قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إن «تركيا تمارس لعبة خطيرة في ليبيا تتعارض مع جميع التزاماتها التي تعهدت بها في مؤتمر برلين»، معتبراً أن الحادث البحري الذي وقع في المتوسط قبل أيام بين فرقاطات تركية وسفينة فرنسية هو أحد أبرز الإثباتات على ما كان قد صرّح به قبل أشهر حول «الموت السريري» للحلف الأطلسي. وأطلق ماكرون هذه التصريحات خلال مؤتمر صحافي مع نظيره التونسي قيس سعيد في قصر الإليزيه، الذي أحرج مضيفه حين شدد على رفض أي تدخل خارجي في الشؤون الليبية.
وليس خافياً أن الموقف الفرنسي إزاء الملف الليبي يعاني من فصام مرضي صريح، مفاده الاعتراف بشرعية حكومة «الوفاق الوطني» استناداً إلى قرارات الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي من جهة أولى، ولكن تأييد المشير الانقلابي خليفة حفتر وتزويد جيشه بالعتاد والخبرات العسكرية والأمنية والاستطلاعية ومساندة حملته الزاحفة نحو العاصمة طرابلس من جهة ثانية. وكانت السلطات التونسية تحديداً هي التي ألقت القبض، في نيسان /أبريل 2019، على 13 مسلحاً فرنسياً حاولوا اجتياز الحدود البرية بسيارات رباعية الدفع، مما اضطر السفارة الفرنسية إلى إصدار بيان يشير إلى أنهم من حرس السفارة، من دون إيضاح سبب تواجدهم في منطقة رأس جدير على الحدود التونسية ــ الليبية.
ومن الواضح أن فرنسا تدفع اليوم ثمناً باهظاً لقاء حسابات خاطئة جعلتها تقف في صف حفتر، مراهنة على نصر سهل يمكن أن ينجزه خلال زمن قياسي يُتاح بعده فرض أمر واقع على الأرض يجعل التفاوض على تسوية سياسية أقرب إلى استسلام من جانب «الوفاق الوطني». ذلك لأن الحال قد انقلبت اليوم إلى النقيض تماماً، فبات حفتر وداعموه في مصر والإمارات والسعودية وفرنسا وروسيا هم الذين يتلهفون على استئناف المفاوضات، متناسين أن المشير الذي ساندوه هو الذي انسحب من اجتماعات موسكو ورفض التوقيع على تفاهمات الهدنة، وهو الذي تعنت في مفاوضات برلين أيضاً.
ومفهوم أن يبدي ماكرون سخطه ضد تركيا بسبب أدوارها في قلب موازين القوى العسكرية على الأرض ومساعدة الجيش الليبي الشرعي على استعادة زمام المبادرة وتحرير غالبية مناطق الغرب وتكبيد قوات حفتر خسائر جسيمة، ولكن من غير المفهوم أن يربط الرئيس الفرنسي رهانه الفاشل في ليبيا بنظريته حول «الموت السريري» للحلف الأطلسي، حيث تبدو النظرية أكثر انطباقاً على سياسات الإليزيه في ليبيا، خاصة الشطر العسكري منها. ذلك لأنّ دولاً فاعلة في الحلف، مثل ألمانيا وإيطاليا، لم توافق باريس على مساندة زحف حفتر نحو طرابلس، ولهذا فإنها اليوم ليست مستعدة لانتشاله من السقوط، ولن تكون أرأف به من دولة الإمارات على سبيل المثال.
وقد تكون أبرز إثباتات الموت السريري لسياسة ماكرون أن ديمقراطية عريقة مثل فرنسا تفاخر بأنها بلد حقوق الإنسان، وقفت إلى جانب جنرال أهوج متعطش للسلطة بأي ثمن، يقصف المدنيين في المشافي ويقطع عنهم مياه الشرب ولا تتردد قواته في دفن العشرات داخل مقابر جماعية. وهذه سقطة أخلاقية من جانب باريس، لا يبررها أي رهان سياسي أو أمني أو عسكري، فكيف إذا أسفرت المراهنة عن خيبة كبرى وفشل ذريع.
القدس العربي