من المرجح أن تعيد الولايات المتحدة في ظل الإدارة القادمة تأكيد التحفظ التقليدي تجاه التدخلات العسكرية، رغم أنها عامل رئيسي في صنع السياسات الخارجية الأميركية. وإذا كان هذا التحفظ يحد من مرونة واشنطن الإستراتيجية في ارتكاب أخطاء مأساوية بعد فشل سياسة “الاحتواء المزدوج” في الشرق الأوسط فإن العبرة من غزو العراق والذي أدى لاحقا لتغول إيران في المنطقة يمكن أن تنبثق عنه إستراتيجيات أكثر حكمة مستقبلا.
واشنطن- لم تتسبب الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة خلال السنوات الماضية في الشرق الأوسط وتكاليفها الباهظة التي أتت في شكل الآلاف من القتلى من جنودها، في تفويت أي فرصة أمام صناع القرار السياسي من الاستفادة من التكنولوجيا العسكرية المهمة، ولكن بدلا من ذلك أخرتها، نتيجة إخفاق سياسة “الاحتواء المزدوج”.
لقد أصبح من الواضح بعد الأشهر القليلة الأولى من الغزو الأميركي للعراق قبل 17 عاما أن الحرب لم تكن تسير على ما يرام كما تصورها واضعوها، ولم يكن الفشل في العثور على أسلحة دمار شامل سوى البداية، فقد أدى التدخل العسكري إلى انهيار تلك الدولة وأثبت عدم الكفاءة التنفيذية للإدارة الأميركية.
وهنا يثير روبرت فارلي أستاذ مساعد في كلية باترسون للدبلوماسية والتجارة الدولية بجامعة كنتاكي في تقرير نشره موقع “ذا ناشيونال انترست” عدة تساؤلات تدور حول ماذا لو “أنقذنا اللعبة” قبل غزو العراق؟ وكيف كان يمكن للولايات المتحدة أن تدير دولتين معاديتين (العراق وإيران) بجوار بعضهما البعض؟ وكيف كانت ستبدو الخيارات الإستراتيجية اليوم؟
مقاربة قصيرة النظر
في عام 2003، خاض المحللون والخبراء ومراكز البحث نقاشات مستفيضة حول سياسة “الاحتواء المزدوج” باعتبارها مشكلة تحتاج إلى حل، واليوم يدرك الأكثر حكمة بين الأميركيين أن تلك المقاربة كانت، إلى حد كبير، حلا لمشكلة خاصة لأن عداء نظام صدام حسين ونظام الملالي في إيران يعني أنه لا يمكن لأي منهما تحقيق نفوذ شامل في الخليج.
ويشير فارلي المحلل الأميركي في شؤون العقيدة العسكرية والأمن القومي والشؤون البحرية إلى أنه في أعقاب حرب العراق أصبح “الاحتواء المزدوج” “إدارة حالة متداعية”، حيث لم يعد العراق موجودا كفاعل إستراتيجي ذي صلة، بل نما النفوذ الإيراني في تلك الدولة وامتد إلى كل من سوريا ولبنان واليمن.
وفي حين أن الولايات المتحدة لم تعد تقلق بشأن صدام حينها، فقد اضطرت إلى تكريس اهتمامها العسكري والسياسي ليس فقط للحفاظ على حكومة بغداد المهتزة، ولكن أيضا لمقاومة القوة الإيرانية في المنطقة.
ويرى فارلي أنه من الصعب تحديد تأثير حرب العراق على “الربيع العربي”، فقد كان واضعو الحرب آنذاك يأملون في أن يؤدي إنشاء عراق ديمقراطي إلى تحفيز ردود الفعل المناهضة للاستبداد في جميع أنحاء المنطقة، رغم أنهم كانوا يأملون أيضا في تجنيب حلفاء الولايات المتحدة بما في ذلك مصر والسعودية ودول الخليج أي تداعيات محتملة للحرب.
وحدث شيء على هذا المنوال في العام 2011، ولكن بعد عشر سنوات من الانتفاضات الشعبية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والتي أطاحت بنظم حاكمة، توصل معظم السكان المنطقة إلى استنتاج يتمحور حول أن غزو العراق كان بمثابة فشل ذريع.
وبالفعل، كانت ثمار “الربيع العربي” محدودة في أحسن الأحوال، ومع ذلك تمثل تونس أوضح حالة للنجاح، بينما وقعت ليبيا واليمن في الفوضى، وأصبحت سوريا مرجلا لا ينتهي من العنف والوحشية، بينما استطاع المصريون إسقاط حكم الإسلام السياسي.
وفي العراق نفسه، يبدو أن إرث غزو 2003 هو عدم القدرة على الهروب من الالتزامات تجاه الحكومة العراقية الجديدة، حيث تواصل الولايات المتحدة العمل كقوة جوية عراقية، وتواصل الكفاح لتدريب قوات جيش عراقي يمكن الاعتماد عليها رغم أن الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب أصر على سحب القوات الأميركية من هناك.
ويعتقد فارلي أنه بعد خسارة الولايات المتحدة الكثير من الدماء وإنفاق الكثير من الأموال منذ عام 2003 وحتى الآن، أكثر مما أنفقته بين عامي 1991 و2003، فإن سياسة “الاحتواء المزدوج” كانت قابلة للإدارة على المدى الطويل من خلال وجهة نظر عسكرية ومالية بحتة.
وبينما كان الاحتواء المزدوج سيترك نظام صدام حسين في السلطة، فمن المحتمل أنه كان سيتجنب أسوأ الحروب الأهلية العديدة التي عانى منها العراق في الاثني عشر عاما الماضية. ومن المؤكد أن الحملة العراقية شغلت اهتمام الولايات المتحدة واستهلكت القدرات الأميركية، لكن احتمال التدخل العسكري الأميركي في حملة تضم إما روسيا أو الصين كان ضئيلا على أي حال.
كشفت حرب العراق عن مشاكل كبيرة في الطريقة التي ينظر بها الجيش والقوات الجوية إلى مستقبل الحرب
والصراع الوحيد الذي ربما لعبت الولايات المتحدة دورا فيه هو حرب أوسيتيا الجنوبية في عام 2008 رغم أن الجورجيين سعوا بشدة إلى التدخل الأميركي، إلا أن إدارة جورج دبليو بوش قصرت بحكمة دعمها للخطاب. ويعود صعود الصين والانتشار المتزايد لروسيا إلى عوامل جيوسياسية أكثر من أي شيء مرتبط على وجه التحديد بحرب العراق. وقد تمتع البلدان بالتأكيد بمزايا القوة الناعمة من الغزو الأميركي للعراق.
وبينما ترد موسكو بانتظام على انتقادات واشنطن لأفعالها في أوكرانيا بالإشارة إلى غزو العراق، رغم أنها تشير أيضا إلى حرب كوسوفو عام 1999 وتدخل ليبيا عام 2011، تشكك بكين بانتظام في الادعاءات الأميركية لنفوذها في بحر الصين الجنوبي، والتي يغذيها إلى حد ما الاستياء المستمر من غزو العراق، لكن التأثير طويل المدى لتعزيز القوة الناعمة غير مؤكد.
وبالنسبة لأفغانستان، فقد أثر غزو العراق عليها من ناحيتين، أولا حولت موارد الحكومة الأميركية بعيدا عنها في وقت كانت فيه طالبان تعاني من هزيمة مدمرة، وثانيا قوضت شرعية حرب أفغانستان من خلال تقديم العملية على أنها مجرد واحدة من عدة غزوات (محتملة) لدول إسلامية، وليس كجهد ضروري فريد لتدمير نظام فظيع بشكل فريد.
ومن المبالغة القول إن المزيد من الاهتمام بأفغانستان في منتصف العقد الماضي كان سيؤدي إلى التدمير الكامل لطالبان، ووضع حد للحرب وخاصة أنه كان من الممكن أن يؤدي الالتزام القوي لواشنطن تجاه كابول، والذي أصبح مستحيلا بسبب حرب العراق إلى الحد من الدرجة التي سعت بها باكستان لإحداث الأذى في المنطقة.
قد تكون أكبر آثار حرب العراق، والقيود الأكثر ديمومة، جاءت في كيفية تأثير الصراع على القوات المسلحة الأميركية وتغيير مواقف صناع القرار في واشنطن تجاه استخدام القوة. وفي ما يتعلق بالأولى، أدت حرب العراق بلا شك إلى إبطاء البحث والتطوير لأنظمة الأسلحة المتقدمة داخل وزارة الدفاع الأميركية، فدون تلك الخطوة، يرى فارلي أنه كان يمكن أن يكون لدى الولايات المتحدة أسطول أكبر بكثير من طائرات أف – 22 رابتور على سبيل المثال.
وليس ذلك فحسب، بل كانت البحرية الأميركية أمام فرصة تعزيز ترسانتها من مدمرات زووموالت، وقد لا تكون أنظمة القتال المستقبلية التابعة للجيش قد “ماتت موتا مخزيا”.
وربما يكون البنتاغون قد استفاد من العقد الأول من القرن الـ21 لمتابعة مجموعة متنوعة من التقنيات “التخريبية” التي كانت ستجعلها متقدمة على روسيا والصين أكثر مما هي عليه الآن. ومن المؤكد أن وزير الدفاع الأسبق دونالد رامسفيلد جعل السعي وراء مثل هذه التقنيات أولوية، على الأقل قبل أن يخرج العراق خططه عن مسارها.
الصراع الوحيد الذي ربما لعبت الولايات المتحدة دورا فيه هو حرب أوسيتيا الجنوبية في عام 2008 رغم أن الجورجيين سعوا بشدة إلى التدخل الأميركي
لكن التكنولوجيا المتاحة نادرا ما تهيمن على عملية صنع القرار الإستراتيجي رغم أنها يمكن أن تعزز تقنيات الطائرات المقاتلة والمدمرات البحرية، لكنها بالكاد كانت ستغير خطوط اتجاه القوة النسبية في شرق آسيا. وبالمثل، لم تكن أنظمة القتال المستقبلية ستعطي الولايات المتحدة الكثير من الخيارات السياسية لمقاومة الزحف الروسي على أوكرانيا.
ومن الواضح أنه من الخطأ الاعتقاد بأن الأموال والاهتمام المخصّصين للعراق كان يمكن أن يتحولا دون إشكالية إلى البحث والتطوير إذا كانت إدارة بوش قد قررت عدم التدخل.
وعلاوة على ذلك، فإن مطالب حرب العراق وكذلك الصراع في أفغانستان دفعا بعض التطور التكنولوجي، فقد كشفت حرب العراق عن مشاكل كبيرة في الطريقة التي ينظر بها الجيش والقوات الجوية إلى مستقبل الحرب، ما دفع إلى ابتكارات تكنولوجية وعقائدية أدت إلى تحسين القدرات القتالية الأميركية.
العرب