قراءة ميدانية في العقيدة السياسية الإيرانية منذ أربعة عقود من الزمن مرت على تسلم مقاليد السلطة في طهران، يمكن القول أنها اتسمت برؤية استراتيجية وأهداف صريحة وسياسية ميدانية تجاه الأقطار العربية، ساهمت في الاعلان عن مفهوم تصدير الثورة الإسلامية وتعزيز دورها وتأثيرها في الأوساط الشعبية من خلال الحديث عن المحكومين والمستضعفين في الأرض واحلال مبادئ العدالة الاجتماعية واحترام حقوق الإنسان، فهل ما حدث خلال العقود الماضية كان صادقًا في تحديد المفهوم الإنساني لما نادى به المسؤولين في إيران؟
لم نرى إلا استهداف للأمن القومي العربي للمنظومة السياسية في الأرض العربية ولم نشاهد إلا برنامجًا ومشروعًا سياسيًا للنفوذ والتمدد ودعم فصائل وميليشيات تعمل على تقويض الدولة الوطنية وانشاء متوازيات في كافة المجالات لمنافسة الدور الرئيسي للحكومات القائمة في الأقطار التي استهدافها المشروع السياسي الإيراني.
تمكنت إيران عبر اجهزتها ومؤسساتها الأمنية والعسكرية من التحكم في العديد من المسارات السياسية والاقتصادية في عدد من عواصم الأقطار العربية في ( سوريا ولبنان واليمن والعراق) وتمكنت من التحكم في الاختيارات السياسية في تشكيل الحكومات بل إنها ساهمت في تأخير المسارات التي إرادتها القوى السياسية في هذه العواصم العربية لأنها تخالف الرؤى والأهداف الاستراتيجية الإيرانية في منطقة الشرق الأوسط والوطن العربي.
وضمن المساعي السياسية لإيران في الحفاظ على وجودها وتأثيرها وبسط نفوذها الإقليمي سعت إلى امتلاك السلاح النووي واستخدام المعايير العلمية والفنية في تطوير برنامجها النووي بزيادة نسب تخصيب اليورانيوم وخزن ألألأف من أجهزة الطرد المركزي وتطوير الصواريخ البالستية وتنفيذ برنامج الطائرات المسيرة لدعم أمنها وحماية نظامها وتعزيز مكانتها في الشرق الأوسط، ثم العمل بشكل مدروس وعبر أدوات ووسائل ميدانية على تمويل شبكات واسعة من الشركاء والحلفاء من قادة الفصائل والمليشيات المسلحة في بعض الأقطار العربية وتسليحهم وتقديم الدعم المادي والمعنوي ليكونوا جزءًا رئيسيًا ومهمًا في تنفيذ المشروع الإيراني وتحقيق أهدافه في الهيمنة والسيطرة والنفوذ.
ورغم الدعم والاسناد الكبير الذي قدمته قيادات الحرس الثوري الإيراني للفصائل وقياداته إلا أن الأهداف الاستراتيجية التي سعت إليها إيران لم تكن بالاستعداد الميداني والطموح الإيراني الذي عبرت عنه قيادات ومقاتلي الفصائل بسبب طبيعة الوقائع التي شهدتها المنطقة في السنوات الأخيرة وما تلاها من أحداث حددتها المواجهات العسكرية التي انطلقت في السابع من تشرين الأول 2023 في الأراضي الفلسطينية والاعمال التي قامت بها الفصائل المنضوية تحت مسمى( وحدة الساحات)، ثم إنها تزامنت مع التطور الحاصل في استهداف القنصلية الإيرانية في العاصمة السورية ( دمشق) والرد الصاروخي الإيراني الذي حدث في الثالث عشر من نيسان 2024 داخل العمق الإسرائيلي وما تلاها من عملية اغتيال لرئيس المكتب السياسي لحركة حماس ( إسماعيل هنية) في 31 تموز 2024 ومن بعده الاستهداف الأمني والعسكري للقيادات السياسية والعسكرية لحزب الله اللبناني وعلى رأسها الأمين العام للحزب ( حسن نصر الله) وضرب المقرات الرئيسية للحرس الثوري الإيراني في الميدان السوري واستهداف قياداته العاملة مع تشكيلات حزب الله المقاتلة، دفع إيران لقصف صاروخي جديد أكثر تأثيراً وأوسع فعالية في الأول من تشرين الأول 2024 طال العديد من المواقع العسكرية والقواعد الجوية الإسرائيلية وشكل عاملًا في معادلة قواعد الاشتباك والتصعيد الشامل في المنطقة.
لم يكن الرد الإيراني ضمن الرؤية السياسية أو التدابير الميدانية ولكنه جاء كحالة اعتبارية لمعالجة الآثار التي خلفتها الضربات والاغتيالات والاستهدافات الإسرائيلية لأهداف وشخصيات ومواقع وحلفاء رئيسين لايران، وكان لا بد للقيادة الإيرانية من موقف سياسي تسترد فيها معنويات مقاتلي وقيادات شركائها وتعزيز موقفها الداخلي امام شعوبها ومواطنيها.
تدرك القيادة الإيرانية أن تغيير نمط سياستها مع الدول الإقليمية والعربية كفيلة بإعادة التوازن للعلاقات الدولية في المنطقة، وهي تعلم حقيقة المصالح والأهداف الأمريكية وتعمل على أدامة العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية عبر الوسطاء في المنظومة العربية، وهي السياسية التي أتبعتها عبر البرنامج الذي قدمه الرئيس الحالي مسعود بزشكيان بالدفع نحو علاقات حقيقية ومسارات وخطوات إيجابية لإعادة الثقة مع اقطار الخليج العربي وجيرانها وتحسين العلاقات معهم، واستشعرت إيران أن عزلتها الإقليمية سيكون لها مردوداتها السلبية حول مساعيها لعودة تأثيرها وإمكانياتها الذاتية، وهي التي تحتاج حاليًا الى دعم دولي واقليمي وعربي في المساندة والوقوف معها في الحفاظ على نظامها ووجودها السياسي أمام الضربات الإسرائيلية.
لا يوجد لإيران من تأثير تتمكن من خلاله إثبات عقيدتها الأمنية إلا من خلال استخدام مبدأ إظهار القوة وضبط النفس في مزاوجة سياسية براغماتية تتصف بها القيادة الإيرانية، وبدأت بالتلويح عبر ادواتها الاعلامية وتصريحات مسؤوليها العسكريين وبعض قيادات الاحزاب الإيرانية المؤتلفة حول إعادة النظر بعقيدتها النووية والدفع باتجاه تطوير قدراتها النووية وزيادة فعالياتها في ضوء الالتزام بمبدأ الردع المقابل والتوازن الاستراتيجي بعد المواجهات العسكرية الإسرائيلية في الجنوب اللبناني والضربات الجوية على المواقع الإيرانية في الميدان السوري واستهداف الأليات الاقتصادية لجماعة الحوثيين في اليمن، مع الحفاظ على الركائز والاسس التي بنتها خلال العقدين الماضيين بإشراف قائد فيلق القدس قاسم سليماني قبل استهدافه في الثالث من كانون الثاني 2020 من قبل القوات الامريكية، والتي شكلت إستراتيجية عسكرية وأمنية واقتصادية احتواها المشروع السياسي الإيراني.
وأمام هذه المعطيات الميدانية استمرت السياسية الإيرانية في اتصالاتها المستمرة عبر وسطاء سياسين ودول عربية ذات علاقات متينة مع الإدارة الأمريكية لتحقيق الغايات الإيرانية في إنهاء الملف النووي الإيراني ورفع العقوبات الاقتصادية وإطلاق الأموال المجمدة، وبغية تعزيز الدور الإيراني ضمن الإطار السياسية لادارة الرئيس بايدن، يأتي تصريح مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية وليام بيرنز بأنه لا يوجد دليل على أن إيران قررت بناء سلاح نووي، وأن الولايات المتحدة ستكتشف أن طهران غيرت عقيدتها النووية قبل أن تتمكن البلاد من تطوير الأسلحة النووي واجتيازها الوقت المناسب لتخصيب ما يكفي من المواد الانشطارية لمستويات يمكن استخدامها لصنع قنبلة واحدة قد يبلغ أسبوعاً أو أكثر قليلاً.
تبقى العقيدة الإيرانية ثابتة في غاياتها ومصالحها وتمسكها بالحفاظ على نظامها لادامة زخم مشروعها السياسي في التمدد والنفوذ وتعزيز دورها الإقليمي واقتناص الفرص السياسية التي توفرها الأحداث القائمة المستمرة في الشرق الأوسط والوطن العربي وتوظيفها لتحقيق أهدافها التوسعية ومكانتها في أي تسويات سياسية قادمة تشهدها المنطقة.
وحدة الدراسات الإيرانية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية