كل تقارير صندوق النقد الدولي التي تشير إلى سعر النفط اللازم لتوازن الموازنة لا معنى لها نفطياً، وليس لهذه الأسعار أي أثر في أسواق النفط. قد تكون مهمة في أمور معينة مثل المالية العامة والقروض، ولكن نفطياً ليس لها أي أثر. السعر المهم هو السعر المستخدم لتقدير الإيرادات في الموازنة. وليس السعر اللازم لتوازن الموازنة، وبينهما فرق كبير.
فمن الطبيعي أن يظهر عجز في موازنات الدول النفطية في فترات انخفاض أسعار النفط. وبناءً على ذلك، يتم تقدير الإيرادات بناءً على سعر نفط معيّن، مع وجود عجز في الموازنة، وهذا العجز يموَّل بطرق مختلفة، منها الاستدانة من البنوك المحلية والدولية، وإصدار سندات، أو السحب من الاحتياطيات النقدية، أو من الصندوق السيادي.
فإذا نظرنا إلى الأسعار المستخدمة في تقييم الإيرادات في مختلف الدول النفطية، فإن السعر الوحيد الذي قد يكون له أثر في السوق هو السعر الذي تستخدمه السعودية لتقييم إيراداتها في الموازنة بشرط أن تقوم السعودية بالدفاع عن هذا السعر عن طريق خفض الإنتاج. فإذا لم تدافع عنه السعودية، فإنه حتى هذا السعر لا أثر له في أسواق النفط. لماذا السعودية فقط؟ لأن السعودية هي البلد الوحيد في العالم الذي يستطيع تغيير مستويات الإنتاج بكميات كبيرة نتيجة وجود طاقة إنتاجية فائضة من جهة، ونتيجةً لقدرتها على تأخير أو إلغاء بعض المشاريع التنموية من جهة أخرى.
سرية العمل
وفي هذا الصدد، لا بد من ذكر ثلاث نقاط، الأولى أن أغلب الدول، بما في ذلك السعودية، لا تفصح عن سعر النفط المستخدم لتقدير الإيرادات في الموازنة. بالتالي فإن ما يُذكر في وسائل الإعلام هو تقدير الخبراء بناءً على معطيات معينة. إلا أن بعض الدول النفطية تفصح عن السعر المستخدَم في تقدير الإيرادات ومتوسط الإنتاج المتوقع. وزيادةً في التوضيح، يقدّر الخبراء سعر النفط الذي بُنيت عليه الإيرادات وليس السعر المطلوب لتوازن الموازنة.
النقطة الثانية هي أن هناك خطأ شائعاً في دوائر اقتصادية وسياسية وإعلامية مختلفة، وهو تجاهُل مدى مرونة الدول النفطية مع انخفاض أسعار النفط. إذ أثبتت هذه الدول تاريخياً أنها تستطيع إلغاء مشاريع أو تأخيرها، وخفض النفقات، وتأخير المدفوعات، كما تستطيع أن تقترض داخلياً وخارجياً لفترات قصيرة أو طويلة الأجل. بالتالي، فإنه حتى لو لم تدافع السعودية عن سعر النفط المستخدم في تقدير الإيرادات، فإنها تستطيع التأقلم مع الوضع عن طريق سياسات مختلفة. في هذه الحال، حتى السعر المستخدم لتقدير الإيرادات في الموازنة السعودية لا معنى له نفطياً ولا يؤثر في أسواق النفط.
النقطة الثالثة هي أن الدول النفطية تستطيع أن تستمر بعجز في الموازنات لسنوات طويلة وهناك أدلة على أن كثيراً من هذه الدول استمر فيها العجز لأكثر من 20 سنة مستمرة، ومع ذلك بقي تصنيفها الائتماني مستقراً، كما بقي وضعها السياسي مستقراً أيضاً.
خلاصة الأمر، السعر اللازم لتوازن الموازنة لا معنى له نفطياً، السعر اللازم لتحقيق الإيرادات المقدرة غير مهم، إلا في السعودية بشرط أن تقوم السعودية بالدفاع عن ذلك السعر، وإلا فإن كل هذه الأسعار لا معنى لها في أسواق النفط.
المؤسف في الأمر، أن مَن يثيرون أمور العجز في الموازنة، وأضرار ذلك في الدول النفطية سواء من الباحثين أو الإعلاميين، لا مشكلة لديهم في أن تقوم حكوماتهم بتحقيق عجز في موازناتها لعقود، وكأن العجز في الموازنة حلال لهم وحرام على الدول النفطية!
هناك فكرة شائعة في كل الأوساط، وهي أن انخفاض أسعار النفط يؤدي إلى قلاقل سياسية في الدول المنتجة لتلك المادة الحيوية، الأمر الذي قد يؤدي إلى تغيير الأنظمة فيها. لهذا يلجأ البعض إلى القول أن لجوء مجموعة “أوبك +” إلى خفض الإنتاج ورفع أسعار النفط هو وسيلة لإبقاء الحكومات في الحكم.
ولكن نظرة فاحصة إلى تاريخ الدول النفطية تشير إلى أن الجزء الأول صحيح ولكن الجزء الثاني غير صحيح على الإطلاق.
فعادةً ينتج من الانخفاض الكبير في أسعار النفط سياسات حكومية تقشفية تتضمن خفض الدعم للسلع والخدمات، بالتالي ارتفاع أسعارها، الأمر الذي يزعج الناس فيتظاهرون لمطالبة الحكومة بالرجوع عن سياساتها التقشفية. والأدلة على ذلك خلال الـ40 سنة الماضية كثيرة.
المثير في الأمر، هو أن انخفاض أسعار النفط لم يغيّر الحكومة أو النظام في أي بلد نفطي. حتى التغيير الذي حصل في فنزويلا في عام 1998 عندما انهارت أسعار النفط وجاءت بشافيز إلى الحكم، كان نتيجة انتخابات حرة ونزيهة. المشكلات السياسية الكبيرة التي أدت إلى تغيير الحكم بالقوة أو إلى حروب بين الدول حصلت كلها في فترة الأسعار المرتفعة. فالثورة الإيرانية وطرد الشاه جرى في فترة الأسعار المرتفعة، والحرب العراقية – الإيرانية بدأت في فترة الأسعار المرتفعة، وغزو العراق للكويت كان في فترة انتعاش أسعار النفط، وكذلك الاحتلال الأميركي للعراق. “الربيع العربي” وتغيير الحكم في كل من مصر وتونس وليبيا حصل في فترة أسعار النفط المرتفعة. ضم روسيا لجزيرة القرم تم في فترة أسعار النفط المرتفعة. تمدد “داعش” في العراق وسوريا تم في فترة الأسعار المرتفعة. انفصال جنوب السودان عن السودان حصل في فترة الأسعار المرتفعة.
أما القول بأن انخفاض أسعار النفط في منتصف الثمانينيات أدى إلى انهيار الاتحاد السوفياتي فهو غير صحيح. ولكن يمكن القول إن انخفاض أسعار النفط في منتصف الثمانينيات أسهم، من ضمن عوامل كثيرة، في انهيار الاتحاد السوفياتي، ولكن لم يكن السبب، ولم يكن من الأسباب الأساسية. وسبب شيوع الفكرة هو أن كاتباً نشر كتاباً يمدح فيه الرئيس ريغان، وكتب من دون أي أدلة على أن انهيار أسعار النفط كان نتيجة مؤامرة أميركية – سعودية لتدمير الاتحاد السوفياتي. ومنه انتشرت الفكرة. ما نعرفه الآن هو أن انهيار الاتحاد السوفياتي فاجأ الجميع، وأدهش الأميركيين، ولكن كما يقول المثل الأميركي: للنصر ألف أب، والهزيمة يتيمة.
خلاصة الأمر، إن القول الشائع بأن انخفاض أسعار النفط يؤدي إلى تغيير الحكومات أو إلى الحروب غير صحيح ولا تؤيده البيانات التاريخية. الأدلة تشير إلى قيام تظاهرات وقلاقل سياسية في بعض البلاد كرد فعل على السياسات الحكومية نتيجة انخفاض الأسعار. إلا أن كل التغيرات السياسية الكبيرة في الدول النفطية حصلت في فترات أسعار النفط المرتفعة.
أنس بن فيصل الحجي
اندبندت عربي