مرت أسواق المال الأميركية في يناير/كانون الثاني بمرحلة اضطراب تزامنا مع تولي إدارة جو بايدن مقاليد السلطة رسميا، لكن بعد 5 أشهر من قدوم الإدارة الجديدة، سجلت مؤشرات “إس آند بي” (S&P) و”داو جونز” (Dow Jones) ارتفاعا قياسيا، وارتفع أداء الأصول الشخصية بشكل مفاجئ بنسبة 1200%، في حين انخفض سعر الدجكوين (Dogecoin) -وهي عملة رقمية بدأت كمزحة- بنسبة 40%.
في تقرير نشرته مجلة “تايم” (time) الأميركية، يقول الكاتب توماس ليفينسون إن أكثر ما يثير قلق المراقبين عند قراءة هذه المؤشرات هو أنها تشبه إلى حد كبير ما حدث في أسواق الأسهم الأميركية قبل انهيار بورصة وول ستريت في أكتوبر/تشرين الأول 1929.
وقد تحدث روبرت شيلر الحائز على جائزة نوبل عن هذا التشابه بمقال نُشر في أبريل/نيسان الماضي، حين قال إنه كما حدث أواخر عشرينيات القرن الماضي “تعامل الناس مع السوق كلعبة كبرى يحفزها الابتكار التكنولوجي ووسائل الإعلام الجديدة”.
ويرى الكاتب أنه رغم أن الاندفاع الجماعي نحو تحقيق الأرباح السهلة لعب دورا محوريا في أزمة 1929، فإن تاريخ الرأسمالية يُثبت بوضوح أن السبب الأساسي للأزمات الحادة ليس التصرفات الفردية المتهورة، بل طبيعة النظام الرأسمالي ذاته، والذي يثير بشكل منهجي الهوس والجشع والرغبة في تحقيق الثراء السريع.
أزمة 1720
حدثت أول أزمة مالية في لندن عام 1720، وأُطلق عليها “فقاعة بحر الجنوب”. وذكر أولئك الذين عاشوا تلك الأزمة أن المغامرة بدأت في يناير/كانون الثاني عندما أبرمت الحكومة البريطانية صفقة مع شركة البحر الجنوبي التي تأسست قبل 9 سنوات لإقراض المال للخزانة العامة مقابل احتكار تجارة البضائع والعبيد مع ما كان يُسمى “أميركا الإسبانية”.
تضمنت الصفقة السماح للشركة بإصدار أسهم جديدة وإمكانية استبدالها بسندات حكومية مما يعني أن أولئك الذين يتخلون عن السندات مقابل شراء أسهم الشركة سيحصلون على أرباح مخفضة بدلا من مدفوعات السندات، بالإضافة إلى جزء صغير من الأرباح المأمولة من التجارة عبر المحيط الأطلسي.
وبمجرد تسريب أنباء الصفقة، بدأت أسهم شركة بحر الجنوب في الصعود وتضاعفت 3 مرات من يناير/كانون الثاني إلى أبريل/نيسان، وتسارع الطلب على الأسهم خلال الربيع ووصل إلى ذروته أواخر يونيو/حزيران.
الحصول على مكاسب كبيرة في فترة وجيزة أو مشاهدة الآخرين يحققون ربحا سريع يولد هوسا بالمال (غيتي إيميجز)
مغامرة نيوتن
في تلك الفترة، كان العالم الفيزيائي إسحاق نيوتن مستثمرا ذا خبرة، ولديه محفظة واسعة تضمنت سندات حكومية وأسهما في بنك إنجلترا وشركتي الهند الشرقية والبحر الجنوبي ذاتها. في البداية، باع أسهمه لدى الشركة الأخيرة بحلول أيار/مايو، وحقق ربحا كبيرا.
ومع استمرار سعر سهم الشركة في الارتفاع واقترابه من ألف جنيه إسترليني، اشترى أسهما بالشركة في يونيو/حزيران، والمزيد منها منتصف أغسطس/آب.
لم يكن نيوتن وحده من قام بمثل تلك الخطوة، فقد فعلها آخرون مرارا وتكرارا ذلك الصيف، وفترات الازدهار والانهيار المالي طوال القرون اللاحقة.
وحسب الكاتب، فإن الحصول على مكاسب كبيرة في فترة وجيزة، أو مشاهدة الآخرين يحققون ربحا سريعا، يولد هوسا بالمال. وخلال تلك الفترة الاستثنائية، أقنع الارتفاع الصاروخي لأسهم شركة البحر الجنوبي آلاف المستثمرين ممن ليس لديهم خبرة سابقة بالأسواق المالية أن الحصول على ثروة مفاجئة أمر طبيعي ودائم.
بدأ الانهيار بعد 3 أسابيع فقط من عملية الشراء الثانية التي قام بها نيوتن، وبحلول أوائل أكتوبر/تشرين الأول، فقدت أسهم الشركة 70% من القيمة التي بلغتها في ذروتها، لتصل آخر العام إلى المستويات التي كانت عليها قبل الفقاعة.
ويقول الكاتب إن نيوتن نجا من الانهيار المالي بعد تلك المغامرة، فقد خسر أموالا تعادل حاليا أكثر من 3 ملايين جنيه إسترليني، واحتفظ في المقابل بنفس المبلغ أو أكثر قليلا في استثمارات أخرى، غير أن التجربة جرحت كبرياءه وكلفته غاليا.
سلوك متهور
لكن، لماذا كان نيوتن متهورا جدا ولم يتوقع العواقب رغم ذكائه وخبرته الاستثمارية؟ الجواب -وفقا للكاتب- أن نيوتن، رغم ما لديه من ذكاء، كان مجرد إنسان. وتُظهر أحداث عامي 1720 و1929، وربما أحداث اليوم أيضا، أن المنطق يغيب دائما خلال الطفرات المالية، وأن الأسواق ليست عقلانية كل الأوقات.
في الواقع، تبدو فقاعة الأسهم ربيع 2021 امتدادا للأزمات السابقة، حيث شهدت العديد من الشركات فقاعات صغيرة جعلت أسهمها ترتفع إلى مستويات أعلى بكثير مما تستحقه على أرض الواقع، كما أن تقلبات الآونة الأخيرة، الشديدة، في سعر البتكوين والعملات المشفرة الأخرى تخلف صعوبات مثل التي واجهها نيوتن ومعاصروه.
في النهاية، يتصرف البشر -حسب تعبير الكاتب- بحماقة وتهور أثناء تقلبات السوق، وهو ما يفرض وضع قواعد تحكم هذه السلوكيات، وقد ثبت منذ عام 1929 أن مثل هذه القوانين قادرة على الحد من المخاطر على الأفراد والنظام المالي ككل.
وقد يساعد إجراء بسيط، مثل زيادة متطلبات الهامش، على الحد من مقدار الضرر الذي يمكن أن يحدث جراء قرار مضاربة متهور، رغم أنه لا يقضي عليه تماما.
لكن المشكل الأساسي -من وجهة نظر الكاتب- أن الأزمات سرعان ما تتلاشى من الذاكرة، وتظهر آليات سوق جديدة لا تكترث بالمخاطر، وهو ما سبب الأزمة المالية الكبرى عام 2008.
المصدر : تايم