أميركا ليست “كاريتاس”. وساكن البيت الأبيض، سواء كان ديمقراطياً أو جمهورياً، ليس “بابا نويل” يوزع الهدايا على بلدان العالم. لكن العادة، كلما جاء رئيس أميركي جديد، هي أن ينتظر ويطلب منه كل بلد شيئاً ما لتحسين وضعه أو لإضعاف خصمه. ولا حدود للمطلوب هذه المرة من الرئيس جو بايدن بعد مرحلة “اللايقين” والمفاجآت أيام الرئيس السابق دونالد ترمب، بصرف النظر عما يطلبه بايدن لأميركا من هذه البلدان. مطالب الذين كان ترمب كابوساً بالنسبة إليهم. ومطالب الخائفين على ما نالوه من الرئيس السابق. والكل يستعجل نهاية “المراجعة” التقليدية التي تقوم بها الإدارة الجديدة لسياسات القوة العظمى في المرحلة السابقة. غير أن الأولويات الملحة للإدارة تبلورت: مكافحة كوفيد-19، الانحباس الحراري، العدالة العنصرية، تجديد البنية التحتية، التعافي الاقتصادي، والعودة إلى مركز القيادة في العالم.
أما المعادلة الحاكمة للاستراتيجية الأميركية في مرحلة ما بعد غزو أفغانستان والعراق وما انتهى إليه من فشل، ثم مرحلة ما بعد فشل الرهان على “الربيع العربي” وسيطرة “الإخوان المسلمين”، فإنها محددة: التوجه نحو “المحور” في الشرق الأقصى حيث مستقبل الثروة والقوة، والتخفيف من بعض الأعباء في الشرق الأوسط وحروبه التي لا نهاية لها. وضمن المعادلة يأتي التركيز على اللعبة المعقدة في الصراع والتنافس والتعاون مع الصين الصاعدة وروسيا العائدة. ولا شيء يوحي، حتى إشعار آخر، أن من السهل تحقيق دعوات بايدن إلى الوحدة الوطنية، وسط أعمق انقسام زاد فيه ترمب. إذ “أهم تحد لأميركا هو أن تتعلم فن الوحدة في غياب أي حرب أو تهديد كبير”، كما قال الرئيس ريتشارد نيكسون. والتهديد اليوم من الداخل وأبعد من “غزوة الكونغرس”.
ومن الطبيعي أن يكون السؤال الملح في الشرق الأوسط عن سياسة بايدن في المنطقة. وهو لم يتأخر عن إعطاء الإشارات المعبرة حتى وسط المراجعة الدائرة. ولا كان ما أعلنه في خطاب من مبنى وزارة الخارجية سوى بدء التطبيق لما وعد به كمرشح في مقال نشرته مجلة “فورين أفيرز”. الاهتمام الأول كان حيال إيران: الاتفاق النووي لجهة البحث عن اتفاق “أقوى وأكثر استدامة”، الحد من برنامج الصواريخ الباليستية، وإنهاء السلوك “المزعزع للاستقرار” والتراجع عن تمدد نفوذ إيران الموصوفة أميركياً بأنها “أكبر دولة راعية للإرهاب”. حماية الحلفاء والأصدقاء والتزام الدعم الأميركي للسعودية والتعاون معها “للدفاع عن سيادتها والتصدي للتهديدات التي تستهدفها”، مع “وقف الدعم للعمليات الهجومية في اليمن والتركيز على تسوية سياسية تنهي الحرب”. العودة إلى “حل الدولتين” في النزاع الفلسطيني- الإسرائيلي، ولكن “الحل صعب ويحتاج إلى وقت”، من دون التراجع عما قدمه ترمب لإسرائيل في الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها، وعن اتفاقات السلام بين خمسة بلدان عربية وإسرائيل، والتركيز على محاربة “داعش” والإرهاب.
ولا مهرب لأميركا من الشرق الأوسط. فكلما حاولت الهروب منه، لحق بها إلى واشنطن ودفعها إلى الاهتمام بقضاياه لحماية مصالحها الحيوية وأصدقائها. ومهما أعاد مستشار الأمن القومي تنظيم المجلس لجهة تصغير مكتب الشرق الأوسط وتكبير مكتب الشرق الأقصى، عادت المنطقة إلى فرض نفسها. لكن المسألة في النهاية ليست فقط ما الذي يريده بايدن وما الذي يستطيع فعله في الشرق الأوسط، بل أيضاً ما الذي نريده نحن وما الذي نستطيع فعله لأنفسنا بأنفسنا وبالاعتماد على أميركا. والمعيار هو تقاطع المصالح.
قاعدة الاهتمام الأميركي لأي بلد هي: إلى أي حد يمكن أن يفيدها، وإلى أية درجة يستطيع أن يؤذيها. والترجمة العملية لذلك، كما يختصرها كريم سادجادبور من “كارنيغي”، هي “أن نقل الموارد السياسية من الشرق الأوسط إلى آسيا انعكاس للوقائع الاقتصادية الأميركية ضمن تطبيق سياسة خارجية في مصلحة الطبقة الوسطى. فسياسة آسيا تؤثر مباشرة في المزارعين الأميركيين والمؤسسات والشركات التكنولوجية على عكس الشرق الأوسط”. لا بل إنه “بعد عقدين مؤلمين في العراق وأفغانستان تراجع الدعم الشعبي في أوساط الجمهوريين والديمقراطيين لإطلاق عمليات من هذا النوع في الشرق الأوسط”.
ولا شيء يفيدنا إذا بقي الفلسطينيون منقسمين، واللبنانيون متباعدين تحت الهيمنة، والعراقيون رهائن في ساحة لتصفية الحسابات، والحروب الأهلية تضرب سوريا وليبيا واليمن، والصراعات السلطوية تشل تونس.
رفيق خوري
اندبندت عربي