كثيرة هي الأصوات والمقالات التي تشكو من النظام الطائفي اللبناني وفساده وانعكاسه، فقراً وبطالةً وهجرة على اللبنانيين. قليلة هي الأصوات والمقالات والحركات التي تدعو إلى تغييره، وأقلّ منها تلك التي تنخرط فعلاً في عملية التغيير. لماذا؟ هل التغيير في لبنان مستحيل؟
لا شك في أن التغيير صعب، لكنه ليس مستحيلاً. مردّ الصعوبة جهل بعض اللبنانيين وتجاهل بعضهم الآخر اسباب فساد النظام الطائفي وترهله واستماتة الشبكة الحاكمة في التمسك به كضمانة لسلطتها وشرط لبقائها.
يقدّم البنك الدولي في تقرير له، صدر اخيراً بعنوان «الحد الأدنى من الفقر والمساواة في الرفاهية: تشخيص منهجي للبلد»، كشْفَ حسابٍ فضّاح للخسائر الفادحة التي يرتّبها النظام الطائفي على لبنان. يقول إن التكلفة السنوية للخلل الناجم عن الحكم الطائفي بلغت 9 في المئة من الناتج المحلي القائم، أي ما يقارب 4.5 مليار دولار امريكي سنوياً. يكشف أن «النخبة» المسيطرة تستخدم الطائفية غطاء لتراكم ثرواتها، وتتسبّب في فشلٍ مدوٍّ في توليد نموٍ متكامل، وبالتالي في تخليق فرص عمل كافية. يفضح قيام هذه «النخبة» بتحويل هدف النظام الطائفي من «حماية حقوق الاقليات» إلى ترسيخ سيطرتها على الامتيازات من خلال ممارستها علاقات زبائنية وتدخلات سافرة في السوق، لتقاسم الحصص بين أركانها ما أدى إلى إضعاف السلطة المركزية للدولة ومؤسساتها.
اكثر من ذلك، رسّخ النظام السياسي الذي نتج عن «اتفاق الطائف» لعام 1989 سيطرة النخبة التي تستخدم الطائفية قناعاً لها، بجعل عملية اتخاذ القرار في غياب القوة الخارجية (الوصاية السورية) امراً شبه مستحيل. هذا ادى بدوره إلى جعل الجماعات الدينية «دولاً داخل الدولة» وبالتالي قادرة على نقض قرارات السلطة المركزية. كما أن مرحلة «إعادة الإعمار» كشفت «التأثير القوي للقطاع الخاص وللمصالح الطائفية، ما أعاق التوزيع العادل والفعال للتثمير في البنية التحتية. وكنتيجة لذلك خضع هذا التثمير للكثير من الاعتبارات، أبرزها المحاصصة الطائفية والجغرافية الانتخابية بدلاً من التثمير وفق الحاجات الفعلية للبلد».
تناولت ايفا الشوفي في صحيفة «الأخبار» (21/8/2015 ) تقرير البنك الدولي بالتقويم والنقد، وأبرزت نقاطاً جديرة بالاهتمام، فقد بيّنت أن النظام الطائفي اللبناني لا يمكن إلاّ أن يكون ريعّياً، وان الريع لا يقتصر على أشكاله الكلاسيكية المتمثلة بالريع العقاري، اذ يطغى الريع المالي من خلال مديونية هائلة قدّرها الخبير الاقتصادي الدكتور توفيق كسبار بأكثر من 102 مليار دولار امريكي، اي 205 في المئة من الناتج المحلي القائم، بالإضافة إلى ريوع الاحتكارات التجارية التي تشكّل 16 في المئة من الناتج المحلي. إلى ذلك، تأخذ المؤسسات الطائفية نسبة كبيرة جداً من الموازنة العامة بغية تقديم خدمات لجمهورها.
المهم أن كل هذه الريوع، حتى تحويلات اللبنانيين في الخارج التي تقدّر بنحو 8 مليارات دولار سنوياً، تنتج برجوازية رثة مسيطرة وبروليتاريا رثة مهمشة من الفئات المتذبذبة والقلقة التي ترتضي واقعها خوفاً من الأسوأ او حفاظاً على منافع صغيرة وامتيازات بسيطة تحصل عليها من الاستتباع لزعيم الطائفة ونيل حمايته.
تستنتج ايفا الشوفي من هذه المعطيات جميعاً أن، النجاح الباهر الذي تحرزه «صناعة القلق» و»تعميم الفساد» وتصويره حلاً فردياً أدّيا إلى جعل شرائح واسعة ترضخ، وغالباً تنخرط في شبكة المحسوبية والزبائنية، ظناً منها انها تنتش بعض المنافع التي تقيها العوز، أو تخاف من فقدان «الامتياز» والانزلاق إلى خانة الفقراء أو البروليتاريا بواقعها الرث». وتقدّم الشوفي مثالاً على تجلّيات ما انتجته «صناعة القلق» و»تعميم الفساد»، هو ما انتهت اليه هيئة التنسيق النقابية التي «لم تتجرأ على رفع مطلبها إلى ما هو أبعد من مطلب فئوي يرمي إلى الدفاع عن امتيازات في سلسلة الرتب والرواتب (…) فبات الجميع رهائن في «اللعبة»، وكذلك نموذج «النفايات»، إما الرضوخ لمصالح النخبة المسيطرة وإمّا «خلِّ الزبالة تطمركم»…
اهمية المعطيات والإحصائيات والتحليلات الواردة في تقرير البنك الدولي، تنبع من كونها صادرة عن هيئة دولية ليست طرفاً في الصراعات داخل لبنان، وليست بالتأكيد، مؤسسة يسارية. كذلك تتضح اهمية الإستنتاجات التي اوردتها ايفا الشوفي كونها مبنية على تقرير البنك الدولي الآنف الذكر. لكن، لا الشوفي ولا البنك الدولي، بطبيعة الحال، قدّما منهجاً للخروج من الحال المتردية التي يرتع فيها لبنان، ولا بالتالي تصوراً سياسياً وإجراءات ميدانية لمباشرة التغيير المنشود.
في ضوء هذا الواقع الأليم، ارى أن من الضروري أن يتحمّل ذوو الإرادات الطيبة والقوى الحية مسؤولياتهم الإنسانية والوطنية، فينهضوا بجدّية، كل بقدْر ما يطيق ويستطيع، إلى مواجهة التحديات والمخاطر الوطنية والاجتماعية والمسؤولين عنها في كل الميادين من خلال مبادرة وحركة نضالية تلتزم الخطوط العريضة الآتية:
اولاً، توعية الجمهور والقيادات على السواء بأبعاد الازمة السياسية والاجتماعية الراهنة ومفاعيلها، وتحديد القوى والقيادات المسؤولة عن نشوئها واستمرارها.
ثانياً، تحشيد القوى السياسية والاجتماعية التي لها مصلحة في إقصاء الشبكة الحاكمة، وتأطيرها في حركة مواجهة شاملة عابرة للطوائف تتوخى تعميم ثقافة المقاومة والتغيير الديمقراطي وصولاً إلى إقامة الدولة المدنية الديمقراطية على أسس الحرية والعدالة وحكم القانون والتنمية المستدامة.
ثالثاً، مواجهة قوى الشبكة الحاكمة في الشارع ومحاصرتها بسلسلة موصولة من التظاهرات والمسيرات والاعتصامات وصولاً إلى التمرد والعصيان عليها.
رابعاً، توظيف السخط الجماهيري المتعاظم على اهل الشبكة الحاكمة في ضغوطٍ متواصلة لإكراهها على التسليم بضرورة التوقف عن إعادة إنتاج النظام الطائفي الفاسد لنفسه بواسطة قانون فئوي لا ديمقراطي للانتخابات.
خامساً، في حال امتناع السلطة عن إقرار التشريعات والتدابير موضوع البند الرابع اعلاه، تُعلن قوى التغيير الديمقراطي التمرد والعصيان، وبالتالي إقامة مؤتمر وطني للحوار والقرار مهمته اتخاذ القرارات الاستثنائية المناسبة في الظروف الاستثنائية السائدة، وأهمها:
التطبيق بلا ابطاء للمادة 22 من الدستور التي تقضي بأنه «مع انتخاب مجلس نيابي على أساس وطني لاطائفي، يُستحدث مجلس للشيوخ لتمثيل العائلات الروحية».
اعتماد قانون للانتخابات على اساس التمثيل النسبي في دائرة واحدة تشمل البلاد برمتها وإجراء الانتخابات بواسطة حكومة وطنية مؤقتة، تنتهي مهمتها بمجرد إجرائها وانتخاب رئيس جديد للجمهورية وتأليف حكومة وطنية جامعة وفق أحكام الدستور.
(جـ) يشرّع مجلـس النـواب الجديـد المنتخـب قانوناً دستورياً يحدد صلاحيات مجلس الشيوخ ونظام انتخابه وتنسيق علاقته بمجلس النواب.
(د) يباشر مجلس النواب والشيوخ المنتخبان وفق احكـام المادة 22 مـن
الدستور تطبيق أحكام المادة 95 من الدستور المتعلقة بإلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية، وبالتالي بناء ركائز الدولة الوطنية الديمقراطية.
باختصار، يقتضي مغادرة حال الجمود والقعود، وإسقاط آفة الرضوخ للزعماء والسلطة، ومباشرة حركة النهوض لهدم ثقافة الطائفية والمحسوبية والمحاصصة، وبناء ثقافة الحرية والديمقراطية والتنمية والإبداع. بذلك لا يعود التغيير في لبنان مستحيلاً.
د.عصام نعمان
صحيفة القدس العربي