من المقرر أن ينعقد حوار عراقي ـ أمريكي في الخامس عشر من الشهر الجاري حزيران/ يونيو 2020. يزعم وزير الخارجية الأمريكي بومبيو في تصريح له في السابع من نيسان/ إبريل الماضي بأن الهدف منه (وضع جميع القضايا الاستراتيجية بين بلدينا على جدول الأعمال، بما في ذلك الوجود المستقبلي لقوات الولايات المتحدة في ذلك البلد، وأفضل السبل لدعم عراق مستقل وذي سيادة). ويضيف إلى ذلك، أن المخاوف تعتري حكومتي البلدين، من أن الاستقرار في العراق قد يتهدد، بسبب تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي في ظل هبوط أسعار النفط، وتفشي جائحة كورونا، ما يتطلب من الطرفين معا إيجاد وسيلة تحصين ناجعة، فما الأسس التي سوف يقام عليها هذا الحوار؟
يبدو أن التأسيس على حوار وليس نقاشا كان مقصودا منه إضفاء طابع المساواة في العلاقة بين بغداد وواشنطن. فالحوار يعني المساواة في المكانة الاعتبارية للطرفين المتحاورين، فيقود إلى تفاهم متبادل يوصل إلى الهدف المأمول، وهو صياغة أرضية مشتركة لعلاقات أكثر تناغما في جميع المجالات. في حين غالبا ما يُفهم من النقاش على أنه فرض رؤية طرف على آخر، لكن بغض النظر عن طبيعة اللغة الدبلوماسية، فإن الواقعية السياسية تشير إلى انعدام التكافؤ بين الطرفين، فليس جديدا القول إن الولايات المتحدة الامريكية هي فاعل في الساحة العراقية، وإن تأثيراتها المُعلنة والمخفية، واضحة في شتى مجالاته الاقتصادية والعسكرية والأمنية والسياسية. وهي صانع مشارك في القرار الذي يمس حاضره ومستقبله.
وإذا كانت الثقة مطلوبة في الحوارات السياسية، فهل حقا يتواجد هذا العنصر بين الطرفين؟ وإذا كانت معرفة مواطن القوة والضعف في الفريق المقابل مهمة جدا في تسيير الحوار، فهل العراق على معرفة تامة بالعناصر الرخوة في الفريق المقابل؟ وعندما تُعلن واشنطن بصراحة تامة أنها تريد العراق ساحة لمواجهة العدو الإيراني، وإيقاف تهديدات الميليشيات لقواتها، ووجود وحدة سياسية بعيدة عن النموذج الطائفي المعمول به، فما مُراد العراق من الولايات المتحدة؟ إن أولى الأسس لخلق علاقة فعّالة وصحيحة وصحّية بين بغداد وواشنطن، هو أن تكون بغداد قد حددت بشكل واضح، لا لبس فيه، أهدافها من الحوار. ما هي مصالحها وما هي مصالح الطرف الآخر؟ ما أوراق الضغط التي بيدها وبيده؟ وإذا كانت مصالح هذا الأخير لديها أكبر من مصالحها لديه، فكيف تستطيع تكييف ذلك للحصول منه على أكبر قدر ممكن من الدعم والمساعدة في شتى المجالات، كي تحصل على معادلة قائمة على التوازن في المصالح؟ لكن كل ذلك مرتبط بشكل جوهري بوجود فهم واضح لدى صانع القرار العراقي، بالمصالح الوطنية العليا للبلاد. وكي يكون هذا الشرط موجودا في عقلية السلطات الحاكمة، لابد من توفر السيادة التامة، بعيدا عن واشنطن وطهران. وشرعية السلطات وليس شرعية 18% من الناخبين. ووحدة صناعة القرار لا أن يكون للكتل والأحزاب الطائفية حق الفيتو، واحتكار الدولة للسلاح، بدون وجود ميليشيات مسلحة ممثلة في البرلمان والحكومة، ذات ولاءات خارجية، وكذلك رؤية عراقية واضحة لكيفية معالجة مشاكله الداخلية، وتحقيق أمنه القومي بعيدا عن التأثيرات الخارجية.
الوجود العسكري الأمريكي في العراق ليس خيارا لواشنطن، بل هو ضرورة قصوى تتطلبها المصالح العليا
أما أهداف الولايات المتحدة من الحوار فيمكن القول بأن الدعوة له قد انطلقت أساسا بعد التعرضات المتكررة للميليشيات المسلحة على الأصول الأمريكية في العراق، مثل القواعد العسكرية والمنشآت الدبلوماسية، والمتعاقدين المدنيين والشركات، لذلك كان أول هدف لواشنطن من الحوار، كما جاء على لسان وزير الخارجية هو (الوجود المستقبلي لقوات الولايات المتحدة). ولأن العراق في استراتيجية واشنطن هو مركز ثقل المنطقة، الذي يؤثر في الآخرين، ولأنها في حالة صراع مع طهران وتسعى لتطبيق خطة (الضغط الأقصى) عليها، ولكونها في مواجهة مصيرية مع الفاعلين الروسي والصيني، لإبعادهما عن مد النفوذ السياسي والاقتصادي والعسكري في المنطقة، فإن الوجود العسكري الأمريكي في العراق ليس خيارا لواشنطن، بل هو ضرورة قصوى تتطلبها المصالح العليا. أما الهدف الثاني من الحوار، الذي حدده وزير الخارجية الأمريكي بأنه (أفضل السبل لدعم عراق مستقل وذي سيادة) فليس أكثر من حشوة دافعه للهدف الأول لا أكثر. واشنطن هي من صنعت هذا العراق الجديد. وهي من رسمت ملامح وتفصيلات النظام السياسي الطائفي القائم. وهي من حافظت على قوائمه منذ الغزو وحتى اليوم. قد تكون المؤسسات الأمريكية التي تقف خلف صانع القرار، قد أحست الكارثة من سيناريو الغزو والاحتلال والمجيء بسلطات فاسدة، وتود اليوم إعادة البرمجة، من خلال المراهنة على هذا الطرف أو ذاك من داخل المنظومة السياسية لإحداث تغيير ما. قد يكون هذا ممكنا بالنسبة لواشنطن وتستطيع القيام به، لكن التحليل السياسي يقول عكس ذلك تماما، إنه يقول كي تحافظ الولايات المتحدة على مصالحها في العراق، لابد أن يبقى دولة فاشلة ومعدومة السيادة. فهو السبيل الوحيد للتحكم فيه، لكن ليس دولة فاشلة تماما بما يشكل عبئا عليها، وتتحمّل من ورائه كُلفا سياسية وعسكرية واقتصادية كبرى، ولا أن يكون دولة قوية قائمة باستقلال وسيادة تامة، ما يُفشل مخططاتها في المنطقة، ويُعيق تحقيق استراتيجيتها. إذن نحن أمام هدف سياسي أمريكي لا يُحدث تغييرا جوهريا في النظام العراقي الحالي، ولا يروم فعلا تقديم دعم لاستقلاله وسيادته، إنه يخطط فقط لانتزاع العراق من إيران، كي لا تستمر في استغلال موارده البشرية والاقتصادية، بما يشكل إضافة كبيرة وقوية لإمكانياتها، وكذلك إيقاف استخدامها له كرئة تتنفس بها من العقوبات التي فُرضت عليها.
وأمام هذه التحديات التي تمثلها المصالح الأمريكية المدعومة بقوة ناعمة وصلبة وفاعلية وقابلية على التأثير، يمكن القول إن العراق لا يعرف ماذا يريد من حواره المقبل مع واشنطن، لأن الدولة فيه موجودة كهيكلية، لكن قراره يُصنع في مكان آخر وليس في هذه الهياكل. كما أن الطبقة السياسية الرثة مُقسّمة الولاءات ولا تستطيع رفد المحاور العراقي المفاوض برؤية واضحة عن مصالح البلاد. فالأحزاب والميليشيات الذيلية في الجسد الإيراني ترى أن الوجود الأمريكي يهدد مصالح حاضنتهم إيران، خاصة أن هذه الاخيرة رفعت شعار طرد القوات الأمريكية من المنطقة، بعد مقتل قاسم سليماني، ولابد أن يصفقوا لهذا القرار. الاكراد مزدوجو الولاء، بعضهم يفضل واشنطن تارة وطهران تارة أخرى. وطرف آخر يريد طهران وواشنطن معا. أما الزعامات السُنية فترى في الوجود الامريكي عامل توازن في الرعب مع إيران، وتفضل بقاء قواته وتعزيز تواجده. وفوق كل هذا وذاك سحبت التظاهرات التي شهدها العراق، كل الأغطية عن النظام السياسي القائم، وأسقط الشارع حكومة مؤلفة من كافة الاحزاب والقوى السياسية الطائفية المستخدمة من كل الفواعل الدوليين والاقليميين. وهذا إحراج كبير لواشنطن اضطرها الى تحديث ملف العراق الذي بيدها، فقدمت للحوار مع طرف خالي الوفاض وبلا شرعية.
مثنى عبدالله
القدس العربي