في عام 1923 أعطى الزعيم السوفييتي ستالين إقليم ناغورني كرباغ ذا الأكثرية الأرمينية إلى أذربيجان، ومنحه الحكم الذاتي وهو يشكل نسبة 20% من مساحة أذربيجان. وفي عام 1988 صوتت أرمينيا على أنه جزء من أراضيها، رغم عدم وجود تواصل جغرافي. عند تفكك الاتحاد السوفييتي السابق واستقلال الدول التي كانت منظوية فيه، أعلن الإقليم استقلاله تحت اسم جمهورية أرتساخ، وأصبحت موالية لأرمينيا، لكنها لم تحصل على اعتراف دولي بها.
يقول علم السياسة بأن الصدامات والحروب العسكرية الصغيرة، أو المحدودة، يمكن أن تنبئك عن استراتيجيات الآخرين، وكذلك عن طبيعة الصراعات والأهداف الجيوسياسية في المحيط القريب لبؤر التوتر، وأيضا في المحيط البعيد. ويبدو أن جولة القتال الحالي بين أذربيجان وأرمينيا حول أقليم ناغورني كرباغ التي بدأت أواخر شهر سبتمبر الماضي 2020، أفضل تعبير عن هذه الحالة. فرغم أن الحرب هي بين الدولتين المذكورتين، لكن الحقيقة أن هذه المنطقة مسرح صراع واهتمام بالغ الأهمية، بين مثلث جيوسياسي يتكون من روسيا وتركيا وإيران وكل له أسبابه الخاصة.
فإذا كانت طهران معنية بها بسبب وجود أقلية أذرية كبيرة في شمال إيران، وهي تنظر إلى أن التوتر على حدودها قد ينعش الرغبات الانفصالية لدى هذا النسيج القومي، فإن روسيا تولي هذه المنطقة أهمية قصوى كذلك، ليس هذا الاقليم وحسب، بل منطقة القوقاز بأكملها لأنها إحدى أهم مسلماتها الجيوسياسية، وهي درع روسيا الطبيعي، الذي به تحمي نفسها من الجنوب. أما تركيا فإن اهتمامها بالإقليم وأذربيجان ينطلق من عناصر كثيرة. فاللغة مشتركة والدين واحد، وسبق أن كانت هذه المنطقة جزءا من الامبراطورية العثمانية، وخاض الاتراك والأذريون معا حروبا ضد الاتحاد السوفييتي. كما أن الكثير من المواطنين في أذربيجان من أصول تركية، إلى الحد الذي باتت مقولة (شعب واحد في بلدين) شائعة جدا بين الأتراك والأذريين، لكن السؤال الأهم هو، ما هي دوافع التحرك التركي في منطقة تعتبر من أهم المناطق الاستراتيجية لروسيا؟ الثابت أن تركيا تسعى للتموضع والبحث عن دور جديد، لم يبدأ مع بزوغ المشكلة الحالية، بل منذ تفكك الاتحاد السوفييتي وتبدل علاقتها بالولايات المتحدة وحتى اليوم. إنه البحث عن الهوية، في ظل موقع استراتيجي مهم يفرض عليها ممارسة دور يوازي ويحاكي أهمية الموقع. فهنالك قلق كبير ومستمر لدى صانع القرار التركي من مسائل مهمة وشائكة مثل: صعود إيران وسيطرتها على العراق ولبنان، التي خسرتهما لصالح تركيا في معركة شلدران عام 1514، وعودة روسيا إلى استراتيجيتها في التأثير في المنطقة، وتراجع الغرب وتعب الولايات المتحدة، وعدم قدرة الناتو على التدخل كما كان يفعل، وكذلك سقوط الدولة العربية، وتبدل البيئة الجيوسياسية بمحيط تركيا. كل هذه التحولات فرضت استراتيجية تركية كبرى يمكن أن نرى ملامحها في كل التحركات، في العراق وسوريا وليبيا وشرق المتوسط وشمال افريقيا والقرن الافريقي، لكن الاستراتيجيات كما تريد أهدافا، تريد وسائل أيضا، وما يمكن ملاحظته أن الوسائل التي بيد صانع القرار التركي غير كافية، لجعل الأهداف حقائق. هذا يعود إلى أن البيئة الجيوسياسية في المحيط التركي باتت في حالة تغير سريع ومستمر، وبات من الصعوبة اللحاق بها وتوفير الوسائل اللازمة لتحقيق الاستثمار الأمثل فيها. ففي الحرب الباردة كانت تركيا محصورة بين السوفييت والأمريكان، وليست قادرة على استرداد الدور في المحيط المباشر.
أنقرة ترى أن تحريك الخطوط في أماكن مختلفة، وفي توقيت واحد يصنع ديناميكية سياسية، ويصب لصالح استراتيجية فاعلة
عندما انهار الاتحاد السوفييتي وتغيرت الظروف، رسمت تركيا استراتيجية العودة الى المنطقة، لكن مشروعها أصطدم بمشاريع أخرى أكبر من قدرتها بسبب عدم الجاهزية. فاحتلال العراق جعل أمريكا جارة لتركيا، من خلال الوجود العسكري المكثف فيه، وهذه مشروعها عالمي ووسائلة متعددة وناضجة وفيها تراكم كبير. كما أن احتلال أفغانستان واحتلال العراق فتح الساحة الجيوسياسية للمشروع الايراني المنافس لها. لكن كما أن الثابت هو سعي أنقرة للتموضع، كان الثابت لديها أيضا هو الترنح بين التمدد والانكماش، وهذا متأت من تحول تركيا، من دولة عادية الى دولة ذات شأن ودور إقليمي أو عالمي، ما يفرض عليها جهوزية للتعامل مع الأزمات المحيطة بها في المجالات العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية، وهي غير متوفرة بشكل متكامل، لذلك رأيناها تمددت في سوريا ووضعت لها ركائز فيها، لكنها تراجعت وقبلت بالقليل. ودخلت ليبيا وحاولت التمدد برا وبحرا، لكنها تراجعت أيضا وقبلت بالقليل. واليوم تتمدد في الحديقة الخلفية لروسيا، فما المآلات المقبلة؟ لاشك بأن صانع القرار الروسي يرى في الدعم التركي الصريح لأذربيجان تحديا حقيقيا له، لان هذا التحرك هو لعب في المنطقة الحيوية لموسكو، وهو لا يشبه بأي حال من الأحوال ما جرى ويجري في ليبيا وسوريا فكلاهما بعيدتان عن حدوده. لكن تركيا تعتبر أذربيجان نقطة انطلاقة لها في آسيا، كما كانت في زمن الامبراطورية العثمانية، وترى فيها منصة نفوذ لها في دول تاريخيا كانت لها علاقة بها، وتسعى لإعادة التواصل معها اليوم. هي تعلم بأن هذا التحرك ستواجهه روسيا في الشمال، وإيران من الجنوب، التي يوفر لها المذهب الشيعي الغالب فيها فرصة للتحالف مع بعض منهم، لكن أنقرة تدرك أن تركيز ثقلها في أذربيجان سيحد من إمكانيات المنافسين الروسي والإيراني، لها في المنطقة ويربك حساباتهما. ومع أن إيران منافس لها لكن همها هو المنافس الروسي، الذي ترى أنه كلما كان وجودها قويا في أذربيجان فإن ذلك يسمح لها بالمناورة معه في ملفات أخرى بشكل أفضل. صحيح أن هنالك عملا مشتركا بين الطرفين في ملفات كثيرة، لكن تركيا ليست دمية بيد روسيا في هذه الساحات الملتهبة، لكن تحسب لها ألف حساب، وهذا هو الذي يدفعها للوقوف خارج ساحة الحرب، رغم الدعم المادي والمعنوي الصريح من أعلى قمة الهرم السياسي في أنقرة، لإدراكها أن دخولها المباشر سيدفع روسيا للدخول أيضا. وهذا هو الذي دفعها وبسرعة لتكذيب الأخبار التي روجت لها أرمينيا من أن طائرة سيخوي عائدة لها أسقطتها طائرة أف 16 تركية في الأجواء الارمينية، كي لا تعطي الروس فرصة الدخول كطرف في الحرب الدائرة من منطلق معاهدة الدفاع المشترك.
يقينا ترى تركيا نفسها في مهمة غاية في التحدي على خط المواجهة في الصراع العسكري والسياسي الدائر اليوم في البلقان، وهذا يدفع الكثيرين للتساؤل عن مآلات النشاطات المفرطة لها في بيئتها الإقليمية، وحتى في أماكن أخرى بعيدة. لكن أنقرة ترى أن تحريك الخطوط في أماكن مختلفة، وفي توقيت واحد يصنع ديناميكية سياسية، ويصب لصالح استراتيجية فاعلة. فتدخلها تراه عاملا مهما في تغير قواعد اللعب في جميع الساحات، ويصنع ضغطا يجبر جميع الأطراف على إعادة النظر في حساباتهم. نعم روسيا دولة كبيرة وقوة عظمى في المنطقة، لكن تركيا ترى أن الدول الكبرى قد تُجبر أحيانا على السير في طرق تفتحها لهم قوى أقل وزنا، فيسيرون فيها لتحقيق تقدم يعود بالفائدة على الجميع. هي تستند في هذه الرؤية إلى تراكم خبرة من التعاون والتنافس والتناقض، ودعم معسكرات متضادة تشاركت فيها مع روسيا وإيران في سوريا، ومع روسيا في ليبيا. لكن ذلك لا ينفي حقيقة التباين في المصالح، وخسارة تركيا لبعض أوراقها في هذه الساحات لصالح الأطراف الأخرى. لكن المآل المقبل هو أن جميع الأطراف ستتقاسم الحصص وتختفي سيادة أذربيجان كما حصل في العراق وسوريا وليبيا.
في السياسة انتهاز الفرص سلاح ذو حدين، الفرصة سانحة تراها أنقرة اليوم. فالولايات المتحدة مريضة ومشغولة بالانتخابات الاغرب في تاريخها. الاتحاد الاوروبي فقد وزنه السياسي ودوره وخائف على مستقبله. روسيا مثقلة بملفات سوريا وليبيا وأوكرانيا وشبه جزيرة القرم والاضطرابات السياسية في محيطها المفيد. وكل هذا يعطي صانع القرار التركي دفقة جرأة.
مثنى عبدالله
القدس العربي