التظاهرات التي عادت إلى الشارع الشعبي في مختلف أنحاء لبنان نهاية الأسبوع الماضي كان مقدراً لها أن تستأنف شعارات انتفاضة 17 تشرين الأول 2019، التي طالبت بالإصلاح الجذري على مستوى السياسة والاقتصاد والاجتماع والمحاصصة الطائفية، وطرحت سلسلة أهداف في محاربة الفساد والإثراء غير المشروع وتدهور المعيشة وانحطاط الخدمات العامة وهبوط العملة الوطنية إلى مستويات غير مسبوقة قفزت بمؤشرات الغلاء إلى معدلات لا طاقة للسواد الأعظم من اللبنانيين على تحمّل عواقبها.
لكنّ ساعات قليلة من انفلات مشهد التظاهرات إلى مواجهات طائفية بين أحياء مسلمة وأخرى مسيحية، واندلاع مواجهات مذهبية بين بعض حشود الثنائي الشيعي حزب الله وأمل وجمهور السنّة، ذكّرت اللبنانيين بسنوات الحرب الأهلية على نحو مباشر، كما أعادت تنبيههم إلى مقدار الهشاشة في السلوك الغريزي الخطير والتدميري الذي يمكن أن تنزلق إليه جموع هائجة تحركها نوازع طائفية ومذهبية ولا تفلح في ضبطها قيادات حزبية منشغلة بالخلافات والتسويات.
وكأنّ تلك القيادات كانت بحاجة إلى صدمة مباشرة ومفزعة مثل هتاف «شيعة! شيعة!»، أو ذهاب الشحن المذهبي إلى درجة قصوى بالغة الخطورة مثل التعريض بشخوص دينية ذات رمزية مذهبية شديدة الحساسية، كي تستفيق فجأة على حقيقة انزلاق بعض الحشود إلى حافة إشعال الشرارة التي ستتكفل بانفجار الوضع إلى ما لا يحمد أحد عقباه. وصحيح أن غالبية هذه القيادات سارعت إلى تطويق التوتر وإصدار بيانات التهدئة والطمأنة واجترار الشعارات المألوفة حول الوحدة الوطنية واحترام المقدسات، ولكن البعض لم يذهب في هذا الإجراء إلى درجة إدانة أنصاره أو تجريم سلوكهم بصفة واضحة محددة، كما في بيان حزب الله الذي اكتفى بعبارة عامة حول رفض واستنكار ما صدر من إساءات وهتافات.
وإلى جانب ردّ اللبنانيين من أحلام المستقبل إلى كوابيس الحرب الأهلية، ثمة خطورة أخرى ثانية انطوت عليها صدامات «السبت الأسود» الماضي وتمثلت في محاولات غير بريئة، بعضها متعمد وممنهج ومنظم، لطمس شعارات الانتفاضة الشعبية ومطالبها تحت دخان الاحتقانات الطائفية والمذهبية تارة، أو تارة أخرى عن طريق افتعال المعارك حول حماية «سلاح المقاومة» في وجه المطالبين بضرورة أن يكون سلاح الدولة هو الوحيد الشرعي على الساحة اللبنانية. ولم يكن غريباً ولا جديداً أن تحمل الأصوات ذاتها المدافعة عن سلاح حزب الله لغة التهديد والوعيد وقطع الرؤوس عن أجساد دعاة السلاح الواحد.
خطورة ثالثة كانت إبعاد الأنظار عن العجز الفاضح الذي تتبدى عليه حكومة حسان دياب لجهة تقديم الحدود الدنيا من المعالجات الضرورية والحلول العاجلة للمشكلات المستعصية التي تواصل خنق اللبنانيين، خاصة بعد دخول «قانون قيصر» الأمريكي حيز التنفيذ بما يتركه من آثار سلبية على قطاعات اقتصادية واستثمارية ومصرفية وثيقة الارتباط بالنظام السوري. وهذه حكومة تغرق في أزمات لبنان الداخلية المختلفة، كما تصارع للتوصل إلى اتفاقيات مع المؤسسات المالية العالمية، ولكنها أيضاً تعاني من صراعات مكوناتها السياسية والحزبية رغم كل ما يُقال عن كونها حكومة اللون الواحد.
وليس أقل خطورة، أخيراً، ما كشفته وقائع «السبت الأسود» إياه من انقلاب الصحافي على زميلته الصحافية للأسباب ذاتها التي تعيد التذكير بفظائع ولاءات الماضي الطائفية والمذهبية.
القدس العربي