تتكئ دولة مالي الحديثة على إرث باذخ من المجد والسؤدد، فعلى أديمها قامت ممالك وإمبراطوريات عرفت بقوتها وسطوتها وغناها، بيد أن تاريخها السياسي المعاصر يمتد في مفارقة لافتة عبر 6 عقود من العنف والاضطرابات السياسية والاجتماعية.
وتقف وسط هذا التاريخ الطويل نسبيا 4 انقلابات كبرى مثلت معالم الانتقال من حكم عسكري إلى آخر، تتخللها فترات من الحكم المدني تمثل فواصل مدنية في مسلسل الانقلابات العسكرية التي تصاحبها اضطرابات وحروب أهلية امتدت من الشمال إلى الوسط.
موديبو.. المؤسس السجين
بعد 8 سنوات من الاستقلال وجد الرئيس المؤسس والأديب الفرنكفوني الكبير موديبو كيتا نفسه أمام مواجهة غضب العسكر، فألقى به الجنرال موسى تراوري في سجن مروع بقي في غياهبه من 19 نوفمبر/تشرين الثاني 1968 حتى وفاته في المعتقل في العام 1977.
كان موديبو عند الاستقلال رجل مالي الأول والمعبر عن ثقافتها وانتمائها الزنجي، وقائد نهضتها الاقتصادية ليتحول بعد ذلك إلى عنوان بارز للدكتاتورية التي جاء العسكر -كما يدعون دائما- لإنقاذ الماليين منها.
وبعد أكثر من عقدين جاء الدور من جديد على موسى تراوري ليذوق هو الآخر من كأس الانقلابات المرة المذاق.
تراوري.. الجنرال الساحر في قبضة الجيش
طال حكم الجنرال الراحل موسى تراوري واستمر لأكثر من 22 سنة انتهت به سجينا بيد المجلس العسكري الانتقالي الذي قاده الجنرال أمادو توماني توري المعروف عند الماليين بلقب “إيه تي تي” (ATT)، في إشارة إلى الحروف الأولى من اسمه، وهي عادة راسخة لدى الماليين في اختصار أسماء حكامهم.
حكم تراروي مالي بالنار واللهيب والدكتاتورية، قبل أن تندلع ثورة الشباب والنساء ضده مع بداية التسعينيات، وتوفر بذلك غطاء مهما للجيش الذي قاد الانقلاب العسكري وأسقط نظام الجنرال الذي يقول خصومه إنه لم يدخر وسيلة للبقاء في السلطة، حتى أنه لجأ -حسب قولهم- إلى السحرة من أجل توطيد أركان حكمه وتحصينه من أي سطوة قد تطيح به، لكن السحر انقلب على الساحر، وألقي بالرئيس تراوري في زنزانة عاش فيها عدة سنوات بمعتقل بائس.
وقد جاءت الإطاحة به قبل أيام قليلة من اتفاق الجزائر الذي مهد لمصالحة واسعة بين ثوار الشمال الأزواديين وحكام الجنوب من أحفاد الماندينغ.
في العام 1993 أدين تراوري قضائيا بقتل 106 أشخاص شاركوا في المظاهرات التي أدت إلى سقوطه، وحكم عليه بالإعدام، لكن تم تخفيف الحكم لاحقا قبل أن ينال عفوا رئاسيا في 2002.
وقبل أيام، أعلن عن رحيله عن عمر ناهز الـ83 عاما بالتزامن مع تفاعلات الحلقة الرابعة في سلسلة الانقلابات العسكرية التي بدأها الرجل قبل أزيد من 5 عقود.
توري.. رئيس السلام وصديق المسلحين
ركب العسكر موجه الشعب الغاضب من ممارسات الجنرال موسى تراوري، وقاد الضابط الهادئ أمادو توماني توري في 16 مارس/آذار 1991 انقلابا عسكريا وفترة انتقالية لم تزد على 14 شهرا، وكانت من أكثر الفترات الانتقالية نجاحا وألقا في القارة الأفريقية انتهت بانتخاب الأستاذ الجامعي ألفا عمر كوناري رئيسا للبلاد لمأموريتين رئاسيتين انتهتا في العام 2002.
وقد ظل توماني توري -الذي اعتبر لحقب العسكري الفريد في غرب أفريقيا- يرمق السلطة من طرف خفي، وكان مستعدا للرجوع إليها بعد طلاق استمر 10 سنوات قضاها وسيطا ومبعوثا أمميا في نزاعات متعددة، وتمكن خلالها من حصد كثير من الأوسمة والثناء الدولي، باعتباره العسكري الذي حكم بانقلاب عسكري وخرج من السلطة بعد أن وفى بوعده بتسلميها للمدنيين.
في 2002 عاد توري إلى السلطة منتخبا لرئاسة بلاده، بعد أن نال أغلبية أصوات الماليين، وفي سنواته الأخيرة ظهر وجه آخر لتوري المتهم من عدد كبير من دول الجوار المالي بأنه أقام علاقات واسعة مع القوى المسلحة في المنطقة، وسمح لتجارة السلاح والمخدرات وعمليات الخطف بأن تنتعش في بلاده رغم بعض الإصلاحات السياسية والمؤسسية التي شهدتها فترته.
ومع تدفق السلاح الليبي إثر سقوط القذافي وعودة آلاف المقاتلين الطوارق إلى شمال مالي، بدأ نظام توري في التأرجح والاهتزاز، حيث تقدمت القوات الطوارقية والكتائب الأزوادية المسلحة -بما فيها التابعة للحركات الجهادية- نحو المدن الكبرى، منهية بذلك حالة من الوفاق الصامت الذي طبع العلاقة بين توري ومسلحي الشمال وحركاته السلفية طوال سنوات حكمه رغم ما كان يعانيه سكان أزواد من حرمان وتهميش تنموي لا سقف لطغيانه.
في الأيام الأخيرة من حكم تراوري استولى المسلحون على مناطق واسعة في الشمال (رويترز)وفي 21 مارس/آذار 2012 ظهر جنود من أصحاب الرتبتين الوسطى والصغيرة وهم يعلنون نهاية حكم الجنرال توري، مكررين الوعود العتيقة للعسكر بتسليم الحكم لنظام مدني منتخب.
لم يكن الانقلاب مقصودا لذاته كما تورد روايات متعددة، فالجنود الصغار بقيادة النقيب أمادو سانوغو خرجوا من ثكنتهم المطلة على باماكو احتجاجا على تأخر رواتبهم وترك زملائهم في مواجهة عنفوان وحداثة السلاح الأزوادي الفتاك، ووجدوا عرش الرئيس توري مهتزا، فانتهزوا الفرصة للجلوس عليه، ومواجهة الضغط الدولي والأزمات الداخلية.
بيد أن النقيب أمادو سانوغو ورفاقه اكتشفوا لاحقا أن كرسي السلطة أكبر بالفعل من قدراتهم، حيث انزلقت البلاد بعد انقلابهم في هوة سحيقة من الفوضى والاضطرابات، وازداد الغضب الشعبي عليهم، وتمت محاكمتهم وسط حراك دولي وشعبي مكن من إقامة فترة انتقالية انتهب بانتخاب الرئيس إبراهيم أبو بكر كيتا رئيسا لمالي.
وقد عززت الحركات المسلحة في الشمال خلال فترة الاضطراب التي طالت عدة أشهر إثر الإطاحة بتوماني توري مواقعها وقدراتها واستولت على شمال البلاد بما فيه مدنه الكبرى، مثل كيدال حاضرة الشمال وعاصمته الأساسية، وتمبكتو وغاوة.
كيتا.. في مواجهة ثورة الإمام
أخيرا، وقبل عدة أسابيع أطاح رابع انقلاب عسكري في البلاد بقيادة آسيمي غويتا بالرئيس السابق إبراهيم أبو بكر كيتا ابن الـ75 سنة، بعد أشهر من الاحتجاجات الشعبية الغاضبة بقيادة الإمام محمود ديكو الذي تحول مع الزمن إلى رمز للثورة والرفض ومواجهة نظام الدكتاتورية والفساد، وفق تعبيره.
خرج الانقلابيون الجدد في مالي من رحم أزمة سياسية وأمنية عميقة جدا، لكنهم أيضا خرجوا من قبو المجهولية، فلم يكن لهم تاريخ سياسي ولا عسكري معروف، ولم يكن أغلب الماليين على معرفة حتى بأسمائهم، وهم الآن ينتظرون مسار صفاتهم وما إذا كانوا سيوفون بوعود لم تكتمل بعد لائحتها النهائية.
ثورات وصراعات
وإلى جانب الانقلابات العسكرية عاشت مالي أيضا تاريخا مؤلما مع التمرد والثورة، وكانت منطقة الشمال مسرح تلك الثورات ومجرى ضفاف الدم المنساب بسبب صراعات سياسية تحولت مع الزمن إلى حروب عرقية مؤلمة.
بدأت شرارة العنف الجهوي والمناطقي في مالي منذ العام 1962 واستمرت طوال العامين، قبل أن يتمكن الجيش المالي من سحقها بشكل كامل نتيجة العنف الوحشي الذي مارسه ضد هذا التمرد الشمالي الذي بدأ من منطقة كيدال، وعرف بـ”الفلاقة” (وهو مصلح كان يستخدمه الجيش الفرنسي لنعت المقاومين أثناء احتلاله الجزائر وتونس).
لم يكتف الجيش المالي بحرق القرى وتهجير سكانها ولا بالإعدامات الجماعية، بل وصل الأمر حد تسميم الآبار، لينتشر الموت عبر قطرات المياه في صحراء تعتبر الماء أعز موجود وأعظم مفقود.
ثورة 1990.. الدم والمصالحة
أدت هزيمة التمرد في 1964 إلى نشر ظلال من الرعب في الشمال المالي، وإلى إرغام آلاف السكان على الهجرة إما إلى موريتانيا أو النيجر أو ليبيا التي فتحت أبوابها يومها لمئات الآلاف من اللاجئين الماليين من قوميات الشمال المتعددة.
وبعد سنوات من التحضير والبناء السياسي والعسكري اندلع من جديد ثاني تمرد في الشمال واستمر 5 سنوات (1990 – 1995) عبر عناوين عسكرية وقومية متعددة.
وكانت منطقتا غاوة وميناكا أهم معاقل الثورة التي استمرت رغم المصالحة الموقعة بين الأطراف الأزوادية والحكومة المالية سنة 1992، ولم تخمد تلك الثورة إلا في منتصف التسعينيات، بعد أن استنزف العنف الحكومي المالي مقاومة الشماليين.
صلوات القذافي ورهان الحرب من جديد
في 2006 اندلعت ثورة الطوارق من جديد بقيادة حركة متمردة تحمل اسم “تحالف 23 مايو الديمقراطي من أجل التغيير”، واستطاعت هذه الحركة الوليدة تدمير منشآت عسكرية في كيدال وميناكا، قبل أن تنتهي في نفس العام باتفاق في الجزائر بين الحكومة المالية والتحالف الديمقراطي.
وقد تزامنت هذه الثورة مع صلوات عيد المولد النبوي الذي نفذها الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي في مدينة تمبكتو، واستدعى لها عشرات الآلاف من الشخصيات والقادة السياسيين ليوجه له سكان الجنوب اتهامات بدعم متمردي الشمال.
تمرد عابر للحدود
لم يرض اتفاق السلام في 2006 كل متمردي الشمال، فانطلقت في العام التالي (2007) موجة أخرى من التمرد استمرت لمدة 3 سنوات، متنقلة بين حدود مالي والنيجر، جامعة بين كيدال المالية وأغاديز النيجرية في لهب تمرد واسع مكن من تنفيذ هجمات متعددة وخطف جنود ماليين.
2012 التمرد الكبير
مع سقوط نظام القذافي في 2011 عادت إلى مالي كل عناصر كتيبة الطوارق في الكتائب الليبية، وتقدر بعض المصادر عددهم بأكثر من 4 آلاف مسلح مزودين بسيارات عابرة للصحراء وأسلحة متطورة.
ولم يطل انتظار هؤلاء حتى بدؤوا بالسيطرة على مدن الشمال بعد تأسيس الحركة الوطنية لتحرير أزواد، وظهور الزعيم الأزوادي بلال أغ الشريف المصنف ضمن التيارات العلمانية والوطنية في شمال مالي.
استطاعت الحركات المسلحة السيطرة على جميع مدن الشمال، وبدأت الحرب تأخذ أبعادا أخرى مع ظهور تنظيمات إسلامية مقاتلة استولت هي الأخرى على أجزاء من الأرض ومساحات من النفوذ والقوة، وأصبح الطريق سالكا أمامها نحو مدن الجنوب.
وفي مطلع العام 2013 بدأت فرنسا عملية عسكرية تحت عنوان حماية جنوب مالي من سقوط متوقع بيد “الإرهابيين”، لتبدأ صفحة أخرى من أزمات مالي ما زالت مفتوحة، فبعد 7 سنوات من الحضور العسكري الفرنسي الكثيف لم يتحرر الشمال من نفوذ الجماعات المسلحة، واندلعت الصراعات المسلحة ذات الطابع العرقي في منطقة الوسط، وعادت الانقلابات مرة أخرى إلى الجنوب، وغاصت أقدام الجنود الفرنسيين في رمال الصحراء المالية المتحركة.
وبينما تتهيأ البلاد للاحتفال بستينية الاستقلال تتراشق أطراف متعددة بنيران المعارك والقصف، وبنيران التخوين والاتهام، كاتبة بذلك صفحة حمراء من تاريخ دموي في بلاد ضرستها الحروب والانقلابات والمجاعات.
المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية