ساهم حراك الفلسطينيين ضد قرار مرتقب لمحكمة إسرائيلية بانتزاع بيوت عائلات فلسطينية من حيّ الشيخ جرّاح وتسليمها لمستوطنين في خلق موجة معاكسة لمسار تواطؤ عربيّ وعالميّ مع دولة الاحتلال الإسرائيلية، وكان من تداعيات هذه الموجة إعادة التذكير بالجذور السياسية للقضية الفلسطينية بمجملها، وليس بقضيّة الحيّ المذكور، ولا بالمعركة على المسجد الأقصى والقدس، أو بالأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 فحسب، بل بالأركان الأساسية التي بني عليها الظلم الواقع على الفلسطينيين منذ نكبتهم عام 1948.
كما في قضية الشيخ جرّاح، فإن جذر المشروع الإسرائيلي لا يقوم فقط على الإحلال العنيف لمجموعة بشريّة مكان أخرى، بل كذلك على إضفاء «عدالة» على ذلك الإحلال.
من الكوارث الكبرى في التاريخ الحديث للعالم (والفلسطينيين) أن المنظومة العالمية، الغربية الرأسمالية منها والشرقية الشيوعية، ساهمت، في لحظة إعادة فك وتركيب للعالم بعد الانتصار على الحلف الألماني الإيطالي الياباني، في فعل إضفاء العدالة والتبرير والشرعنة والقوننة للمشروع الإسرائيلي.
تمكّنت أجزاء من ضحايا هذه المنظومة، من إنجاز تغييرات كبيرة لأمت جراح أمم وبلاد كثيرة، كما حصل في ألمانيا التي توحّدت بعد احتلالها وتقسيمها من جيوش الشرق والغرب، وما جرى في دول البلطيق، أستونيا ولاتفيا وليتوانيا، ودول الاتحاد السوفييتي السابق في آسيا، ودول أوروبا الشرقيّة، في موجة تحرّر عالميّة استثنت من تأثيرها البلدان العربيّة، التي سيخضع بلدان كبرى فيها بعدها لأشكال من الاحتلال والتفكك والانحلال بشكل زاد اتجاهات الاستبداد بالتناظر مع توجّه متزايد للتطبيع مع إسرائيل.
يمكن اعتبار اتفاقية أوسلو عام 1993 لقاء بين توجّه المنظومة الغربيّة لتسوية القضية الفلسطينية (التي يصعب على أحد عدم رؤية تأسسها على ظلم شارك فيه العالم) مع توجّهها لإضفاء طابع قانونيّ «نهائيّ» على إسرائيل.
بدلاً من استغلال إسرائيل هذه النافذة الجديدة التي فتحها العالم أمامها، وأمام الفلسطينيين التواقين إلى بناء دولتهم الوطنيّة ذات السيادة ولو على جزء من أرضهم التاريخية فحسب، أعادت إسرائيل نظم مشروعها مجددا لتكون البوصلة التي تحرّك الإرهاب والشرّ، والتي تدعم أي مشروع استبداديّ صاعد، ليس في محيطها العربيّ فحسب، بل في كافة أنحاء العالم.
تضافر هذا التوجّه، بسرعة، مع توجه نخب عسكرية وأمنية وسياسية في دول عربية غرق زعماؤها في مشاريع تقتيل شعوبها، وتدمير بلدانها، ونهب الثروات الباطنية في أراضيها، بحيث أصبحت إسرائيل هي النموذج الأقصى لطموح تلك الأنظمة، وحليفتها المنشودة، فيما تقمّصت شعوب عربية عديدة حالة الفلسطينيين، وبدأت تعاني من أشكال الاحتلال «الوطني» والتغيير الديمغرافي، والوحشيّة المتناهية. تضافر هذا المنحنى أيضا مع ظهور تيارات سياسية شعبوية عالميّة، في أمريكا دونالد ترامب، وبرازيل جايير بولسونارو، وفرنسا مارين لوبان، وهنغاريا فيكتور أوربان، والهند في ظل حكم ناريندرا مودي، تجد أيضا في إسرائيل مثالا يحتذى وحليفا موضوعيا.
وكما وجدت إسرائيل نفسها في هيئة الحكام المستبدين العالميين، فقد كان طبيعيا أن يجد أنصار الحرّية والديمقراطية وكارهو الطغيان في قضية الشعب الفلسطيني تذكيرا مستمرا بالتواطؤ العالمي على الظلم، بحيث يختصر نضال الشيخ جراح، والقدس، والأراضي المحتلة الفلسطينية، مجمل نضال الإنسانية، وتوقها إلى الحرية.
القدس العربي