سؤال يتردّد: لماذا استعصى نظام بشار الأسد على الثورة، بالمقابلة مع الحكام الذين تهاوَوْا، تباعاً، أمام ثورات شعوبهم؟ كما زين العابدين بن علي، ومعمر القذافي، وحسني مبارك، وعلي عبدالله صالح؟
ألأنَّ حراك الشعب السوريّ لم يبلغ مرحلة القدرة على الحسم، حيث بقي الانقسام؟ واستبقى الأسدُ مؤيِّدين في الشارع السوريّ، لا يقتصرون على العلويّين والشيعة، بل امتدّوا إلى سُّنَّةٍ لم يتخذوا هذا الموقف فقط؛ لولائهم للنظام، الولاء الفكريّ، والعاطفيّ الوطنيّ، بل أيضاً لأسباب واقعيّة، إذ أرادوا الاحتفاظ بالأمن والاستقرار.
هل كان لشعار الممانعة والمقاومة، بما يمثّله من رداء ورِدْء أيديولوجيّ، أثر، سوريًّا وإقليميًّا، وفي المحصلة، شرعيًّا؟ أم أنها التوازنات الدوليَّة المتقاطعة فوق سورية، بموقعها الجيوإستراتيجيّ والجيوسياسيّ، وبقربها من إسرائيل، وتراجُع القوّة الأميركية دوليًّا، وتردُّد إدارة باراك أوباما، أو إسقاطها الخيارات العسكريّة؟
وهنا، نستذكر بدايات الموقف الأميركيّ من التظاهرات في سورية، حيث رأت الإدارة الأميركيَّة ممثَّلةً في وزيرة الخارجيَّة، هيلاري كلينتون، في بشار الأسد رجل إصلاح، مستندةً إلى أن هذه قناعة أعضاء الكونغرس، ورافضةً خيار التدخُّل العسكريّ في سورية، كما تدخَّلت في ليبيا؛ بحجَّة أن القذافي استعان بالطيران، وألقى القنابل على مدنه، من دون تمييز. ولكن الموقف الأميركيّ لم يتطوّر إلى بحث التدخُّل العسكريّ، حتى بعد أن أصبح جيشُ الأسد يُلقي ليس فقط القنابل، بل البراميل المتفجّرة، والكيماويّ…!
ونستذكر العلاقات الأميركيّة السوريّة، قبيل التظاهرات، حيث كان خطّها البيانيّ يشير إلى صعود فيها، وتحسُّن، فقد تعافت العلاقات بينهما، وعادت الدبلوماسيّة صريحة، ومباشرة، بعودة السفير الأميركيّ، روبرت فورد، إلى دمشق. ما جعل آراءً، فيما بعد، تذهب إلى أن واشنطن، حين اندفعت تؤيِّد مطالب الشعب السوريّ، أو القسم الأكبر منه، في مطالبه بالحريّة، ثم دعواتها المتكرّرة للأسد بالرحيل، إنما كانت تحاول الاحتواء والاستدراج؛ لأنها لم تتّخذ أيَّ مواقف عمليَّة لتحقيق ذلك، بل انتهت، أخيراً، إلى عدم اشتراط رحيله، جزءاً من الحلّ السياسيّ، كما جاء على لسان وزير الخارجيّة، جون كيري، إذ قال: “توقيت رحيل الأسد عقب إبرام اتفاق سلام سيكون قابلا للتفاوض”.
أم أن صمود الأسد عائدٌ إلى التوازنات الإقليميّة، وتشابك الملفّات من العراق إلى لبنان جعل دمشق، وهي التي كانت قبل ثورتها فاعلاً مهمّا في تشكيل أحوال الإقليم، تغدو محلّا للتدخّلات الإقليميّة السافرة، والدوليّة. أم أن انعكاسات الأوضاع في أقطار الربيع العربيّ، وأهمُّها وأكثرها تخويفاً، ليبيا ومصر واليمن، وأقلُّها تونس، قد عزَّزت تلك المخاوف من الفشل، وألا تحقِّق تلك التضحيات الجسيمة إلا التصدّعات والانقسامات، ودمار البلد والمقدَّرات. وهو ما جاء تأثيره متأخِّراً، إذ كانت البلاد قد بلغت مرحلة اللاعودة، بعد جلاء الصورة في تلك البلدان؛ ذلك أن النظام لم يمهل الثوّار، فأغرق البلاد بالدماء، وكان الضحايا كثُراً في الطرفين، لكن تلك الانعكاسات عزَّزت التردّد الشعبيّ؛ فأسفرت عن مواجهة عسكريّة، وتلاشت السِّلميّة.
وهذا يدعونا إلى فرضيّة أخرى، هي مقدار البطش الذي استخدمه نظام الأسد، ولم يكن وحدَه من الحكام المستهدفين من شعوبهم مَن يملك ذلك، لكنه خُليّ بينه وبين ذاك البطش المهول، وهو ما لم يحدث في ليبيا، مثلاً، حيث سارع حلف الناتو إلى منع القذافي من الإجهاز على الثوّار في بنغازي، على الرغم من أنهم كانوا مسلَّحين، وليس كذلك الثورة السوريّة، في بدايتها التي استمرّت ثمانية أشهر سلميّة. ولولا الحرج البالغ، لربما ما انعطف الموقف الأميركيّ، إلى الدعوة إلى تسليم السلاح الكيماويّ، عندما أمعن الأسد في استخدامه، في مَقاتِل واسعةٍ، يندى لها جبين كلَّ إنسان.
أم أن المنحى الذي نحته الثورة السوريّة نحو (الإسلاميّة)، حتى في شعارات الجيش الحرّ، وشعارات الجُمَع التي كانت تنادي، أحياناً، بتطبيق الشريعة صراحة، أو بترك التعويل على الدول الأجنبَّية؛ ما يعني ضمناً رفض التعاطي مع شروطها، أو فقدان الثقة بوعودها، في أحسن الأحوال: “ما إلنا غيرك يا الله”، جعَل الدول الفاعلة أكثر حذراً في التفريط بنظام الأسد المعروف، مقابل بديل غير مضمون؟ وزاد في ذلك الحذر طفوُّ حركات وجماعات أكثر راديكاليّة، أو تطرُّفاً، وإرهاباً، كما داعش التي أضحت، فيما بعد، الذريعة القويَّة للتدخّلات الغربيّة، وللتحالف الدوليّ الذي أسّسته أميركا، وقادته ثم إلى التدخُّل الروسيّ؛ لحماية النظام وتعزيزه، امتداداً بالنفوذ الروسيّ إلى كلّ سورية.
يمكن القول إن العامل الأهمّ في بقاء الأسد لا يعود إلى عوامل داخليّة، من قبيل نقصان الانخراط الشعبيّ في الثورة، والحبّ الشديد للقائد الكاريزميّ، بشار الأسد، أو للأوضاع الاقتصاديّة والمعيشيّة في سورية، حيث لم يكن الدافع الاقتصاديّ هو الأهمّ (على الرغم من تركُّز الثروة والامتيازات بأيدي عائلات ومراكز قوى مقرَّبة من نظام الأسد وعائلته)، ولكن الشعارات الأولى كانت تطالب بالحريّة والكرامة “الشعب السوري ما بِنذلّ”. وداخليّا أيضاً، لم يكن العامل الأهمّ عائداً إلى طبيعة النظام الأمنيّ، وتماسُك الحلْقة الضيّقة، وإخلاصها، على الرغم من الانشقاقات الملحوظة في الجيش، وسائر مؤسسات الدولة.
وأين من كلِّ ما ذُكر وغيره شعاراتُ حزب البعث:” حريّة اشتراكيّة…”؟
ولم يكن صمود نظام الأسد عائداً إلى الدعم الإقليميّ المتمثل في إيران والعراق وحزب الله وغيره. ولا في الخطاب الإيديولوجيّ الممانع والمقاوم، بوصفه خطاباً عابراً للأقطار، ومستحضراً الصراع الأهمّ، والأكثر حساسيّة في المنطقة، وهو الصراع العربيّ الإسرائيليّ؛ ذلك أن هذا الخطاب لم ينجز على الأرض السوريّة، ولدى الشعب السوريّ، إذ ظلّ جزءٌ مهمّ من أرضه محتلّا، وهو الجولان، والمفترض في الدولة، أيّ دولة، أن يكون انتفاعُها بالخطاب الأيديولوجيّ داخليّا، أولاً؛ لتعزيز شرعيّتها، ولتوهين أيّ تشكيك، أو استهداف لها. وأن يكون ذلك خطاباً جامعاً، وهو الأمر الذي لم ينجح؛ إذ طغت عليه الممارسات الفعليّة القاسية والأمنيّة.
نعم، لم تكن العوامل السابق ذكرُها الأهمّ، وإنما الأهمّ هو العامل الدوليّ الذي ظلّ غير مساند للثورة، بل إنه فعليّا، ولو جزئيّا، كان مسانداً للنظام. هذا العامل الذي ما إنْ تبلور في الثورات العربيّة السابقة (وليس من دون أسباب موجِبة، ومعطيات محليّة)، حتى غلّب التيّار الثوريّ على التيّار الموالي، فلم يكن الحسم الشعبيّ الكامل متوفّرا لا في ليبيا، ولا اليمن، ولا حتى في مصر، وتونس، واليوم التالي لـ(النُّظُم الجديدة) كشف عن إعادة إنتاج لتلك النظم في مصر، وفي تونس، ولو في المستوى الفكري. أمّا اليمن وليبيا، فلا تزال الصراعات فيها تعبِّر عن تلك الانقسامات الداخليّة. وها هو الموقف الدوليّ يعود بصراحة، حتى لا نقول، وصفاً آخر، إلى محاولة تأهيل الأسد، ولو مرحليّا، بعد كلّ الجرائم التي وُصفت بأنها جرائم حرب، أو جرائم ضدّ الإنسانيّة. وما دام أن العامل الدوليّ هو الأكثر تأثيراً، فإن مصير الأسد يبقى رهين تلك التفاهمات والمساومات الدوليّة، ثم الإقليميّة.
أسامة عثمان
صحيفة العربي الجديد