للمرة الرابعة تلجأ مصر إلى مجلس الأمن الدولي، محذرة من إقدام إثيوبيا على خطوة الملء الثاني أحادياً ومن دون اتفاق قانوني ملزم حول تشغيل السد الكبير. في المرة الأولى قبل عامين تقريباً، انتهى الأمر إلى تفويض مجلس الأمن للاتحاد الأفريقي متابعة مفاوضات الدول الثلاث وصولاً إلى حل يرضيهم.
كانت الفكرة الظاهرية وراء قرار مجلس الأمن هي أن المنظمات الإقليمية أجدر بأن تحل أزمات أعضائها سلمياً. لم ينظر أعضاء مجلس الأمن الدولي آنذاك إلى أن إثيوبيا هي مقر المنظمة الأفريقية. كان القرار الدولي تأكيداً لهروب المجلس من مسؤوليته حسب الميثاق الأممي، فضلاً عن كونه محاباة لموقف أديس أبابا الرافض لأي دور غير دور المنظمة الأفريقية كراعٍ للمفاوضات مع دولتي المصب، والتي أجادت توظيفها كدولة مقر في السنوات السابقة من أجل إضاعة الوقت واستكمال بناء السد، وفرض أمر واقع يُصّعبْ الأمور على دولتي المصب، ويجعل النيل خاضعاً تماماً للسيادة الإثيوبية.
لم يكن أمام مصر والسودان، لرفع الحرج عن نفسيهما، سوى التعامل مع المفاوضات برعاية أفريقية لعل جديداً يحدث، ويؤدي إلى انفراجة حقيقية. عملياً وبعد عامين من المفاوضات برعاية دولتي الرئاسة للمنظمة، أولاً جنوب أفريقيا، ثم ثانياً الكونغو الديمقراطية، لم يُبدِ الموقف الإثيوبي أي قدر من المرونة، وانتهى الأمر قبل عام إلى قيام أديس أبابا بالملء الأول دون أي اتفاق مع دولتي المصب، ومعروف كم أدى من خسائر كبيرة للسودان، على صعيد نقص مياه الشرب لأكثر من 20 مليون مواطن سوداني، والارتباك في تشغيل سد الروصيرص وانقطاع الكهرباء عن مساحات واسعة من البلاد. وهو الموقف الذي أصاب في مقتل كل الادعاءات التي أصرت عليها قوى سودانية ذات امتداد سياسي ومعنوي لنظام البشير المخلوع باعتبار إثيوبيا «أخت بلادي»، وأن سدها المُنشأ أصلاً على أراضٍ سودانية هو مصدر للخير والكهرباء الرخيصة، ومساعد على تنظيم الدورات الزراعية. وهو ما ثبت كذبه وخداعه مع الملء الأول المفاجئ. وما زالت إثيوبيا تصر على الملء الثاني أحادياً رغم التعثر في تعلية الجزء الأوسط.
القلق المتفق عليه الآن بين مصر والسودان، وبعد التحولات المهمة التي حدثت في علاقات البلدين سياسياً وعسكرياً واقتصادياً في العام الماضي، أنه لا يجوز قبول قيام إثيوبيا بأي تحرك أحادي بشأن ما يعرف بالملء الثاني قبل الاتفاق مع دولتي المصب على أسس تشغيل السد وفق إطار قانوني ملزم، ويشهد على توقيعه وضمان الالتزام به قوى دولية معتبرة. التنسيق الجاري الآن بين القاهرة والخرطوم يشهد نقلات مهمة ليس فقط في الرؤية العامة، بل أيضاً في التفاصيل؛ كالتحرك تجاه دول عتيدة في أفريقيا وقوى دولية، ومؤسسات دولية، فضلاً عن الاستعداد الفعلي لأي عمل قد تقتضيه اعتبارات الأمن القومي لكلا البلدين، سواء بالنسبة لأمن حدود السودان الشرقية، أو الأمن المائي للبلدين. وهو ما جسده الاتفاق العسكري بين البلدين الموقع في مارس (آذار) الماضي، وأوضحه بيان مجلس الدفاع العسكري السوداني في السادس من يونيو (حزيران) الحالي، والبيان الصادر عن اجتماع وزراء الخارجية والري للبلدين في الخرطوم الخميس الماضي.
التحركات المصرية تجاه عدد من الدول الأفريقية ذات الطابع الأمني والعسكري تمثل بُعداً مهماً من أبعاد التحرك المصري تجاه دول القارة ككل، والتي تعكس حرصاً على تشكيل بيئة أفريقية تتفهم ما يمكن أن تضطر إليه القاهرة من إجراءات صعبة لحفظ حقوقها المائية، ومواجهة الدعاية الإثيوبية التي شوهت لفترة طويلة الدور المصري في القارة، وصورته كدور استعماري يكره تنمية شعوب أفريقيا ويستنزف مواردها المائية بغير حق.
السؤال الذي يطل برأسه الآن، ما هي فائدة الذهاب إلى مجلس الأمن، بعد أن تكاسل في السابق عن اتخاذ موقف يفترض القيام به لحفظ الأمن الإقليمي في منطقة حيوية لأفريقيا وللعالم ككل؟ الملابسات التي تحيط بكل التحركات المصرية والسودانية تضع الإجابة في معادلتين مترابطتين؛ الأولى أن سياسة الصبر الاستراتيجي باتت غير مجدية، وأن انتظار مرونة إثيوبية مستبعد تماماً في ظل القناعات الإثيوبية السائدة بالقدرة على فرض أمر واقع دون حساب، وأن التخلي المصري السوداني عن الأمن المائي المستدام هو أيضاً أمر مستبعد تماماً. أما المعادلة الثانية فهي ضرورة التحول إلى نوع من الردع الاستراتيجي الشامل.
التحول إلى الردع الاستراتيجي الشامل هو جملة سياسات محكمة ومترابطة في اتجاهات عدة. الكثير من اللقاءات والرسائل إلى الزعماء العرب والأفارقة جزء من تحولات المشهد. اجتماع وزراء الخارجية العرب في قطر، ومناقشة ملف السد الإثيوبي وخطورته على مصر والسودان وثيق الصلة بتحديد ما الذي يمكن أن يحدث في الأسابيع المقبلة. التفاهمات المصرية السعودية التي تمت في لقاء الرئيس السيسي والأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي في شرم الشيخ قبل أربعة أيام، جسدت عمق علاقات البلدين وحرصهما المتبادل على مناصرة الحقوق العربية دون تردد، وتصب في ضبط المشهد الإقليمي بحكمة ورُشد.
الرسالة الرابعة التي وجهتها مصر إلى مجلس الأمن الدولي خطوة أخرى في تحولات المشهد، إذ تضع المجلس، لا سيما دوله الكبرى أمام مسؤولياته لحفظ الأمن والسلم الدوليين، وإن لم يفعل، فلا لوم على من يدافع عن حقه في الحياة والوجود بكل ما يستطيع. وإن فعل المجلس وتحرك جدياً وأسهم بفعالية في تطبيق المعاهدات الدولية وحفظ الحقوق المائية والحياتية لدولتي المصب، فحسناً يفعل. بيد أن المؤشرات الأولى لا توحي بإيجابية منتظرة. إذ رغم تحرك الولايات المتحدة نحو القرن الأفريقي ممثلاً في تعيين مبعوث مخضرم وهو جيفري فيلتمان لتلك المنطقة، فلا يشغل ملف السد سوى هامش محدود في الحركة الأميركية، مقارنة بالأولوية التي تحكم رؤية إدارة بايدن ومركزها حماية الدولة الإثيوبية من الانهيار والتشرذم إلى دويلات عرقية متناحرة، وفي الآن نفسه تهدئة مصر والسودان دون أن يقدم لهما ما يتوافق مع حقوقهما ومصالحهما في البقاء والوجود. والشيء بالشيء يذكر، فاهتمامات القوى الأخرى كروسيا والصين وفرنسا وبريطانيا تتعلق أساساً بالمنافسات بينهم، ودعم الحضور الأفريقي لكل منهم في مواجهة الآخر.
الردع الاستراتيجي يتضمن أيضاً أبعاداً عسكرية منضبطة، ذات مستويات وشرائح متعددة، وما بينهم جميعاً إجراءات متصورة نظرياً لتعطيل آليات عمل السد إلكترونياً، وجعله مجرد بناء غير مُجدٍ مائياً أو كهربائياً. ولكل من تلك المستويات تداعياته أفريقياً ودولياً. وهو ما يوضع أيضاً في الحسبان ووضع المشاهد المناسبة لكل منها. عملياً؛ الردع الاستراتيجي يتجاوز ضبط ملء السد وتشغيله، إلى إفشال استراتيجية إثيوبيا لاحتكار المياه وتحويلها إلى سلاح مدمر لحيوات الآخرين.
د. حسن أبو طالب
الشرق الاوسط