أدت سياسات العناد التي اتبعها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في خلافه مع الولايات المتحدة إلى انعكاس هذا الأمر بشكل مباشر على سلاح الجو وتسبب في تآكل تلك القوة التي تمثل العمود الفقري للجيش التركي، في وضع يعيد إلى الأذهان ما جرى مع إيران بعد سقوط نظام الشاه في أواخر السبعينات.
واشنطن – في فبراير من العام 2020 وفي أوج خلافه مع الولايات المتحدة أعطى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لمحة عن طبيعة الأزمة العميقة التي يعاني منها سلاح الجو في بلاده بعد تعليق واشنطن عملية بيع طائرات “إف – 35” الأكثر تطورا في العالم.
لم يكن أردوغان، صاحب النزعة السلطوية، قادرا على التخلي عن سياساته العدائية مع واشنطن من دون دفع الثمن، وهو ما انعكس سلبا على أهم سلاح حاسم في معارك خارجية عززت من الحضور العسكري لتركيا في سوريا والعراق وليبيا وأذربيجان ومناطق أخرى.
لكن لجوء الرئيس التركي إلى روسيا لشراء منظومة صواريخ “إس – 400” للدفاع الجوي تسبب في تعميق التوتر في العلاقات مع الولايات المتحدة وفرضها لعقوبات على النظام، وكان انعكاس تلك العقوبات مباشرة على القوة الجوية لأنقرة الذي أدى إلى تآكلها شيئا فشيئا، حيث يهددها بمصير مشابه لما جرى مع النظام الإيراني بعد سقوط نظام الشاه عام 1979.
وتقول الولايات المتحدة إن منظومة الدفاع الجوي الروسية لا تتوافق مع أنظمة الدفاع لحلف شمال الأطلسي “ناتو”، الذي تنتمي إليه أنقرة وكذلك واشنطن.
وراهنت أنقرة كثيرا على هزيمة الرئيس الجمهوري دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية من أجل إعادة تصحيح مسار العلاقات مع واشنطن، لكنها اصطدمت بمواقف أكثر تشددا من خلفه جو بايدن، الذي تعهد قبيل فوزه بفتح كافة الملفات الخلافية وخاصة انتهاكات حقوق الإنسان والتدابير القمعية في الداخل.
ويقول بوراك بكديل الباحث التركي والزميل في منتدى الشرق الأوسط بالولايات المتحدة، إن إحدى القضايا الأكثر سخونة في المناقشة التي استمرت 50 دقيقة بين أردوغان وبايدن خلال قمة حلف الأطلسي منتصف يونيو الماضي، كانت حول استحواذ تركيا على منظومة الدفاع الجوي روسية الصنع “إس – 400” بعيدة المدى والعقوبات الأميركية اللاحقة، بما في ذلك طرد أنقرة من الكونسورتيوم متعدد الجنسيات الذي تقوده واشنطن والذي يبني الطائرات المقاتلة من الجيل الخامس من طراز “إف – 35”.
ويضيف أنه من غير المستغرب أن ينتهي الاجتماع دون التوصل إلى حل، وهذه أخبار سيئة للقوات الجوية التركية. وخطط كبار الضباط العسكريين في تركيا على مدى أكثر من عقد لتطوير قدرات القوة الجوية المستقبلية على افتراض أنهم سيحصلون على ما لا يقل عن مئة طائرة من طائرات “إف – 35” بدءا من العام الماضي، لكن خلافات أردوغان مع واشنطن عطلت كل المساعي التركية في هذا الجانب.
وفي غمرة الخلافات أطلق الرئيس التركي تصريحات بشأن بدء بلاده مع حلول العام 2023 إنتاج مقاتلات من الجيل الخامس، وذلك للرد على منع واشنطن تزويد أنقرة بمقاتلات إف – 35” ، متعددة المهام من الجيل الخامس، والتي تجمع كافة واجبات القتال الجوي بأنواعها.
وتواجه القوة الجوية التركية العديد من التحديات في المستقبل، فهناك مخاوف من تزايد تآكل تلك القوة في غياب عمليات التطوير، حيث يرى خبراء أن ذلك السلاح مقيد بشكل كبير، خاصة بعد عملية الانقلاب الفاشلة في عام 2016 والزج بالمئات من الطيارين المتدربين في السجون.
وتدير القوات التركية أسرابا من الجيل الرابع من طائرات “إف – 16” و”إف – 4” القديمة في عملياتها ضد المسلحين الأكراد في جنوب شرق تركيا وكذلك في شمال العراق وسوريا وليبيا.
وكانت مجلة فوربس الأميركية قد أشارت في فبراير الماضي إلى أن تركيا تجري تحديثات واسعة النطاق لأسطولها من طائرات “إف – 16” المقاتلة، وأن هذه الجهود ضرورية لأنه من غير المرجح أن تشتري أنقرة أي بدائل من الجيل الخامس لفترة طويلة قادمة.
وحصلت تركيا على طائرات “إف – 16” من الولايات المتحدة في أواخر ثمانينات القرن الماضي، وأنتجت محليا الطائرة المقاتلة الشهيرة بموجب ترخيص، كونها واحدة من الدول الخمس التي تنتج الطائرة محليا. وتمتلك القوة الجوية التركية اليوم ما مجموعه 270 طائرة “إف – 16 سي.دي” في مخزونها، وجميعها من طرازات بلوك “30-40-50”.
وسيتعين من أجل التخلص التدريجي من معظم هذه الطائرات في غضون السنوات العشر إلى الخمس عشرة المقبلة على أساس الحاجة إلى تحديثها، حيث تثار تساؤلات حول ما إذا الكونغرس الأميركي سيسمح ببيع قطاع غيار الطائرات المقاتلة وتقديم الخدمات الضرورية لعمليات التحديث.
ويقول بكديل إنه ليس هناك الكثير من الخيارات المتاحة أمام تركيا لتقليل التدهور الحاصل في قوة ردع جوية، مشيرا إلى أن أنقرة لا تزال تمارس الابتزاز في علاقاتها مع الولايات المتحدة والحلفاء في الناتو عبر الحديث عن أنها قد تختار طائرة مقاتلة روسية “سو – 57” في حال شعرت بأنها مهددة بسبب عدم وجود طائرات مقاتلة من الجيل الجديد.
ويعتبر الباحث التركي أن هذا الأمر “خداع”، حيث يعرف جنرالات القوات الجوية جيدا أن التحول من الطائرات ذات المعايير التي يستخدمها حلف شمال الأطلسي إلى الطائرات الروسية بعد 70 عاما ليس مثل تغيير سيارتك الأميركية لصالح سيارة يابانية. وسيكون بناء هيكل تشغيلي جديد، وتعديل القواعد الجوية ونظم الإصلاح والخدمة والصيانة الجديدة مكلفا للغاية، ويستغرق وقتا طويلا، وصعبا من الناحية التكنولوجية.
ليس هناك الكثير من الخيارات المتاحة أمام تركيا لتقليل التدهور الحاصل في قوة ردع جوية، ورغم ذلك لا تزال تمارس الابتزاز في علاقاتها مع الولايات المتحدة والحلفاء في الناتو
وتفخر تركيا، من الناحية النظرية، ببرنامجها الخاص بالطائرات المقاتلة المحلية “تي.إف-إكس”. وتدير شركة توساش التركية لصناعات الطيران منذ سنوات برنامج “تي.إف- إكس”، حيث تعلن سلطات الدفاع والفضاء التركية عن “أخبار عاجلة” بشكل شبه يومي لإطلاع الشعب على أحدث المعلومات عن “تي.إف- إكس”، وذلك في إطار الدعاية الداخلية.
وفي الآونة الأخيرة، أعلنت توساش أنها بدأت في بناء ثاني أكبر نفق رياح أسرع من الصوت في أوروبا لإجراء اختبارات مستقبلية لـ”تي.إف- إكس”. وقالت الشركة إنها وقعت اتفاقا مع جامعة تركية لنظام برمجيات المقاتلة التركية.
ويعتبر بكديل أن تلك الأخبار المتداولة في الداخل التركي عبارة عن “قصص خيالية يحب الأتراك سماعها”. ويقول إن الرواية التي ترعاها الحكومة حول المقاتلة التركية في صنع الأهداف هي للاستهلاك المحلي فقط.
ويوضح أن “قلة من الأتراك يعرفون أن هندسة الفضاء الجوي الخاصة بهم هي على بعد عقود في أحسن الأحوال من بناء طائرات الجيل الجديد”.
وكانت شركة توساش تهدف في البداية لتسيير الطائرة “تي.إف – إكس” لأول مرة في العام 2023، وهو الذكرى المئوية للجمهورية التركية. وهي تتحدث الآن عن 2026/2025 لأخذ نموذج أولي للطائرة من الحظيرة. وهذا الموعد النهائي ليس واقعيا أيضا، بحسب الباحث التركي.
ويقول إنه في الواقع لا تزال “تي.إف- إكس” في مرحلة التصميم قبل المفاهيمي، وبعبارة أخرى لم يتم تصميمها بعد، لأنه لا يمكنك تصميم طائرة مقاتلة قبل اختيار المحرك الذي سيشغلها. ولا تملك تركيا تكنولوجيا محركات الطائرات، لكنها تدعي أنها تطورها. وهذا الادعاء أيضا هو للاستهلاك المحلي.
ويؤكد أن كبار مسؤولي أردوغان يقوضون أنفسهم عندما يحاولون إقناع الرأي العام بأن صناعة الدفاع المحلية في تركيا تصنع المعجزات في تكنولوجيا الطائرات المقاتلة.
وفي مناظرة تلفزيونية جرت مؤخرا، أخرج مسعود كاشين، أحد كبار مستشاري الرئيس التركي ما يشبه طائرة صغيرة من جيبه وعرضها على الكاميرات، زاعما أن “هذه ستكون الطائرة المقاتلة الوطنية المحلية في تركيا”.
وعمل النظام التركي على تعليق خططه لتفعيل نظام صواريخ “إس – 400” خوفا من فرض المزيد من العقوبات الأميركية، في الوقت الذي يعاني فيه الاقتصاد من تدهور بسبب سوء السياسة الاقتصادية لأردوغان وتداعيات أزمة كورونا.
وعلى الرغم من أن الهدف الرسمي لتفعيل نظام الدفاع الجوي الروسي كان في أبريل 2020، إلا أن الجيش التركي يبقي على منظومة “إس – 400” معطلة، وهذا يعني أن أنقرة دفعت مبلغا كبيرا قدره 2.5 مليار دولار لموسكو مقابل نظام ربما لن تقوم بتفعيله أبدا.
وسخر السفير الروسي لدى أنقرة أليكسي يرهوف من تردد تركيا في تفعيل المنظومة الروسية عندما قال “هذه عملية بيع. لقد استلمنا أموالنا ويمكن للأتراك ركوب الصواريخ للذهاب إلى الشاطئ أو لحمل البطاطا معهم. هذا ليس من اهتماماتنا”. وكان ذلك محرجا للغاية لتركيا، وفقا لبكديل.
لكن العرض مستمر. وفي 21 يونيو الماضي، قال إسماعيل ديمير المسؤول الأول عن المشتريات الدفاعية في تركيا “إن قضية الصناعة الدفاعية قضية بالغة الأهمية في الدبلوماسية”.
ويقول بكديل إن ديمير كان محقا في أن استحواذ تركيا على بنية الدفاع الجوي الروسية التي تبلغ قيمتها 2.5 مليار دولار، وعدم قدرتها حتى على تفعيل المنظومة، وعواقب هذا الاستحواذ هي أمثلة نموذجية على كيفية إساءة التعامل مع صناعة الدفاع في الدبلوماسية.
ويقول محللون إن تركيا لديها نقص في الطيّارين القادرين على الطيران بجميع الطائرات التي تمتلكها نتيجة لعمليات التطهير الكبيرة التي لحقت بصفوف الجيش في أعقاب محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو 2016، لكنها أيضا تعاني الكثير لتحديث طائرات “إف – 16” وهي العمود الفقري لسلاحها الجوي.
العرب