عقب انتهاء ولايته في رئاسة الجمهورية بعد ثماني سنوات، انشغلت الأوساط السياسية الإيرانية بمستقبل الدور والموقع الذي من الممكن أن يشغله الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي، وكان التوقّع الأول أن يذهب خاتمي على غرار غيره من كبار المسؤولين في النظام الإيراني ليشغل عضوية مجمع تحديد مصلحة النظام الذي كان عام 2005 برئاسة سلفه الرئيس هاشمي رفسنجاني، إلّا أنّ خاتمي فاجأ جميع الأوساط عندما اعتذر عن هذه العضوية التي تنحصر صلاحية اختيار أعضاء المجلس ورئيسه في يد المرشد الأعلى للنظام آية الله علي خامنئي، وبذلك أعلن خاتمي التزامه بالنهج السياسي الإصلاحي الذي جاء به إلى موقع الرئاسة وكرّسه كزعيم للتيار الإصلاحي، بالتالي رفضه أن يكون شاهد زور داخل هذا المجمع الذي تقع على عاتقه مسؤولية تحديد مصلحة النظام الداخلية والخارجية، وتحوّل في ظلّ التطوّرات السياسية التي شهدها النظام تمركز السلطة في قبضة جهة واحدة إلى مجرد منفّذ لتوجهاتها وأداة قمع لأي رأي يتعارض مع رؤية النظام وقيادته، ولعلّ أبرز مثال على ذلك دخول هذا المجمع على خط الجدل الذي رافق النقاش حول ضرورة التحاق إيران بمعاهدة FATF بين الحكومة والبرلمان، بالتالي تعطيل المسار الدبلوماسي الذي تبنّته حكومة الرئيس حسن روحاني بضرورة الالتحاق بهذه المعاهدة لقطع الطريق على مزيد من تقديم المسوغات للإدارة الأميركية والعواصم الغربية لممارسة المزيد من الضغوط وفرض العقوبات بذريعة بقاء الموقف الإيراني في المنطقة المظلمة من مسألة تبييض الأموال والدعم المالي للإرهاب.
وعلى العكس من خاتمي، لم يتردّد الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد في قبول عضوية هذا المجلس على الرغم من كل عمليات “التهشيم والتهميش” السياسي التي تعرض لها ومارسها ضد المحافظين أنفسهم والتيار الذي أوصله إلى الرئاسة، ليكون ممثلاً له ومنفّذاً لسياساته في السلطة التنفيذية بعد 16 عاماً كانت هذه السلطة في تصرّف المعتدلين كشركاء في النظام زمن رفسنجاني وإصلاحيين يملكون مشروعاً يتعارض حدّ التناقض مع مشروع التيار المحافظ زمن خاتمي.
دخول أحمدي نجاد إلى مجمع تشخيص مصلحة النظام، ترافق أيضاً مع شكوك بعدم صدور أمر التكليف من المرشد على خلفية الأداء المحرج والمربك لأحمدي نجاد في الرئاسة، إلّا أنّ سلوك أحمدي نجاد السياسي وتعامله مع موقع المرشد وقراراته خلال رئاسته، فضلاً عن رسائل ابتزاز وجّهها لعددٍ كبيرٍ من قيادات النظام بامتلاكه “ملفات” تدين البعض منهم، أسهم في حسم قرار عضويته لقطع الطريق على ما يمكن أن يسبّب من إحراجات للنظام والتيار المحافظ.
ووجود أحمدي نجاد كعضو في مجمع تحديد مصلحة النظام يسمح له بالاطّلاع على المداولات الداخلية غير العلنية التي تدور في أروقة القرار والتي تشكّل في جزء منها رافداً أساسياً للقرار الاستراتيجي الذي قد يصدر أو يتبنّاه المرشد الأعلى للنظام ويصبح الموقف الرسمي للدولة والنظام على حدّ سواء بكل مؤسساته ودوائره.
وقد استغلّ هذه العضوية عندما كان جزءًا من هذا المجمع بحكم موقعه في رئاسة الجمهورية في تخطّي المرشد وإدارة النظام الاستراتيجية عندما بادر عام 2006 إلى توجيه رسالة مباشرة للرئيس الأميركي جورج دبليو بوش التي شكّلت حينها خرقاً في موقف النظام المعلن. إلّا أنها جاءت نتيجة لاطّلاعه على المداولات السرية التي تجري داخل أروقة النظام حول الحوار والتفاوض مع الولايات المتحدة وإدارة البيت الأبيض، وأن هذه المساعي تُبذل من الجانب الإيراني بعيداً من الحكومة التي يرأسها، والتي اعتبرها تهميشاً له في آلية الشراكة في القرار، ما دفعه بعدها إلى سلسلة من القرارات والإجراءات التي شكّلت إحراجاً للنظام وقيادته عندما استحدث منصباً جديداً في رئاسة الجمهورية بعنوان مبعوث خاص لشؤون الشرق الأوسط وأوروبا وسلّمه إلى مساعده اسفنديار رحيم مشائي الذي بادر إلى فتح قنوات اتصال مباشرة وخارج النظام مع الإدارة الأميركية وبعض العواصم الغربية، تحديداً فرنسا إضافةً إلى بعض العواصم العربية (زيارته إلى الأردن مطلع عام 2010)، ومبادرته تجاه مصر في زمن الرئيس حسني مبارك وإعلانه عن استعداده لزيارة القاهرة من دون التنسيق مع قيادة النظام، ثم التحرّك باتجاه بعض العواصم الخليجية عام 2008 نتيجة رد فعل على استبعاده عن مسار حواري حاول النظام الإيراني إطلاقه مع هذه العواصم من خارج الإدارة الدبلوماسية، ما أسهم في بروز توتّر في العلاقة بينه والمرشد ومواقع القرار في السنتين الأخيرتين من رئاسته الإشكالية الثانية، التي شهدت اعتكافه مدة 10 أيام في المنزل والتي أسّست لقرار غير معلن من النظام وقيادته باستبعاده وعزله عمّا يجري من أحداث وقرارات داخلية وخارجية، كخيار بديل عن إسقاط الثقة عنه وإقالته من الرئاسة، لأسباب تتعلّق بعدم قدرة النظام على ذلك، بل بالتداعيات التي ستطال سلامة القرارات الاستراتيجية التي تتّخذها القيادة والتي جاءت به إلى الرئاسة بداية.
وبعد خروجه من رئاسة الجمهورية والسلطة التنفيذية، لم يتخلَّ أحمدي نجاد عن سياسته القائمة على إحراج النظام وقادته، فحاول العودة إلى مركز القرار بالترشح للانتخابات الرئاسية مرة جديدة في وجه روحاني في الدورة الثانية، ما أجبر المرشد الأعلى على التدخل مباشرة لوضع حدٍّ لهذا الطموح ورغبة أحمدي نجاد في الدفع بأحد المقربين منه إلى الرئاسة وانتهى بهما الأمر لدخول السجن (رحيم مشائي وحميد بقائي).
الرسالة التي وجّهها أحمدي نجاد الأسبوع الفائت إلى ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وقبلها إلى إدارة الرئيس ترمب، تدخل في إطار سياسة الإحراج التي يتعامل بها مع قيادة النظام، وهي تأتي لتكشف عن الكثير من المداولات التي تشهدها أروقة النظام حول العلاقة مع السعودية والحوار مع واشنطن، وقد حاول أحمدي نجاد توجيه ضربة استباقية وكشف الإرباك الذي يعاني منه النظام جراء التوتّر في هذه العلاقة والتبعات التي تترتّب على ذلك اقتصادياً وسياسياً، وتؤثر في استقرار مشروعه الإقليمي.
رسالة أحمدي نجاد إلى ولي العهد السعودي تكشف عن حجم الأزمة التي يعاني منها النظام جراء الضغوط التي يتعرّض لها في الملفات التي ترفعها الرياض بوجهه في الإقليم، إن كان في اليمن التي يبحث فيها عن حلّ يحفظ له مواقعه على هذه الساحة، وإن كان في العراق الذي رفع بكل وضوح شعار العودة إلى الحضن العربي والانفتاح على المحيط والجوار الخليجي، وإن كان في لبنان الذي يعيش حالة اختناق بعد انقطاعه عن الرئة العربية، فضلاً عن حاجته إلى فتح مسار حواري مع الرياض يكسر الحصار الأميركي الذي يضغط على خناق النظام ويهدّد بقاءه واستمراره.
رسالة أحمدي نجاد وعلى الرغم من التعاطي غير الإيجابي معها في الداخل الإيراني، إلّا أنّها تعبّر عَمّا يدور داخل النظام من جدل حقيقي، وهي تشكّل مؤشراً إلى حاجة النظام لايجاد مخرج يساعده في كسر حلقة الحصار التي تلتفّ حوله.
حسن فحص
اندبدنت عربي