضي. وفي السياق ذاته، أفادت الإذاعة الوطنية بواشنطن، بأن سفينة خفر سواحل صينية قد صدمت سفينة صيد فيتنامية الأسبوع الماضي، بالتزامن مع دخول سفينة مسح صينية للمياه الماليزية بشكل غير قانوني.
وفي عطلة نهاية الأسبوع الماضي، ما زالت الصين تواصل تنفيذ جزر اصطناعية ذات مرافق عسكرية في المنطقة، ما يراه مدير مبادرة الشفافية البحرية الآسيوية في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن، جريجوري بولينج، حصيلة الخطة الطويلة الأمد، التي تعمل على تنفيذها منذ بناء أول جزيرة اصطناعية قبل سنوات، تأييداً لوجهة نظر البروفيسور كولين كوه، الذي يقول إن “الصين تستخدم بشكل جذري الوضع الحالي لضمان أن ما تفعله الآن لن يواجه معارضة تذكر من الدول المطالبة الأخرى في جنوب بحر الصين”.
صراع النفوذ بين الصين وأميركا
أشارت صحيفة “آسيا تايمز” في وقت سابق، إلى أنه مع احتواء كورونا في الصين، والعكس في أميركا، لم تفوّت بكين الفرصة، بإجراء تدريبات عسكرية مع نشر أصول عسكرية واسعة النطاق في المنطقة البحرية المتنازع عليها، ولم تكتفِ بذلك، بل احتفلت بشكل رسمي بأولى الخطوات التي تم إحرازها في استغلال موارد الطاقة المتنازع عليها في البحر الغني بالوقود الأحفوري.
وعلى سيرة المياه المتنازع عليها في البحر، أوردت صحيفة “نيويورك تايمز”، أن سفناً بحرية أميركية أبحرت في هذه المنطقة، مما قد يضاعف المواجهة في الممر المائي وشحذ التنافس بينهما، حتى مع الإغلاق العالمي بسبب جائحة (كوفيد-19)، بالإضافة إلى ذلك، شاركت ثلاث سفن حربية أميركية وفرقاطة أسترالية في تدريب مشترك في بحر الصين الجنوبي هذا الأسبوع، وليس بعيداً من المكان، الذي تقوم فيه سفينة الأبحاث الصينية بمسح غير قانوني في المياه الماليزية.
وتزامناً مع تصاعد التوتر بين واشنطن وبكين، اتهم وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، الصين باستغلال التركيز على الوباء العالمي بغية “التنمر” على جيرانها في بحر الصين الجنوبي، وتبعه بيان للبحرية الأميركية، لتأكيد وجود قوات الولايات المتحدة في البحر الجنوبي. في المقابل، رأت بكين أن العملية الأميركية تسببت بالمزيد من التوترات في المنطقة وعرقلت في الوقت نفسه المعركة العالمية ضد الوباء.
وبلغت الإثارة ذروتها بعد بيان المتحدث باسم قيادة المسرح الجنوبي لجيش التحرير الشعبي هوامين، الذي دعا خلاله الولايات المتحدة للتركيز على الإسهامات في الحرب على الفيروس، بدلاً عن العمليات العسكرية التي تضرّ بالأمن والسلام والاستقرار الإقليمي. بعدها مباشرة أعلنت الصين طرد سفينة تابعة للبحرية الأميركية. فيما نفى المتحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية، يوم الجمعة الماضي، تأثير القوات الصينية على تحركات السفن الأميركية خلال “عمليتين ناجحتين لحرية الملاحة” في وقت سابق من الأسبوع، بما في ذلك واحدة شملت المدمرة الصاروخية الموجهة “يو إس إس باري”.
سيناريوهات مستقبلية
أعطى وزير الخارجية الماليزي، هشام الدين حسين، مؤشرات إلى احتمال تدهور الأوضاع في المنطقة مستقبلياً، وذلك في خضم المواجهات المستمرة بين السفن الصينية والماليزية، مؤكداً أن وجود سفن حربية وبواخر في بحر الصين الجنوبي، لا ينذر إلا بزيادة التوتر، والذي قد يؤدي بدوره إلى حسابات خاطئة قد تؤثر على السلام والأمن والاستقرار في المنطقة، تماماً كما أعربت وزارة الخارجية الفيليبينية الشهر الماضي، عن بالغ قلقها إزاء إصابة سفينة خفر السواحل الصينية بضرب وإغراق سفينة صيد فيتنامية في بحر الصين الجنوبي.
وبإصرار الصين على نفوذها في المنطقة، توقع الخبير كارل ثاير، أن يتحوّل بحر الصين الجنوبي إلى بحيرة صينية، وذلك بعد غياب الرئيس دونالد ترمب عن ثلاث قمم متتالية مع قادة الآسيان، وهذا بحسب اعتقاده “يقلل من مصداقية الولايات المتحدة”، والعكس بالنسبة إلى الصين، التي تمضي قدماً نحو تحقيق هدفها، مع استمرار ما وصفه “اللامبالاة السياسية لإدارة الرئيس الأميركي”.
والأسوأ من ذلك، ما أشارت إليه صحيفة “اكسبريس”، بأن هناك مخاوف لإثارة الحرب العالمية الثالثة في جميع أنحاء العالم، لافتة إلى ظهور مخاوف الحرب من جديد، بعدما أعادت الصين سفينة مسح إلى المنطقة الاقتصادية الخالصة في فيتنام، لتوتر العلاقات بين البلدين، والسؤال الآن: هل ستنجح الصين في مخططها وتحكم سيطرتها على هذا الكنز؟ أم أن لأميركا والدول المطلة على البحر رأي آخر؟
محمد غروي
اندبندت عربي