د. معمر فيصل خولي
تحل علينا في هذا اليوم الذكرى السنوية لحرب حزيران عام 1967م، ففي القاموس السياسي العربي يطلق عليها “النكسة”، أما القاموس السياسي “الإسرائيلي” ابتكر لها موشي ديان تسمية “حرب الأيام الستة” وهو إيحاء مقصود لأيام الخلق الستة في سفر التكوين.
على الجانب العربي كانت نتائج الحرب على الأمة العربية وخاصة ما اصطلح عليه بدول الطوق “مصر وسوريا والأردن ولبنان وفلسطين” وخيمة جدًا على المستوى العسكري والسياسي والاقتصادي والإجتماعي والمعنوي.
فقد احتلت الضفة الغربية وقطاع غزة وسيناء والجولان، وهُجر عشرات الآلاف من الفلسطينيين من الضفّة، وهرب مواطني محافظة القنيطرة السورية، وإخلاء مدن قناة السويس المصرية، وفصل الضفة الغربية بما في ذلك مدينة القدس، عن السيادة الأردنية، ومحو قرى بأكملها، وفتح باب الاستيطان في القدس الشرقية والضفة الغربية. وانهيار الاقتصاد العربي، وتوقف التنمية، وانخفاض الاستثمارات المالية والعربية والأجنبية، وشيوع حالة من اليأس والإحباط وخيبة الأمل لدى الدول العربية بصورة عامة، ودول المواجهة أو الكوق بصورة خاصة.
بالنسبة للإسرائيليين كانت حرب 1967م نصرًا تحقق بسرعة مذهلة، وأصبحت “إسرائيل” مهيمنة على ” إسرائيل التوراتية”، وقد سيطرت النشوة “القومية” والدينية على سلوك وتصريحات ” الإسرائيليون”، ففي اليوم الثالث للحرب وبعد احتلال إسرائيل لمدينة القدس، طار موشي ديان وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك” سيكلوب السياسة الإسرائيلية الغامض”، وهو أكثر قادة الإسرائيليين حبًا للإستعراض، بالمروحية إلى القدس وقدم عرضًا بأسلوب الجنرال اللنبي؛ القائد البريطاني الذي انتزع القدس من الدولة العثمانية في عام 1917م. أعلن ديان ” لقد عدنا إلى أكثر أماكننا قدسية. عدنا ولن نغادرها ثانية”.
أما شلومو جورين كبير الحاخامات في الجيش الإسرائيلي، نصح قائده أوزي ناركيس بأن اللحظة التاريخية كانت مناسبة لتفجير قبة الصخرة قائلًا:” افعل هذا الآن وسيخلد اسمك في التاريخ. غدا يكون الأوان قد فات”. رفض ناركيس هذا الاقتراح المجنون بل إنه هدد الحاخام بالاعتقال. وكان الشاعر الإسرائيلي ناتان الترمان دقيقًا في تصريحه “الشعب سكران من الفرحة” ونشرت صورة جندي إسرائيلي يبكي عند حائط البراق في كل أنحاء العالم وبدت وكأنها تعبر – في عبون الإسرائليين – عن المضمون المركب الجديد للدولة والمقدس، للعسكرية والتوراتية. وقد وصف الصحفي الإسرائيلي جابريل تزيفروني احتلال القدس بلغة نادرًا ما تستعمل في التقارير الصحفية: ” جاء المسيح المخلص إلى أورشليم أمس، كان متعبًا وشائبًا وكان يركب على دبابة”.
هذه النتائج في سياق الحرب في قد تكون مفهومة لكن المذهل في الأمر أن اسرائيل التي حققت ذلك النصر على العرب كانت تعيش قبيل الحرب حالة من القلق والاضطراب نتيجة سلوك جمال عبدالناصر الرئيس المصري آنذاك، الذي يوشي بقيام حرب ضد إسرائيل. ففي 16 أيار/ مايو 1967م طلب جمال عبدالناصر من الأمم المتحدة نقل قواتها من سيناء وكانت قد حافظت على السلام منذ العدوان الثلاثي في تشرين الأول/أكتوبر 1956م، ولما لم يستطع يو ثانت الأمين العام للأمم المتحدة حينذاك إقناع عبدالناصر لإبقاء القوات، اضطر للرضوخ وبدون استشارة مجلس الأمن. وحالما غادرت القوات الدولية أرسل عبدالناصر قواته المسلحة للتمركز على حدود فلسطين المحتلة.
في 22 أيار/ مايو ، أغلق عبدالناضر مضيق تيران أمام الملاحة الإسرائيلية مما منع وصول إسرائيل إلى البحر الأحمر. ومنذ عام 1957م قال الإسرائيليون بأن مثل هذا الإجراء سوف يعتبر بمثابة إعلان حرب.
في 30 أيار/ مايو، وقع جمال عبدالناصر معاهدة دفاع مع الملك حسين بن طلال بعد أن أعلن ” هدفنا الأساسي تدمير إسرائيل” وقال إن مصر والأردن وسوريا ولبنان ” متحشدة على حدود إسرائيل” وسوف تساندها العراق والجزائر والكويت والسودان . ” وكل الأمة العربية. سوف نذهل العالم.. لقد حانت الساعة”. كان ذلك النوع من الخطاب يأتي بعد أقل من عقدين على ما اصطلح عليه ” الهولوكست” والذي جعل مناحيم بيجن يسمي عبدالناصر ” هتلر العرب”.
والذي زاد من حالة القلق والاضطراب تلك، ماذكر في كتاب ” خفافيش فوق ديمونا” لمؤلفيه ارابيلا جينور وجدعون ريميتنز، كان الاتحاد السوفييتي يشعر بالقلق من القدرات النووية الإسرائيلية حتى أنه مستعدًا لفعل أي شيء للحض على إشعال الحرب لهزيمتها. في نفس الوقت، لم يكن الأمريكيون، الذي تلبستهم كارثة حرب فيتنام، على استعداد لتقديم أي عون. أبلغ ليندون جونسون رئيس الولايات المتحدة حينذاك أبا ايبان وزير خارجية إسرائيل بذلك. أما شارل ديغول رئيس جمهورية فرنسا حينذاك، الذي سبق أن زود إسرائيل بالميراج ومقاتلات ميستير وهما جوهر القوة الجوية الإسرائيلية، فقد رفض تقديم الدعم لها، محذرًا اشكول ضد القيام بهجوم استباقي. وهكذا شعرت إسرائيل بالعزلة.
لكن السؤال الذي يطرح في هذا السياق: لو كانت مجريات الحرب تصب في صالح الدول العربية وأن اسرائيل في طريقها للهزيمة وربما للزوال، هل كانت تلك الدول ستقبل بذلك؟
وبسبب تهديدات عبدالناصر و”العزلة الدولية”، عانى يتسحاق رابين رئيس هيئة أركان القوات المسلحة الإسرائيلية من انهيار العصبي، كان هناك خوف من أن تقصف مصر مفاعل ديمونا النووي. كان هناك خوف من هجمات مفاجئة على جبهتين أو ثلاث، ومن الغاز الكيماوي ومن الأسلحة الإشعاعية. وقد زاد القلق حينما ألقى ليفي أشكول خطابًا في 28 أيار/ مايو 1967م، بدا متلعثمًا ومشوشًا، حيث بث الذعر بدلًا من الطمأنينة. أما الحاخامات كانوا يهيئون النتزهات لتكون مقابر وقد حفروا آلاف القبور.
ومع هذا القلق والاضطراب، اختلفت القيادة السياسية والعسكرية في الأسلوب المتبع لمواجهة مصدر التهديد، فليفي أشكول رئيس الوزراء كان متحفظًا على الفرار بدء إسرائيل بالحرب وفضل اتباع الموقف الدفاعي بدلًا من الهجومي، أما القيادة العسكرية فالكثير من جنرالاتها كانوا لا يزالون يعتبرون 1948 م مهمة لم تستكمل.
وفي آخر المطاف، تغلب الموقف العسكري على السياسي، وخاضت إسرائيل هجومًا وقائيًا باعتباره الطريق الوحيد لإنهاء تهديد لا يطاق ولتقليل من حجم الخسائر! لكن نتائج الحرب جاءت عكس ذلك تمامًا، فقد حققت إسرائيل الكثير من المكاسب من تلك الحرب.
لعلي لا أبالغ أن قلت أن الحالة الإسرائيلية التي اتسمت بالاضطراب والقلق في تحديد موقفها من الحرب كانت أشد إيلامًا من نتائج الحرب نفسها!!، كيف لكيان خاض حرب هدفه الأساسي التقليل من حجم خسائره والحفاظ على وجوده، إذ به ينتصر على دول الطوق العربي!!، السؤال الذي يطرح في هذا السياق، لو أن الحالة الإسرائيلية قبل أو قبيل الحرب، كانت على النقيض من ذلك، بمعنى إنها كانت تمتلك درجة عالية من الثقة السياسية والعسكرية والاجتماعية والدينية، أين كانت ستصل الدبابة الإسرائيلية؟ !
نعم هي نكسة موجعة، انطلق قطارها العسكري في الخامس من حزيران عام 1967م، ليستكمل -فيما بعد- قطارها السياسي مجرياتها لتصل بنا إلى صفقة ترامب!