بروز مشروع الطريق والحزام الصيني إلى الواجهة فتح أبواب النقاش حول الشراكات الأمنية لبكين، وكيف يمكن أن تدير هذا المشروع: هل ببناء تحالفات جديدة أم بالانضواء ضمن التحالفات القائمة كعنصر داعم؟ وإذا كان الأمر واضحا في آسيا الوسطى، حيث تحرص الصين على حماية مصالحها بنفسها، فإنها في الخليج ستضطر إلى التعامل مع المظلة الأميركية من جهة وبناء شبكة علاقات خاصة مع دول الخليج من جهة ثانية، وخاصة مع السعودية التي تضع على رأس شروطها موقفا صينيا واضحا من إيران.
لندن – تنوع دول الخليج في السنوات الأخيرة خياراتها الأمنية والعسكرية والاقتصادية حسب مصالحها، ولم تعد تقف عند الشراكة التقليدية مع الولايات المتحدة التي باتت تحت تأثير أزمة الرؤساء خاصة في فترتيْ باراك أوباما والرئيس الحالي دونالد ترامب. ولأجل ذلك عمدت السعودية، على سبيل المثال، إلى بناء شراكات متعددة مع الولايات المتحدة والصين وروسيا والهند ودول أوروبية مثل فرنسا، في توازن يراعي بالأساس مصالحها.
وتأتي الاتفاقيات الأمنية على رأس إستراتيجية التنوع في الشراكات خاصة في ضوء ارتباك أداء الإدارات الأميركية الأخيرة وتعاملها مع الشراكة التقليدية مع دول الخليج بخفة والقفز على عمقها التاريخي، لاسيما في فترة أوباما حين نحا إلى الانفتاح على إيران دون مراعاة مصالح السعودية، التي تضع كأول شرط في تفاهماتها الجديدة الموقف من إيران وأذرعها في المنطقة.
وتبقى الصين ودول الخليج على نفس الدرجة من الشك إزاء الأمن الإقليمي، حيث لا تستطيع أية دولة أن تتأكّد من مدى التزام الولايات المتحدة تجاه المنطقة. فقد اعتمدت الصين، مثل دول الخليج، منذ فترة طويلة على مظلة الدفاع الأميركية لضمان أمن تدفق الطاقة والسلع الأخرى عبر المياه المحيطة بالخليج في ما تصفه الولايات المتحدة بمشكلة الراكب الحر.
واستعدادا لليوم الذي تصبح فيه الصين قادرة على الاعتماد على الأمن الذي توفره الولايات المتحدة مجانا، عدّلت بكين إستراتيجيتها الدفاعية تدريجيا وبنت أول منشأة عسكرية أجنبية في جيبوتي لتطل على الخليج من القرن الأفريقي.
معايير جيوسياسية جديدة
مع تكليف بحرية جيش التحرير الشعبي بحماية خطوط الاتصالات البحرية في الصين ومصالحها في الخارج، أشار المخططون الإستراتيجيون إلى أن منشأة جيبوتي تعدّ الخطوة الأولى في إنشاء قواعد أخرى من المحتمل أن تسمح لها بإظهار قدراتها واختصار الوقت اللازم لإعادة إمداد القوّات.
لكن المخططين الإستراتيجيين الصينيين ونظراءهم الخليجيين يختلفون عندما يتعلق الأمر بالمعايير الجيوسياسية لهيكل الأمن الإقليمي المتجدد. فمن المرجح أن تتضمن المعايير الجديدة مظلة الدفاع الأميركية المصممة في المقام الأول لحماية دول الخليج من إيران ومكافحة المتشددين.
وعلى عكس الصين وروسيا، تفضل دول الخليج تحديد إيران على أنها العدو عندما تدرس أمن المنطقة. ولكنها تحتاج إلى الولايات المتحدة لتكون شريكا موثوقا به يمكن الاعتماد عليه دون شروط.
وتبذل الصين، من جانبها، جهودا كبيرة لتجنب الوقوع في الصراعات العديدة في الشرق الأوسط، فباعتماد نهج مختلف، طرحت روسيا خطة لهيكل أمني متعدد الأطراف يقوم على معاهدات تشمل إيران.
وعلى عكس روسيا، تريد الصين تأجيل التدخل في أمن الخليج إلى أن يصبح ذلك خيارها الوحيد. ومع ذلك، يمكن أن تجد بكين نفسها تحت الضغط عاجلا وليس آجلا، ويعتمد ذلك على كيفية تطور تصورات الخليج للمخاطر مع اعتمادها المستمر على الولايات المتحدة. ويكمن أحد العوامل التي يمكن أن تدفع التطورات نحو اتجاه آخر في تغير هويّة المقيم في البيت الأبيض بعد ظهور نتائج الانتخابات الأميركية المقرر إجراؤها في نوفمبر.
وإذا فاز المرشح الديمقراطي جو بايدن، فإنه يمكن أن يميل إلى استعادة دور أوسع لبلاده في المناطق الإستراتيجية أكثر من الرئيس الحالي دونالد ترامب، على الرغم من أن علاقات إدارة بايدن مع السعودية قد تكون أكثر توتّرا. ومثل ترامب، من المرجح أن يكون تركيز بايدن موجها نحو الصين أكثر من الشرق الأوسط. وبذلك، قد يتغير تقييم الصين لقدرتها على الاعتماد على الولايات المتحدة في الخليج حسب طبيعة التوترات مع البلاد، والفصل المحتمل بين أكبر اقتصادين في العالم.
قد يكون انخراط الصين الأمني المتزايد في آسيا الوسطى مؤشرا على كيفية رغبتها في المضي قدما في منطقة الخليج والشرق الأوسط الأوسع، حيث كثفت المناورات العسكرية المشتركة مع دول آسيا الوسطى المختلفة بينما زادت حصتها من سوق الأسلحة في هذه المنطقة من 1.5 في المئة في سنة 2014 إلى 18 في المئة اليوم. وبعد أن تأسست في سنة 2001 كمجموعة أمنية في آسيا الوسطى، وسّعت منظمة شنغهاي للتعاون علاقاتها في جنوب آسيا والقوقاز، ومنحت إيران صفة “مراقب”.
وفي إشارة إلى البنية التحتية وسوق الاتصالات ومبادرة الحزام والطريق التي تعتمد على الطاقة وتسعى لربط المنطقة الأوراسية بالصين، أكّد الباحث في “المعهد الملكي للخدمات المتحدة”، رافايلو بانتوتشي، أن “الصين توسّع دورها الأمني في آسيا الوسطى لحماية مصالحها في المنطقة وهي غير مستعدة لتحويل مسؤولية الحفاظ على الأمن في تلك الدول أو إلى روسيا”.
وكتب بانتوتشي أن بكين تُظهر من خلال ذلك أنها تتّبع نهجا يمكن قراءته كمخطط لكيفية عملها على تطوير علاقاتها الأمنية مع الدول التي تشملها مبادرة الحزام والطريق.
من جهته يشير جيمس دورسي، المحلل السياسي والخبير في قضايا الشرق الأوسط، إلى أن آسيا الوسطى قد تجد سهولة أكبر في التأقلم مع النهج الصيني مقارنة بدول الخليج، وأن المشكلة تكمن بالنسبة إلى معظم هذه الدول في أن أخذ المخاوف الصينية والروسية بعين الاعتبار في أي ترتيب أمني جديد سيتطلب تحوّلا في مواقفها تجاه إيران.
وتصر السعودية على أن أي انفراج حقيقي يجب أن ينطوي على وقف الدعم الإيراني للوكلاء في مختلف دول الشرق الأوسط (الحوثيون في اليمن، حزب الله في لبنان والميليشيات في العراق..)، بالإضافة إلى العودة إلى اتفاقية إعادة التفاوض التي من شأنها أن تحد من البرنامج النووي الذي تتبعه طهران وتطويرها للصواريخ البالستية.
وبين عدم الوثوق التام في مدى التزام الجانب الأميركي ومقتضيات الاتفاقيات الصينية والروسية، تعمل دول خليجية على التواصل بحذر مع إيران بطرق مختلفة. وتأمل في أن تبتعد عن مرمى النيران إذا أججت إيران أو الولايات المتحدة التوترات أو أثارت مواجهة عسكرية أوسع (صدفة أو عمدا).
من المؤكد أن دول الخليج لها حسابات مختلفة، حيث تبنت السعودية والبحرين أكثر المواقف تشددا تجاه إيران، بينما حافظت عمان وقطر على علاقات طبيعية منذ فترة طويلة، في حين قدمت الإمارات والكويت مبادرات محدودة. وعلى المدى القصير، يمكن لإقناع دول الخليج بمعايير الصين وروسيا أن يدفعها إلى الحفاظ على مستويات إنفاقها على الأسلحة، وإلى مواصلة تطوير صناعة الدفاع المحلية، على الرغم من تداعيات الوباء الاقتصادية، وانخفاض أسعار النفط والغاز، وتقلص أسواق الطاقة.
سباق تسلح
من جهة أخرى، كشفت إيران لأول مرة عن غواصة جديدة، يتوقع خبراء في مجال الأسلحة أنها مسيّرة وغير مأهولة بطاقم بحري. وقد تمثل وسيلة جديدة لبحرية الحرس الثوري من أجل استعراض قوة أكبر في المنطقة. وستكون الغواصة قابلة لدمج أسلحة جديدة بها، وقد يمكن استخدامها لزرع الألغام في قاع البحر.
وتجدر الإشارة إلى أن عدد الدول التي تعتمد على غواصات مثل تلك التي أعلنت عنها إيران لا يتجاوز ثلاثا هي الولايات المتحدة وبريطانيا والصين. وتبدو طهران مصرة على تطوير نفسها في هذا المجال، وهو ما برز في أبريل عندما أطلقت قمرا صناعيا عسكريا، وهي قدرة لا تمتلكها إلا 12 دولة فقط.
ويشير دورسي إلى أن تقدم إيران يخدم غرضين، فهو يسلط الضوء على فشل حملة الضغط القصوى التي فرضتها الولايات المتحدة على مدى سنتين لتكبيل الاقتصاد الإيراني. وإلى جانب مبيعات الأسلحة الأميركية الضخمة إلى دول الخليج، فإن إيران تغذي سباق التسلح الإقليمي.
وتستفيد روسيا والصين من السباق بدرجة محدودة أيضا. ومع ذلك، يمكن أن يساهم السباق في زيادة التوترات التي قد تنتهي بدقّ مسمار آخر في نعش هيمنة الولايات المتحدة على المنطقة. وقد يجبر هذا بدوره القوى الخارجية مثل الصين على التدخل سواء أرادت ذلك أم لا.
ويستنتج الصحافي الإسرائيلي ديفيد روزنبرغ أن “الصين تتعلم بسرعة أنه لا يمكنك أن تتاجر وتستثمر في مكان غير مستقر مثل الشرق الأوسط إذا لم تكن لديك الوسائل اللازمة لحماية مصالحك في المنطقة”.
العرب