حصل العالم على مشاهد مذهلة لانتخابات رئاسية أمريكية غير مسبوقة، طبعها نشاط محموم يمتد من «البيت الأبيض» (حيث يقبع دونالد ترامب، الشخص المثير للجدل، الذي سكن «البيت الأبيض» لأربعة أعوام) إلى مركز قيادة خصمه الديمقراطي جو بايدن، مرورا بالشوارع التي امتلأت بالمظاهرات والمظاهرات المضادة، ومراكز إحصاء الأصوات التي حاولت على مدار أربعة أيام توجيه البوصلة من وقائع تشير إلى نجاح ترامب، إلى انقلابها المثير لصالح بايدن.
كانت وسائل الإعلام، خلال ذلك، لا تقل حماسا ومتابعة لكل ما يجري لحظة بلحظة، وكما فوجئ بعضها، وخصوصا المحسوب على جبهة ترامب والمتحمس لفوزه (كشبكة أخبار فوكس نيوز، وبعض القنوات العربية المحسوبة على السعودية والإمارات ومصر) بانقلاب الموازين، فقد تهلّلت شاشات بعضها الآخر (كحال سي إن إن و«الجزيرة» ومئات آلاف المواقع الالكترونية الإخبارية في أمريكا وخارجها) بصعود أنباء اتجاه كل المؤشرات إلى فوز بايدن، وصولا إلى إعلانها جميعا، بما فيها القلقة والمنزعجة من النتيجة، انتخاب بايدن الرئيس رقم 46 للولايات المتحدة الأمريكية، وانتخاب كمالا هاريس، الأمريكية من أصل هندي، نائبة للرئيس.
وإذا كان الأمر قد بدا صعبا على التصديق في البداية، وخصوصا بعد مقارنته بالمفاجأة التي قام بها ترامب قبل أربع سنوات، حين حطم فوزه كل تنبؤات استطلاع الرأي، وكذلك نتيجة الخوف من إمكان استمرار تأثير سياساته الشعبوية المهيّجة التي قسمت الأمريكيين، وأسست لوضعية يبدو فيها ترامب على رأس جهاز هائل، بدءا من مجلس الشيوخ الذي حافظ على أغلبية فيه، والمحكمة الدستورية العليا، التي نجح في إيصال أغلبية محافظة داخلها، مرورا بأجهزة الهجرة والشرطة والأمن التي وضعتها سياساته العنصرية في مواجهة مع المهاجرين والأقليات، رافعا منسوب التطرّف عبر دعم الميليشيات المسلحة البيضاء، ومتفوقا على الديمقراطيين في المعارك السياسية التي خاضوها ضده، مفشلا محاولتهم لتجريمه في مقدمة لعزله.
بدا الرئيس المنفلت من عقاله محصّنا وقادرا على توجيه الضربات لمن يواجهونه، من سلسلة مستشاريه ووزرائه الذين تخلص منهم، إلى قادة البنتاغون والمخابرات ومكتب التحقيق الفدرالي وموظفي الوزارات الكبار، وكان واضحا أنه يتجه إلى نصر آخر، وخصوصا حين نشبت المعارك بين قادة الحزب الديمقراطي ولم يتمكنوا إلا بشق الأنفس من اختيار جو بايدن، الذي هو أكبر عمرا من ترامب، وقد تعرّض مبكرا لحملات تقويض لسمعته ومكانته عبر استخدام الورقة نفسها التي استخدمها الديمقراطيون ضد ترامب: التدخل الخارجي (إضافة إلى الفساد).
كيف انقلبت الأمور وأصبح المفترس طريدة؟
عزا كثيرون دورا كبيرا في سقوط ترامب إلى ظهور وباء كورونا الذي تعامل معه الرئيس الأمريكي، في البداية، بالسخرية، وبتسميته بـ«المرض الصيني» ثم باتخاذ إجراءات كشفت، في الحقيقة، خلاصة سياساته العامّة التي يحتقر فيها القوي الضعيف، مما تسبب بوصول عدد الإصابات في أمريكا إلى الأعلى في العالم، فتمكن الوباء من قرابة 10 ملايين شخص، ومات منهم أكثر من 230 ألفا، وكان طبيعيا، بعد ذلك، أن يصاب الرئيس نفسه، وعدد من مساعديه، بالوباء الذي سخر منه.
ترافقت موجة كوفيد 19 مع مقتل جورج فلويد واندلاع احتجاجات في أمريكا والعالم على السياسات العنصرية لترامب، والممارسات القاسية للشرطة ضد السود، وقد حافظ ترامب، خلال هذه الاحتجاجات على موقفه المساند لممارسات الشرطة والتنكر للمطالب التي طرحها المتظاهرون.
لقد أفاض ترامب الكأس وحوّل الكثيرين من مناصريه السابقين إلى راغبين في التخلّص منه، وقد شهدنا في الانتخابات الأخيرة زيادة قياسية في عدد الأصوات المنتخبة، بما فيها قرابة 3 ملايين صوت زيادة لترامب عن الانتخابات السابقة، وهو ما يعني أن الأمريكيين اعتبروا ما حصل معركة وجود، وأن انتصارا جديدا لترامب سيكون كارثة كبرى عليهم وعلى العالم، وبذلك تمكن الرئيس المتطرّف من هزيمة نفسه.
القدس العربي